خربة يعقوب
محمد الأحمد
قال إبنُ عميّ ــ بقيتْ تصلنا أخباركمُ أولٍّ بأولْ..
تزامنتْ حادثة نَهِبَ بيت يَهْودَه ، وتفريغهِ من محتواه خلالَ فترة دعوة والدي لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية. اذ بقيّ غائباً عن المحلة لأكثر من أربعين يوم، دون اجازة يوم واحد. حتى دفع البَدل النقدي، وعاد حرّاً، وفرحاً وتفاجأ بالذي أخبرتهُ به جدتي بأن بيت يهوده نُهبْ. كأن ضحكته تيّبستْ، وفرحه تحول الى حزنٍّ مَقيت، إذ ندمت كثيرا على تعجلها بأخباره، ذلك.
فأكدّت لها عمتي اولاً وآخراً سوف يَسمع به من زملائه العاملين في دار السينما .
تركَ طعامه جانباً، وقال
ــنزلت من سيارة الاجرة امام باب البيت فلم ألحظ ايَّ كسرّ في قفل بابه الخارجي؟
ثم خرج مغتاظاً، وأوصاني ان لا ألحقه بالرغم من اني لم اجرؤ ابداً على خطوّ خطوة واحدة دون اشارته. لكني صعدت الى شجرة التوت العالية التي تتوسط بيتنا المتواضع، نافذتي على العالم الخارجي ، ورحت أتابعه بنظري وهو يُزبد، ويُرعد هائجاً، ولا ندري كيف سيتصرف بعد ان اقسم بان لا يفوّت الامر على منتهك الحرمة، فمن المستحيل اعادة الأغراض من الناس. لكن لابدّ من معرفه الفاعل الأول، ويعاقبه. كيف تجرأ واقتحم حرمة جاره. ففي ذلك اليوم صعدت جدتي الى سطح دارنا ومعها أمي و عمتي ، لمعرفة ما يحدث؛ اذ حدثت جلْببة، وهيّاج، في المحلة. دفعهم الفضول، لمشاهدة الناس وهم يعبرون السور، ويخرجون محملين بالأغراض، والأواني. اما انا فقد تعودت في غيابه ان اصعد الشجرة، كلّ يوم، و أشاهد ما يحدث، بكلّ وضوح. تزاحم الصعود على التنور الفخاري، وسرعان ما تهدم تحت ثقلهم، وثقل الاغراض التي يخرجونها من عمق البيت. فمنه الى سطح الغرفة، ومن سطح الغرفة عبر الثقب إلى عمقها، ليعودوا بغنائم حسبما كانوا يعتقدون حلال كلّ ما تركوا من ممتلكات . ويعود كل حامل بحمله، واغلبهم كان محتارا. ماذا يخرج، وماذا ينقل. بقيّ الحدث الجلل لأكثر من ثلاثة ايام. نهبوا فيها ما استطاعوا. فثمة ثقب للتاريخ ضيق لم نستطع عبره معرفة ما حدث وراءنا. التاريخ هو مسيرة الوقت الذي يتحدث عن الوقائع. رؤية عكسية كأنما بواسطة مرآة صغيرة.. نستطيع ان نرى بها ما يجري خلفنا، فضول يدفعنا لمعرفة ما جهلناه، وخاصة ما كان مُدعمّاً بالمنطق دون الخيال فكل حكاية يتخللها الخيال تكون ناقصة، بلا الثبات أوالموضوعية.
