خطاب المستشار – عمار طاهر

 

 

 

خطاب المستشار – عمار طاهر

تسود في كل حقبة تاريخية ألقاب معينة ذات وهج فوسفوري جاذب يخطف الأبصار، إلا أنها تفرغ أحيانا من محتواها، وتغدو منزوعة المضامين، لتصبح مرادفة لصورة ذهنية تعبر عن القوة المفرطة أو البؤس الشديد، بحيث يؤكد بعض المنظرين أن مثل هذه الألقاب الرائجة ممكن إن تصلح مفاتيح لقراءة ظواهر اجتماعية وسياسية في عصر ما.

وفي أيامنا تسود مفردة (مستشار) الكلمة التي يتم تداولها على نطاق واسع، وتطلق على العالم والجاهل في آن واحد، بعد أن تحولت إلى منصب يحلم به الباحثون عن الجاه والرواتب المغرية، ليفقد الموضوع برمته الجوهر، ويضحى مجرد مظهر، لذا بتنا لا نكترث لأقوال أي مستشار لأنه في الحقيقة لا يستشار مطلقا.

بعض هؤلاء المستشارين بحاجة الى قراءة كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع لأخذ الحكمة من أفواه الطيور، أو يطالع ما كتبه لافونتين على ألسنة هذه الكائنات الرائعة، أو يطلع على” منطق الطير” لفريد الدين العطار، أو” الحيوان” للجاحظ، ويتعلم أن يعبر بأصدق لسان وأجمل بيان عما ينفع ولا يضر، فتأتي كلماته واقعية، وعباراته منطقية، تلمس الجرح، وتصف الدواء، بعد ان استشرى الداء، وأشرف الوطن على الوداع، فهو في النزع الأخير.. ان كانوا لا يعلمون.

 نستغرب أحيانا ونحن نقرأ خطابا لمستشار تحتشد فيه المفردات المنمقة كلها، لتجميل واقع رديء، انطلاقا من ثنائية الموت والحياة، فبغداد يجب أن تذوي لتبعث من جديد، في متوالية تاريخية بلا نهاية، عنوانها القتل والخراب.. تُستهدف دورها، ومدارسها، وجوامعها، ومستشفياتها.. فتشيد من جديد، وكأنها تعيش في دوامة التيه والعـــدم

زيارة البابا الناجحة ببعدها الديني وإثرها الحضاري لم تلغ مأساة العاصمة، وهي تتربع على عرش الاسوأ عالميا، اذ تكاد تلامس القاع بالترتيب، فإكساء شارع، او فتح زقاق، او تنظيف محلة يصادف حظها الطيب درب الحبر الأعظم، لا يعني ان بغداد تنفض غبار الماضي، وتستعيد ألقها، وتسترد عافيتها، وتستقطب علمائها ومفكريها.

لقد سخر الناس من الحلول الترقيعية، والمعالجات المؤقتة، وعبروا عنها في شبكات التواصل الاجتماعي بشتى الصور ومقاطع الفيديو.. بعضهم ناشد البابا فرنسيس البقاء مدة أطول في بلا ما بين النارين لتصل الخدمات الى مناطقهم، وتلتفت الجهات المعنية الى طرق الموت المملوءة بالمطبات، والجسور الآيلة للسقوط فوق رؤوس العباد.

المستشار يظن أن انتشار الظلم، وتفشي القهر يولد الابداع، وهو خطاب يناسب الفرد في العصور المظلمة، ويتناقض تماما مع أفكار تهدف إلى بناء دولة حديثة، فالبلدان لا تبني على وفق نظرية (الفزعة)، وايقاد الحماس، وحث الناس بشعارات ما عادت تصلح او تنطلي على الشارع المثقل بالهموم والأزمات.

المستشار لاسيما إذا كان عالما ومثقفا يجب ان يكون حكيما في النصيحة، صادقا أمام نفسه، لغته واقعية وليست مجرد جمل براقة خارج السياقات الموضوعية، فهو امام مسؤولية كبيرة للحفاظ على ما تبقى من العراق بعد أن.. غاب العمل، وحلت البطالة، وقل المال، وشحت الفرص، ودب اليأس في قلوب البشر والحجر والمخلوقات جميعا.

مشاركة