حاورته : ضحى عبدالرؤوف المل
في عالم الترجمة الأدبية، حيث تتلاقى اللغات والثقافات وتتصارع الذائقات، يظهر المترجم كحلقة وصل جوهرية بين النصوص الأصلية والجمهور الجديد. ومن بين هؤلاء المترجمين الذين أضافوا بصمتهم الخاصة في هذا المجال، يبرز خالد الجبيلي، الكاتب والمترجم الذي جعل من الترجمة أداة للربط بين عالمين هما عالمه الشخصي ككاتب، وعالم الأدب العالمي الذي يترجمه إلى العربية.
خلال سنوات طويلة من العمل الدؤوب، قام الجبيلي بترجمة العديد من الأعمال الأدبية والفكرية، متمسكًا في كل مرة بمسؤولية نقل النصوص الأصلية بأمانة، وفي الوقت ذاته، مراعاة خصوصية الذائقة العربية. لكنه، مثل العديد من المترجمين المبدعين، لا يرى في الترجمة مجرد عملية تقنية بل فعلًا إبداعيًا يعكس رؤية ثقافية ويعيد خلق النصوص بشكل يناسب كل ثقافة بلغة جديدة.
في هذا الحوار، سنتعرف على رؤيته الشخصية حول الترجمة كمهنة وفن، وتحدياتها في العالم العربي الذي لا يزال يشهد تحولًا كبيرًا في تفاعله مع الأدب العالمي. سنناقش أيضًا تأثير الرقابة الذاتية على عمل المترجم العربي، ودور الترجمة في إعادة تشكيل الهوية الثقافية، بالإضافة إلى العلاقة بين الكتابة والترجمة في مسيرة خالد الجبيلي.ومعه أجريت هذا الحوار
– كيف ترى تفاعل القارئ العربي اليوم مع الأدب العالمي؟ وهل تعتقد أن هناك رقابة داخلية لدى المترجمين خوفاً من “الذائقة المحافظة”؟
شهد المشهد الثقافي العربي في العقود الأخيرة إقبالاً متزايداً على الأدب العالمي الذي يمثّل نافذة واسعة على تجارب إنسانية متنوعة، وأصبحت أعمال كبار الكتّاب والروائيين والشعراء من مختلف الثقافات حاضرة على أرفف المكتبات العربية. لكن ما يزال تفاعل القارئ العربي مع هذا الأدب يتراوح بين الحماسة والحذر، يغلب عليه الطابع الانتقائي، ويتأثر اختياره غالباً بما يقدمه الناشرون من عناوين رائجة، أو ما يحظى بزخم إعلامي وجوائز أدبية. ومع ذلك، هناك رغبة متنامية لدى شرائح الشباب على وجه الخصوص في تجاوز حدود الأعمال “الكلاسيكية” واكتشاف أصوات جديدة متنوعة تعكس التحولات الإنسانية والثقافية في العالم.
مع أن الترجمة تُعد جسر العبور بين الثقافات، فهي تظل في العالم العربي محكومة بسياقات اجتماعية وسياسية ودينية تؤطر عملية الانتقاء وتحدد ما يمكن نقله إلى العربية. ويواجه المترجم العربي في كثير من الأحيان أسئلة معقدة حول ما إذا كان النص الأصلي “يُناسب الذائقة المحافظة” أو يتناول موضوعات حساسة تتعلق بالدين أو الجسد أو السياسة أو المحرمات الاجتماعية.
ثمة ما يشبه الرقابة الداخلية أو “الرقابة الذاتية” لدى كثير من المترجمين العرب ناجمة عن وعيهم العميق بالسياقات المجتمعية والرقابية للنشر. إذ يخشى البعض أن يتعرض عملهم للمنع أو التشويه أو حتى للمساءلة المجتمعية أو الإعلامية إذا نقلوا نصوصاً صادمة للقارئ التقليدي أو تخدش (كما يقال) الأعراف السائدة. وليست هذه الرقابة مفروضة من الخارج دائماً، بل تتسلل إلى عملية الترجمة كحساسية ضمنية في اختيار العبارات، أو حذف بعض المقاطع، أو إعادة صياغة ما قد يُعدُّ مثيراً للجدل.