لذلك بقي يبحث مستقصياً لإيجاد الحلقة المفقودة. بقيت المحلة كلها متورطة، بتلك القضيّة. وكأنما سؤاله عن ذلك الشأن الذي حدث في غيابه.. بقي بحافة حادة، حافة جارحة، فالمتورطون من المحلة يخافون الجواب، ويخفوه بانكسار. يتهربون من مواجهته كسؤال قاس ومؤلم. بقيت الالسن مخبأة تحت الندم، تتوجس الحذر، من الشأن، الشائن، المُعيب. خائفون من الاتهام، والذنب. فلابد من شجاعة، مليئة بالمعرفة لمُعاقبة مُرتكب اثمّ انتهاك حرمة الامانة. فالبيت الذي بناه يعقوب وأبناءه الثلاثة، منذ اكثر من عشرين سنة، كبيت آمن مكوّن من طابقين، بصالتين وسبعه غرف نوم. مُلحق بحديقة كبيرة. تسرّ الناظر، وتشرح الخاطر، تفوح منها ليلا رائحة ورود الشبوي الطيبة. فالأرض التي بنيّ عليها البيت، كانت جزءا من بستان كبير يملكه والده بشير جدّ يهوده ، وقسمّها بينهم، بالتساوي قبل موته. بُنيت تلك الغرفة الملحقة كمخزن للخل، والطرشي. حسب رغبة الجدة حسيبة ، فيها جرار اخرى لحفظ اللحم المقدد، وبقية المواد التي تقبل التخزين. جيدة التهوية فيها اكثر من منفذ صغير للهواء، لا يسمح بمرور فأرة صغيرة. ولها بابان تتصل الاولى بالحديقة من الخارج، والثانية، بالبيت من الداخل. فالخروج من البيت الى الحديقة، او من الحديقة الى البيت، عبرها. كانت الحديقة اشبه ببستان صغير فيه اشهر أنواع الكروم، تتسلق عرائش العنب منشورة على مشبك من الأخشاب، عُمل بعناية ودقّة لتخيّم كمظلة تحتها ارجوحة حديدية مصبوغة باللون الأبيض، ثابتة راسخة بالأرض وغالباً ما تكون كل يوم بفراش نظيف، يتناسق مع الوان ورد جوري منوّع، وموزع بانتظام على مساحة الحديقة التي تزيد مساحتها على مساحة البيت بخمس مرات، لتكون مكانا يكثر الجلوس فيه يهوده بصحبة كتاب ما، لا يفارق يديه. تناسقت في الحديقة الخلفية كل الاشجار، مع كل انواع ورد الجوري الذي يهواه حسقيال . الذي تفنن بتركيب كل غصن ورد بلون من الشتله الواحدة. ونتاج تركيبه بعض على بعض ليخرج الوانا ليست مألوفة، يشغل البيت خُمس المساحة الكلية. اما بقية المساحة حوت على عددٍ من كل أنواع الحمضيات، ترتكن تحت نخيلّ عالّ متسامق، لنخبة من اجود انواع التمور. وايضا اجود اشجار الزيتون الدائم الاخضرار. كذلك هناك حوضان صغيران الاول فيه ماء وبجانبه حوض اخر فيه طين. يشغل كل منهما مساحة اكثر من مترين مربعة، مسيجان بطابوق حجري أخضر الاول حوي مياه معدنية، يجلبونها لهم في حاويات من سلاسل حمرين والثاني لخلطات الطين الغريني، حيث يحضره لهم شخص موثوق به من عمق نهر ديالى . فيكون المخلوط وفق نسب خاصة بمحلول ملحي يستخدم لعلاج مختلف الامراض الجلدية. كذلك تفيدهم في صنع أدوية اخرى فكل شخص من العائلة كان متخصّصاً في تطبيب مرض ما، وهاوّي مبتكر، يبرع في استخراج ادوية ناجعة تفيد في معالجة ما استعصى على اطباء غيرهم، فيقصدونهم من كل ارجاء المعمورة. لطلب العون فيجد كل محتاج جوابا لسؤاله بلا مقابل. ولا يقبلوا بأية هدية حتى بعد الشفاء. انا ابرزت نذري الى الله ولا سبيل الى نكثه[1]”، و الذي يعطيه الله وحده القادر على أخذه ، دعوة متألم تزيد الرزق، بسم الله ابداً ، محبة الله اجابة سؤال . كانوا يهتمون بكل قادم، وكل سائل. فتذكر جدتي لامي
ــ حسيبة جدتهم رحمها الله، اوجدت تقليداً سنوياً في كل موسم كانت تصنع كمية كبيرة من الطرشي الممتاز من محصول كل موسم، لتوزعه على الجيران كافة .
كان باب البيت الخارجي الرئيس يقع على الشارع العام، مباشرة. وهو طريق تجاري يربط ما بين بغداد خانقين قصر شيرين طهران . فبعقوبة مدينة عتيقة كان فيها اكثر من خان في قديم الزمان. محطة استراحة المسافرين، وخيولهم. اغلب المصادر تكتبها يعقوبيا ، وعرفت فيما بعد بـ بعقوبة شمال شرق بغداد، ويرجع تاريخها إلى ما قبل الفتح الإسلامي. وفيها اقدم معابد اليهود، وتشتهر فيها زراعة أنواع الحمضيات بالإضافة لزراعة النخيل، والعنب. يمرّ فيها جدول خريسان ، ويشطرها الى تكية و سراي ليصبّ في نهر ديالى جنوب بعقوبة قرب قرية بهرز . النهر الان ــ حُجبت عنه مياهه من المنبع، وصارت في عمقه غابة أدغال، وتفوح منها رائحة الاسن. ارتفاعها 46 م عن سطح البحر، وتقع على بعد 57 كم في شمال غربي بغداد. كان يمر بها قطار بغداد ــ كركوك ، وفيها محطة قطار بناها الانكليز وزيلت السكة في منتصف ثمانينات القرن الماضي.
قال إبن عمي بقيت تصلنا اخباركم اول بأول…
بقيّ أبي يرفض بإصرار فكرة ان اول الداخلين الى البيت من سقف الغرفة الخارجية الملاصقه للبيت، رفض لأنه كان يعرف معرفة قاطعة بان من المستحيل ان يكونوا قد نسوا قفل الباب الداخلية التي كانت بينها وبين البيت. ويدرك بحكم تعامله المباشر معهم، بأنهم حسموا أمر الباب التي كانت نقطة ضعف من السهل عبورها، لذا دُعمّتْ برتاج يغلقها من داخل البيت، ولا يقل حجمه عن الرتاج الذي يقفل به الباب الخارجي من الداخل، وخاصة في الفترة الاخيرة. فباتت تلك الباب من المستحيل عبورها. كان يهوده شقيقهم الاكبر يتأكد من قفلها، بدقة، فخلف تلك الباب باباً اخرى تصل الى الحديقة الخارجية.
ــ أية حكاية، ومهما تعددت مصادرها، ومهما اكدها الآخرون فإنها دون شك تصدق لبضع الوقت، ولكنها لن تصدق لكلّ الوقت. فهناك من يمرر الحكاية، بل ويتشربها ــ مؤقتاً بكل جوارحه، مضيفاً لها من خياله، ويقسم بأنه رآها بعينه، وكأنه شاهد عليها، وليس سامعاً، وناقلا لها.. لكنها تبقى حكايته غير مقنعة، ككذبة مكشوفة، متحولة الى طرفة، تدور بين جلاس المقاهي للتندر والسخرية .
بقيّ أبي يُشدد قائلا بأن السقف حتى وان خُرق لا يمكن لأي شخص مهما كان، ان يدخل البيت، وان دخلها، فهناك باب حديدية مغلقة من الداخل برتاج حديدي، ومن المستحيل عبورها ما لم يكن احد قد فتحها له، فلا يكون الدخول إلا من الباب الرئيس، وليس من المعقول ان يكون الشيطان دخلها دون ان يمسّ اي قفل من اقفالها على الاطلاق.
بقيّ يتسائل محتاراً؛ من هو الداخل الاول وكيف دخل. فمن المستحيل دخولها دون كسر لقفلِّ، او خلعِّ لباب، او شبّاك. فغرفة المونة ، بقيت بابها مقفولة بقفلها، على حالها، ولم يكن عليه اي اثر لعبث عابث، من المستحيل ان يكون هناك مالكاً اخراً للمفاتيح بكل الاحوال غير اصحاب البيت . فحالة الرعب التي كانوا يمرون بها واضحة وطابعة على تصرفاتهم، خاصة في الايام الأخيرة قبل الرحيل. لم يؤمنوا مفاتيح البيت لأقرب الناس، خشية ان يفتضح أمر سفرهم الذي قررّوه على وجه السرعة، ولأجل ان يفوتوا الفرصة على من يحتمل بان يكمن لهم في الطريق، او ما شابه. حدثت حوادث كثيرة، وكثرت في الجوار، ففي كلّ مرة تستهدف عائلة، وكانت الأخبار تصلهم يوما بيوم. فحسموا الرحيل مؤقتا، حيث لا مناص من ان يحدث حادث مشابه قد لا تحمّد عواقبه. قفلوه بإحكام على ما فيه، وهربوا في ليل حالك. وهم على يقينّ شبه تام، بان هذه الفترة الحرجة سوف تعبّر، ولابد ان تعود المياه الى مجاريها، ثم يعودون آجلاً ام عاجلا الى بيتهم. فالبيت سيبقى مُقفلاً، ومُحصّناً بسوره العالي ومن الصعب الدخول فيه، دون مفتاح الباب الامامي. وفعلا بقي مقفولا على ما فيه لعدة أشهر، دون ان يجرؤ ان يحاول احد الدخول. هربوا خوفاً من اعتداء محتمل ، وللبيت رب يحميه.