لا تؤثر الذائقة المحافظة على عملية الترجمة فقط، بل كذلك على اختيار النصوص التي تُعرض على القارئ العربي. إذ يفضل كثير من دور النشر والمترجمين اختيار أعمال أدبية تتسم بقدر من “الحيادية” أو عدم إثارة الجدل، حتى لو كان ذلك على حساب التنوع أو القيمة الأدبية.
– كثير من دور النشر تطلب تنقيحاً أو حذفاً في النصوص… هل سبق ورفضت ترجمة نص لهذا السبب؟
يواجه المترجمون أحياناً طلبات من دور النشر تتعلق بتنقيح أو حذف أجزاء من النصوص الأصلية، فيضع المترجم أمام معادلة صعبة بين أمانة النص وضرورات النشر. لكنني لم أتعرض إلى موقف كهذا، ولم يقدم أي ناشر نشر ترجماتي على عمل ذلك.
– ما رأيك في اتجاه بعض المترجمين الشباب نحو “الترجمة الآلية” والتعويل على الذكاء الاصطناعي ؟ هل يهدد هذا فن الترجمة الإنسانية؟
يبدو أن العلاقة بين الترجمة الآلية والإنسانية ستتجه نحو التكامل لا الصراع. فالمترجم المحترف يدرك قيمة الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي لتسريع بعض المهام أو اقتراح مصطلحات، لكنه يعي في الوقت ذاته حدود هذه الأدوات وأهمية التدخل البشري لصقل النص وجعله أكثر أصالة وملاءمة للثقافة المستهدفة.
لكن هناك قيود جوهرية تحدّ من قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج ترجمة إنسانية حقيقية. ما تزال الترجمة الآلية تواجه صعوبات في نقل الجماليات الأدبية، والتلاعب البلاغي، والمجازات الثقافية، والأبعاد الشعورية التي تتطلب حساً عميقاً وخبرة تراكمية. إذ تعجز معظم الأدوات الرقمية عن فهم النصوص التي تنطوي على ترميز ثقافي أو دلالات خفية أو تناص أدبي بدقة، مما يؤدي إلى ترجمات حرفية أو مشوهة.
تستند الترجمة الإنسانية على ثلاث ركائز هي: الإبداع والمعرفة والسياق الثقافي. فلا يقتصر دور المترجم على نقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل يتعدى ذلك إلى إعادة بناء النص في لغة جديدة، مع مراعاة الفروق الثقافية والعاطفية، والحرص على الإيحاءات والإشارات الضمنية. إذ يتدخل المترجم الإنساني بموهبته في اختيار المصطلحات، ويعيد صياغة الأفكار بحيث تبدو طبيعية في اللغة الهدف، ويحافظ على هوية النص وروحه.
ولا يستطيع الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي، مهما بلغ من تطور، أن يحل محل الحس الإبداعي للمترجم البشري. يحتاج الأدب العالمي، والشعر، والنصوص الفلسفية، والمسرح إلى مترجم يتفهم حدود اللغة ومخزونها الثقافي، ويأخذ بالاعتبار ما بين السطور وما وراء الكلمات.
وفي النهاية، يظل فن الترجمة الإنسانية حياً ما دامت هناك نصوص تتطلب حساً ثقافياً وذائقة جمالية، وما دام هناك مترجمون يملكون الشغف لإعادة بناء العالم بالكلمة، متسلحين بخبراتهم ومعارفهم، ومستفيدين من التطور التقني كأداة تكميلية تعزز مكانتهم وتوسع آفاقهم.
– هل تشعر أحيانا أن الترجمة تعزلك عن الكتابة الخاصة بك؟ وهل كتبت يوماً شيئاً من تأليفك ولم تنشره؟
في رحلة الكتابة والترجمة، يمر الإنسان بتجارب متعددة قد تتقاطع أحياناً، وأحياناً أخرى تتوازى ولا تلتقي. كثيرًا ما يُطرح سؤال إن كانت الترجمة تشكل حاجزاً بين كتابة المترجم الخاصة وبين ترجمته، أو إذا كان المرء يشعر أحياناً بأن الترجمة تعزله عن صوته.