وكان الاخوين يعشقان الرسم وقد درس الاكبر في ايطاليا، وجلب معه العديد من اللوحات الرائعة التي تعدّ نسخاً بالغة الدقة عن لوحات شهيرة في غاية الجمال. سبق ان قال ابي بأنه شاهد لوحات فنية نادرة وغالية الثمن معلقة على جدران البيت.
اتذكر باني لاحظت احدى جارتنا استخدمت واحدة في تدعيم سقف قنّ دجاج، و اخرى استخدمها فراش مدرستنا الابتدائية كمسند ويضع فوقه بعض اواني في الحانوت الذي كان يبيعون فيه الخبز المغمس بالعنبه للتلاميذ بين فرص الدروس الخمس. ولم اذكر ذلك لأي احد من اهلي. مخافة ان يلزم والدي التوتر والضيق كلما يتطرق احد للحادث.
ــالخطأ الفادح بأنهم لم يثقوا بأحد ما يؤمن لهم البيت .
كما بقيتُ متكتماً على رؤية بعض الاولاد يشكلون سلكا ويدخلونه في الثقب الذي يتوسط مركز الاسطوانة الموسيقية، لتكون لعبة يركض بها، كأنها عجلة دوارة، ويدحرج بها على الارض. وجارنا الاخر علق رقعة على باب بيته ظنا منه بانها آية من القران الكريم.. امطر الله على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من السماء[2]
قال بن عمي بقيت تصلنا اخباركم اول بأول…
توصل الى معرفة كيفية الدخول الى البيت بدون مفتاح، وكيفية اختراق تحصيناته العصية. اذ بقي سرّا عصيّاً على الكشف لأقل من أسبوع بعد عودة والدي من الخدمة العسكرية. وشى بالفاعل ابن عمه الذي اختلف معه في قسمة الطيور .
ــ جودي صبي الحلاق عبداي .. اول الداخلين ..
جاء به مكبلاً مدميّاً. وربطه الى جذع أكبر شجرة يوكالبتوس قرب مقبرة اليهود[3]، واقسم ان يتركه حتى الصباح مع الجن والعفاريت والأرواح الشريرة التي كانت تسكن المقبرة، وتتصاعد منها الاصوات المخيفة ليلاً. ان لم يعترف كيف تمكن من فتح البيت دون ان يكسر منه قفلاً، فتبينت الحلقة المفقودة لكيفية الدخول.
تسلق الحائط العالي بواسطة حبل رماه اكثر من ثلاثة رميات على رقبة مدخنة الحمام حتى تمكن منها ثم صار يصعد بواسطة الحبل حتى السطح العالي، ومن هناك جلب حماماته الداجنة التي علقت هناك، بواسطة مشبك.. اصحطبه معلقاً في حزامه. ثم شكل ريش اجنحة الحمام بدبابيس كان يشكلها في دشداشته، ولا يتخلى عن حملها اي مطيرجي . بعدها رمى الحمام الذي بات عاجزاً عن الطيران، وزيادة في الاحتراز وضع الحمام في داخل المشبك.. ثم ربطه بالحبل وادلاه الى ابن عمه، واكتشف بان الحبل محزوز ولن يستطيع النزول بواسطته. خاف وبقي محتاراً كيف سينزل بعد ان صعد بعناء. ولم يجد باب السطح الخارجي مفتوحة كما كان يتوقع بل مقفلة من الداخل، حتى استبّد به اليأس اكثر فكيف ينزل الى باحة البيت، ويجد منفذ للخروج من مأزقه. ولم يجد سبيلا امامه غير شجرة السدر العالية التي صعدت من قلب البيت ومدّت بغصنها قريباً من السطح، تأكد من ربط دشداشته حول خصره جيدا، ثم تراجع بضع خطوات وقفز بقوة الى غصن الشجرة حتى امسك به جيداً، من بعد ان تطوح به يميناً ويسارا حتى استقرت قدمه على الغصن القوي، الآخر ثم امسك بيده اخرى فاستعاد توازنه على ذراع الشجرة الهائلة ذات الجذع المتين، كانت لفات أوتارها كأنها عضلات متينة بارزة، ومضلعة، طرف منها مكسور فصار اشبه بمقعد استجمع عليه قواه. ثم اكمل النزول، واضعا احدى قدميه على تفرعاتها، واحدة بعد اخرى. ثم هبط بيسر، مثلما يهبط من اي شجرة بعد ان وصل الى مسافة قدرها قريبة، فقفز الى الأرض. واجهه ورقها المكوّم على الارض. وقد اسوّد متراكما فوق بلاطات الحجر الجيري. احدث صوت ارتطام قدميه بالأرض.. صوتاً عالياً، جعل القطة البيضاء التي كانت تنام على غطاء البئر المستقر تحت الدرج، تفزّ، وتطفر من مكانها الآمن، متوجهه نحوه مفزوعة تودّ الإفلات منه، والمرور من جانبه بسرعتها القصوى. فارتعب منها، اشدّ الرعب، وكاد قلبه ان يتوقف من الخوف، فهو لم يرّ قطة مثلها بياضاً ظنّا منه بأنها عفريتاً شريراً، طويلاً، عريضاً.. سوف يعاقبه على ما ارتكب من اثم، فلم يستطع ان ينظر اليه بتركيز، كما لم ينظر حواليه حتى طفر بكل ما عنده من قوة.. نحو الباب التي كانت امامه.. ففتحها ظنّاً بها سوف تخرجه الى الخارج، وبعد ان فتحها وجد نفسه في غرفة طويلة تقع في نهايتها باباً اخرى، فغلق الباب خلفه، بكل ما اوتي من سرعة، فالرعب الذي غمره، كاد يشله، فما ان وصل الى داخل الغرفة اسند ظهره الى الباب وراح يستعيد انفاسه تدريجياً، وحطت نظراته على الباب الثانية وجدها مقفلة بقفل كبير.. احس بيأس اكثر وحيرة اكبر، من اين سيخرج؟. فصاح بهستريا على ابن عمه الذي كان يُصفّر له، ليعرف اين وصل به الحال، فاجابه بصفير متقطع خائف، فعرف بانه بالضبط قد اصبح تحته، في الغرفة التي صعدا على سطحها، وتركه في انتظاره. فصاح مستنجدا به يسأله ــ ماذا سأفعل وكيف اخرج . كانت ثقوب التهوية توصل الصوت حتى ولو همساً، فاقترح عليه ان يعود الى البيت ويجلب له حبلا آخر، وعليه ان يعود الى السطح لكنه رفض متوسلاً ان لا يتركه وحده في الغرفة.. فخلف باب البيت ترك جنيّاً، وركض وراءه. وبقي يقسم له بأغلظ الإيمان بأنه رآه بأم عينه، ومن المستحيل ان يفتح الباب ويخرج الى فناء البيت، فتعاطف معه ابن عمه، وراح