لا أعتبر الترجمة مجرد نقل للكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي عبور جسور خفية نحو ضفاف ثقافات جديدة. لذلك، فإنني أشعر حين أترجم، أنني أضع ذاتي في الظل لأفسح المجال لصوت الكاتب الأصلي ليصدح. في هذه اللحظات، تتشكل مسافة دقيقة بيني وبين ذائقتي الأولى: أراقب النص من بعيد وأتأمله بحذر كي لا أضيّع روحه، لكنني في الوقت نفسه أكتشف في نفسي مقدرة على الإصغاء والإبداع من نوع آخر. نعم، قد توجد عزلة مؤقتة، كأنّي أستأنس بصحبة كلمات ليست لي تماماً، وأتساءل إن كان صوتي سيبقى حاضراً أم سيذوب داخل النص المترجم.
كتبت أشياء كثيرة لا أرى أنها جديرة بالنشر، وأرى نفسي كاتباً في الأعمال التي أترجمها.
– كيف توازن بين أمانة النص الأصلي وجمال اللغة المترجَمة؟ وهل مرّ عليك نص اضطررت فيه إلى “خيانة جميلة”؟
حين يقف المترجم أمام نص أصلي، يجد نفسه واقفاً على جسر دقيق بين ضفتين: ضفة الأمانة للنص الأصلي، وضفة الإبداع وجمال اللغة في النص المترجم. فالأمانة تقتضي أن ينقل المعنى كما أراده الكاتب الأصلي، دون تحريف أو زيادة أو نقصان يمس جوهر الفكرة، بينما تفرض عليه جماليات اللغة المترجَمة أن يسكب العبارة في قالب حيّ يتنفّس بين يدي قارئ جديد، يختلف ذوقه وثقافته وأفقه عن القارئ الأول.
فكل مترجم يجد نفسه يوماً ما في مواجهة سؤال جوهري: إلى أي مدى يمكنه أن يلتزم حرفياً بروح الكاتب الأول دون أن يفقد النص في لغته الجديدة نبضه وحيويته؟
إن الأمانة للنص الأصلي ليست مجرد نقل للكلمات، بل محاولة لاقتناص الروح الخفية، والإيماءات، والنبرة، والمعنى العميق الذي قد تسكنه جملة عابرة أو كلمة مواربة. لكن في المقابل، تفرض اللغة المترجَمة إيقاعها الخاص، وطرائقها في التعبير، وطبائعها الأسلوبية، بل حتى رؤيتها للعالم. هنا يظهر التحدي: قد تكتشف أن الوفاء الحرفي يفضي إلى نص بارد، غريب عن ذائقة القارئ الجديد، يجرجر المعاني ويتعثر بروح الكاتب في هوة الفروق الثقافية.
ربما يمكن تشبيه المترجم العاشق بالنحّات الذي لا يكتفي بنقل حجر من مكان إلى آخر، بل يعيد تشكيله ليعكس الضوء والزوايا بحيث يراه المتلقي كما لو أنه وُلد في بيئته. في هذه العملية، تُطرح أسئلة: هل تضحّي أحياناً بجزء من النص الأصلي لتكسب عالماً من المعنى في لغة الوصول؟ وهل من حقك – كمترجم – أن تمارس “خيانة جميلة”؟
ويحدث أحياناً أن يضطر المترجم إلى “خيانة جميلة” للنص الأصلي؛ وهي خيانة لا تنبع من رغبة في التحريف، بل من إخلاص أعمق لفكرة النص وروحه. أذكر نصوصاً واجهتها – شعراً أو نثراً – كانت فيها الاستعارات أو الإيحاءات عميقة الجذور في التربة الثقافية للغة المصدر، بحيث بدا استلهام تقنيات أخرى في العربية أجدى وأعمق أثراً. حينها، وجدت أن التضحية بظاهر العبارة لصالح بناء مشهد أو صورة تلامس القارئ الجديد هو نوع من الوفاء المختلف: وفاء للفن، وللدهشة، وللقارئ الذي يستحق أن ينفعل بالنص كما انفعل به القارئ الأصلي.