معه يفكر في كيفية اخراجه من الغرفة، جال ببصره في الارجاء. تفحص المكان جيداً وهو يدرك بان لامناص من خروجه الا من هذه الغرفة التي بدت فيها الرؤية واضحة، جدرانها مبنية من الطابوق الاصفر، المطلي بالكونكريت، لتبق درجة الحرارة فيها متعادلة، كونها في ظل النخيل العالي، وسقفها من اعمدة خشبية، غير متقاربة، وبابها المطل على الحديقة من الفولاذ القوي. مجموعة اكياس تمر خستاوي مكبوس ، مجموعة براميل برميل فيه اكياس رز ، برميل خلّ ، نصف كيس طحين ، حزمة ثوم كبيرة مدلاة من السقف، يحملها مسمار ، مجموعة صناديق صندوق خشبي فيه بصل ، وآخر مثله فيه بطاطا ، مجموعة علب زيت في علبة صغيرة ، زيتون محفوظ بماء مالح . سمسم ، بقوليات متنوعة .. الخ. وما ان شاهد معولاً ومجرفة وفأس، ومطرقة، ومجموعة كبيرة من المفكات المتنوعة الاحجام. كلها معلقة بنظام ومثبة على الحائط كلّ بحجمه. ومختلف الالات التي لم يشاهدها بحياته.. حتى صرخ ــ انزل لي فسأفتح نافذة الباب الصغيرة وأناولك منها المعول . سنحفر السقف انا من تحت وأنت من فوق، اتوسل إليك وسوف ألاقيك . وناوله المعول المسنون من شباك الباب الصغير، ثم حددا مكان الثقب، وراح الاثنان يعملان لتقويظ السقف. حتى تلامست المجرفة ذات العمود الطويل، بالمعول المسنون، حتى صار الثقب؛ فصارت فتحة اشعة الشمس تدخل تدريجيا في عمود من الغبار، وكان الذي في الاسفل يعدد لابن عمه، ما يراه، بإغواء.. ما يمكن ان يحملاه من الغرفة من حبوب ورز تكفيهما لسنة او تزيد، فكان الذي في الاعلى لا ينقطع لحظة عن الحفر. وكان الذي في الاسفل يسعى للخلاص من كابوس يحيط به، اما الثاني فكان يجتهد لينال المزيد من الوعود، صار الواحد منهما يسعى ليحظى بما يريد الآخر ومحققا لنفسه غايته. ثمة نهج واضح صار ينطلق بهما، واحد لا شيء سواه، والوقت يتقدم، حتى كبرت الفجوة. فنزل الضوء، فتصافحت اليد بالأخرى، وسحب كل منهما الآخر. كان الاول يريد الخروج سريعاً، ويجدد هواءه وكان الثاني يريد النزول سريعاً، ويحصل بما وعد به. الاول يريد ان يستعيد حريته، والثاني بقي يريد ان يحقق ما فيه من جوع وفضول. لا اقدر على سحبك الى اعلى وهكذا نزل اليه، فالنزول في كل احواله اسهل بكثير من الصعود. نزل له من الثقب الذي احدثاه. مكتشفاً ما في غرفة المونة من مونة، وصارا فرحين بما وصلا اليه معاً. فالمكان الذي كان فيه الاول مرعوباً اصبح اكثر أماناً، ولكن اي منهما لم يجرؤ على النظر الى الباب المغلقة على البيت، واكتفيا بما صار اليهم. وراحا يأكلان بنهمّ ما وقع بين ايدهما ما يصلح للأكل. بعدها تعاونا على سحب برميل كبير الى تحت الفتحة واخر صغير فوقه، ثم قلبا صندوق البصل على الارض، فاحت رائحة البصل الفاسد فملأت المكان، نتانة. وصارت لهما ثلاث درجات تصل بهما الى اعلى. بعدها حملا اكياس غنائمهما. ثم صعدا الاول يتبعه الثاني وناوله الأكياس بفرح غامر.
لم تمضّ ساعة حتى ثم جاء بالمشترك الواشي، مكبلاً ايضاً يحمله على دراجة هوائية ، وما ان شاهد ابن عمه مربوطا الى الشجرة، مدميّاً. حتى خذلته قدميه وجثى على ركبتيه متوسلا. طالباً الرحمة. فقال له بصوت متحشرج اريد منك ان تحكي الحكاية من أولها ، وبدأ بحكي الحكاية التي تطابقت، واختلفت ببعض التفاصيل الصغيرة.
نقلا الاكياس المليئة الى خارج سور الحديقة، فالوحيد الذي شاهدهما ينطّان من سور الحديقة هو حسن شكرية ، فطلب ان يشاركهما بحجة اولاده صغار ويجب ان يطعمهم ، رفضا اعطائه شيئاً، اول الأمر، مما يحملانه، ولكن سرعان ما قررا ان يعطياه القليل من الرز غير المطبوخ مع قطعة من اللحم المقدد. وتركوه داخلين الى بيوتهم وراح هو راسخاً في الدربونة حالماً كالمنتصر، حيث لم ترضه الغنيمة الصغيرة. كان الوقت قارب العصر المتأخر. ولم يكن بغباء من يتلبس بقية الحكاية، لوحده. فذهب الى علي خولة ، واخبره بما رآه، وما حصل عليه من غنائم، فجاء معه ليرى ما وراء السور، فلم يصدق حكايته، وإنما اخذ معه سليم فضحية اذ كان جريئاً ولا يخشى عواقب فعاله، وتخطيّا معا سور الحديقة من امام الزاوية التي كانت تشرف على الدرب الذاهب الى محطة القطار، وهذا ما شجع بعض المارين على العبور خلفهم، بكل فضول لرؤية ما يحدث، وجدوا باب الغرفة التي تدخل الى البيت، مقفلة، ولم تكن حيرتهم طويلة. بعد ان شاهدوا نصف كيس رز مفتوقاً متروكاً قرب التنور، ونصف اخر كان باقيا على السطح القريب. فصعد احدهم حتى شاهد الثقب، وصاح بالباقين الثلاثة وكأنه وجد الكنز. ثم نزل من الثقب الى الغرفة وراح يفعل مثله البقية، وجدوا الباب الذي يدخل الى البيت مُرتّجاً من جهتم، اقتحموها بكل جرأة فالبيت خالّ من أهله، ودخلوه الاربعة، وصاروا خمسة، وستة، وسبعة، وثمانية، وهم يجولون في عمق البيت غرفة غرفة. وحمل كل منهم ما تقع عليه يده، يكون ملكه، حلاله.. صارت الناس تتوافد الى البيت الذي عمّت فيه فوضى عاصفة، وغبار سقيم. فالزحام إستنفد الاوكسجين. وصارت الايدي بمختلف الاعمار تتشبث بالأشياء، وتنقلها الى الخارج بدون حساب، وكأن البعض لا يعرف البعض، وصارت الايدي القوية هي التي تأخذ ما تشتهي. صارت العيون في ذلك العمق.. لا تلتق بالعيون؛ بل تتفرس في الاشياء التي لم تحتجزها يَدْ، حيث تصلّبت الايدي على الأغراض، والاثاث. ثم صارت تنقلها الى الخارج، وصار الثقب الذي خرج منهم اول اثنين.. اتسع، وصار يخرج منه اربعة والأربعة اخرى تلاقيها اربعة اخرى داخلة، فتصاعد توتر، وغبار محموم. لم يهدا ابدا؛ اذ اخذ ثقلت بالاشخاص الصغار والكبار المتزاحمين للدخول، فلم يحتمل سطحها فأحدث ازيزا متوجعاً. كشهقة الموت. حتى نزل السقف منتحراً الى الأرض. فاللذين كانوا في الاسفل ولم يشكو اي منهم من الأذى، كحادث عابر لا يُعيق احد عن عزمه. بكل برودٍ ازاحوا مكونات السقف جانباً. توسع الطريق اكثر. ظلوا منهمكين في نظام متواتر، كالنمل الذي امسك فريسة وقد خدرها؛ من بعد عناء. اخوة واخوات، صغار وكبار كلهم مستنفرون في نقل الأغراض، وصار سور الغرفة ينسحق تحت نعالهم طابوقة تفتت الاخرى. حتى تقزّم السور، بعد ان عبرت من فوقه كل الاشياء الى مستقر اخر. وبفعل الثقل تهدّمت، وتحولت الى تلّة من بعد ان وتهدّم ما تهدّم، وانهارّ ما انهارْ، فالأمر قضي بلحظة واحدة اذ ضربته حشرة القتعة القاهرة وابتلعت محتوياته، كلها، حتى التي لم تكن تلزمها كطعام.
بقي ابي يستمع اليهما بألم بالغ. ثم بلحظة غير متوقعة، فتح لهما قيدهما، وتاركاً كلّ منهما يذهب الى حال سبيله دون ان يفيَّ بالعهد الذي قطعه على نفسه، بعقابهما شرّ عقاب.
AZP09