ليست “الخيانة الجميلة” إذن إلا فن إعادة الخلق. إنها خيانة في الظاهر، ووفاء في العمق، شرط أن تبقى بوصلتك مشدودة إلى جوهر الكاتب الأول وهمس نصه، حتى وإن تغيرت العبارة وتبدلت الصورة.
الخيانة الجميلة: ضرورة أحيانًا
في النهاية، يبقى المترجم هو القارئ الرئيسي الأول للنص والكاتب الثاني له، لذلك ينبغي له أن يزن كلماته بدقة، وأن يصغي إلى همس النص، وأن يجرؤ أحياناً على “الخيانة الجميلة” ليبقى للنص حياة في لغة جديدة.
– بعد هذه السنوات الطويلة في مهنة الترجمة، لو سألك شابٌ/ة يرغب بدخول هذا العالم: “هل الترجمة حياة أم مهنة؟” كيف ستجيبه بكلمة واحدة فقط؟
كلتاهما.
هل شعرت يوما أن الترجمة تعلّقك بين لغتين… دون أن تنتمي تماما لأي منهما؟ — كيف تؤثر هذه الحالة “الما بين” في هويتك الثقافية؟ — وهل المترجم محكوم بأن يبقى في الظل، حتى حين يُعيد خلق الضوء بلغته؟
في عالم اللغات، ثمة منطقة رمادية لا مرئية، حيث يعيش المترجم، ذلك الشخص الذي يمضي عمره متنقلاً بين ضفتين دون أن يستقر فوق أي منهما بالكامل. يتساءل المترجم، أحياناً، عن مكانه الحقيقي في هذا الكون اللغوي: هل هو ابن اللغة الأصلية؟ أم ابن اللغة الهدف؟ أم أنه كائن هجين، لا ينتمي إلا لتلك المسافة الفاصلة بين الاثنين؟ وتنبثق من هذا السؤال أسئلة أخرى عن الهوية، والانتماء، والظل الذي يلازم المترجم حتى وإن أعاد خلق الضوء بلغته.
هذه الحالة المركّبة لا تعني الفقد بالضرورة، بل كثيراً ما تفتح أفقاً جديداً للوجود. إذ يحمل المترجم، أو من يعيش بين لغتين، ميراثين ثقافيين، يختبر الغربة والانتماء في آن معاً. تتشكل هويته من شظايا وأصداء، لا تعود لغته الأولى وحدها كافية لتسمية نفسه، ولا الثانية تحتضنه كواحد من أبنائها؛ بل يعيش في الفجوة الخصبة بينهما، حيث تتلاقى الذكريات والرغبات، والماضي والمستقبل.
لكن هذه “الما بين” ليست فراغاً سلبياً، وإنما فضاء خصب يولد فيه المعنى من جديد، حيث تتكسر الحدود، وتُنسج الروابط الخفية بين الثقافات. قد يشعر المترجم بالحنين إلى الجذور، لكنه يمتلك أيضًا القدرة على استحضار عوالم متوازية في لحظة واحدة، ويصبح جسراً يعبر عليه الآخرون بحثاً عن فهم أعمق للذات والآخر.
إن الترجمة ليست مجرد نقل كلمات من لغة إلى أخرى، بل هي فعل وجودي يُعيد تشكيل العالم في كل مرة. وعندما يشرع المترجم في مهمته، فإنه يصبح جسراً بين ثقافتين، لكنه لا يعبر هذا الجسر إلى الضفة الأخرى بالكامل، ولا يعود إلى ضفته الأولى دون أن يحمل شيئاً من الغربة. يتعلّم المترجم أن يقيم في الوسط، أن يحتفي بالمسافة، ويعيش حالة “الما بين” التي تجمع التناقضات وتخلق منها هويته الفريدة.
إن تجربة المترجم ليست تجربة من يعيش في بلدين متباعدين وحسب، بل من يسكن في ذهنين مختلفين، ويصغي لصوتين متوازيين. يكتسب المترجم بذلك قدرة نادرة على استيعاب الآخر، وفهم الاختلاف، وتقدير التنوع، لكنه يدفع ثمن هذه القدرة بشعور دائم بالتيه. قد تصبح هويته مزيجاً من الذكريات، والأحلام، واستعارات اللغتين، فهو يعرف أن كل ترجمة هي محاولة لتقريب المسافات، لكنه يدرك أيضاً أن المسافة هي جوهر هويته.
من المفارقات أن المترجم يشعر في أحيان كثيرة بالاغتراب في كلا العالمين: الأصل والهدف. ففي موطنه الأصلي، يصير غريباً لأنه يعبّر بلغة أخرى، وفي لغته الثانية يبقى خارجياً لأنه يحمل روحاً وثقافة لا تتطابق بالكامل مع أبجديتها. يكتب ويعيد الكتابة، يترجم ويعيد الترجمة، لكنه لا يُحتفى به كمبدع مستقل، بل كمُعيد لخلق الإبداع بلون آخر.
ورغم هذه الغربة، فإن المترجم يكتشف مع الوقت أن هويته ليست في الانتماء المطلق، بل في القدرة على التنقل بين العوالم. يتعلّم أن يكون جزءاً من الحوار الإنساني الكبير، وأن يحتفل بتعدد الأصوات حتى إن لم يكن له صوت خاص واضح. هذه الحالة “الما بين” تمنحه حساسية فريدة تجاه التفاصيل، وقدرة على التقاط الفروق الدقيقة، وتمريناً دائماً على التواضع أمام عظمة اللغة وغموضها.
يسود اعتقاد شائع بأن المترجم يعيش في ظل الكاتب الأصلي، وأنه مجرد وسيط يحمل نصاً من ضفة إلى أخرى. لكن، إن دققنا في فعل الترجمة، فإننا سنكتشف أنها ليست مجرد نقل أو عبور، بل هي نوع من “إعادة الخلق”. فالمترجم يُعيد تشكيل النص، يختار الكلمات بعناية، يخلق صوراً جديدة، ويمنح القارئ تجربة أصيلة في لغته الخاصة. إنه كاتب ثانٍ للنص.
لك يظل المترجم أحياناً في الظل، لا يُذكر اسمه إلاَّ نادراً، ولا يُحتفى بإبداعه إلاّ بين أقرانه والذين يقدّرون أعماله. وقد يشعر أحياناً أن جهده يذوب في النص الأصلي، وأن نجاحه الحقيقي يتمثّل في اختفائه وراء الكلمات. لكن المترجم الحقيقي يعرف أن الظل ليس مجرد غياب للضوء، بل هو مساحة سرية ينبت فيها المعنى، وينضج فيها الإبداع، ويُعاد فيها تشكيل الهوية.
حين يبدع المترجم، فهو لا يجسّد النص وحسب، بل يُعيد خلق الضوء في لغة جديدة. ينقل النبض، والجرأة، والهمس، والصرخة، ويمنح القارئ فرصة عيش التجربة بلون آخر. ورغم أنه يبقى مختفياً في الظل، فإن كل ترجمة تحمل بصمته ولو لم توقّع باسمه. قد لا يحتفي به التاريخ، لكن اللغة نفسها تحتفظ له بذكراه في كل تعبير أصيل، وكل صورة جديدة يبتكرها.
لا يمكن حصر تجربة المترجم في تعريف جامد أو وضعها ضمن إطار مغلق. إنها تجربة تعني العيش في حالة مستمرة من التوتر الإبداعي، بين لغتين وثقافتين، بين الأصل والصورة، بين الضوء والظل. هذه الحالة “الما بين” تكشف، في تعقيدها، عن غنى الذات الإنسانية وقدرتها على استيعاب التناقض، وخلق المعنى من الهامش، وعقد الصلات بين العوالم.
قد يبقى المترجم غريباً عن كل اللغات، لكن غربته هي شرط الإبداع، وجسر التواصل، ونافذة الضوء التي تُطل بها الثقافات على بعضها البعض. وفي النهاية، يكتشف المترجم أن هويته ليست في الانتماء، بل في القدرة الدائمة على الترجمة: ترجمة الذوات، والذكريات، والأحلام، والضوء نفسه إلى لغات متعددة، وإلى هوية لا تتوقف عن السؤال ولا تتعب من الترحال.