خارج العائلة -مروان ياسين الدليمي

خارج العائلة – مروان ياسين الدليمي

1

الأمومة لم تكن امرأة
كانت شجرةً ترتجف في رياح الفجر
تمدُّ لي أوراقها كأصابعٍ تعرف اسمي وتنساه في اللحظة نفسها.

الأب لم يكن رجلاً
كان جداراً في مدرسةٍ قديمة
يضع كتفه على كتفي كلما مررتُ
ويترك على قميصي غبار الطباشير
كما لو أنه يكتب وصيته الأخيرة على نسيجٍ لا يحتفظ بشيء.

في السينما تعلّمت أن العتمة كائنٌ له أنفاس بطيئة
يضع يده على فمي حتى لا أصرخ
ويصغي لقلبي
وهو يتعلّم كيف يتقافز مع وجوهٍ لا وجود لها خارج الشاشة.
وفي الكتب،
كان الورق يمدّ لي فخاً
يدعوني إلى الغرق في حبرٍ أزرق
حيث الكلمات أسماكٌ تتصادم بيأسٍ في قارورةٍ بلا ماء.

أما الشوارع
فكانت أختي الصغرى
تلعب معي لعبة الكرّ والفرّ بين الخطوات والمطر
تسرق من جيبي النقود القليلة
وتشتري بها حلوى من ضحكٍ حامض
ثم تتركني وحيداً أبحث عن ملامحي على وجوه المارة.

هكذا
في غياب العائلة
صنعتُ لي عائلة من أشياء تتنفس ببطء
أشياء تعلّمني الحقيقة ثم تفرّ مني
كما يفرُّ ظلّك عندما تحاول أن تعانقه.

2
في المدرسة
كان الوقت يلبس شارة المراقب
يذرع الممرات جيئة وذهاباً
يكتب العلامات بالطبشور
ثم يمسحها بكمّه قبل أن يراها أحد.
كنت أظن أنني أحفظ الدروس
لكن الحروف كانت تعبر من رأسي إلى الغيم
وتبقى هناك
تمطر فوق مدنٍ لا أعرفها
مدنٍ ربما تعيش الآن طفولتي التي لم أحتفظ بها.

في السينما
كنتُ أشتري التذكرة لأجلس إلى جوار أحلامي
لكنها كانت دائماً تتأخر
وتبعث لي مقعداً فارغاً مبللاً برائحة المطر.
الشاشة كانت نافذةً إلى غرفةٍ يسكنها موتى لطفاء
يعرفون كيف يبتسمون طويلاً
كي يخفوا ارتعاش أيديهم.

 

الكتب
كانت غرفاً بلا أبواب
وأنا أركض فيها خلف صوتٍ يقول إنه أنا
لكنني لا أراه أبداً
ربما كان يسير أمامي
أو ربما كان يقرأني بصوتٍ منخفض حتى لا أستيقظ.

أما الشوارع،
فكانت تحفظ أسراري في أرصفة متعبة
ترتب خطواتي مثل جملة ناقصة
وتترك لي فرصة أن أكملها
لكنني
بدلاً من ذلك
كنت أبيعها لبائع الجرائد الذي يعرف أن الأخبار
لا تحدث إلا في مكان آخر.

كنت أعيش خارج العائلة
لكنني كنت أجدها متخفية في كل مكان
في الكلمة التي تسعلها المعلمة
في المصباح الذي يغفو في منتصف الفيلم
في بائع الكتب الذي ينسى أن يعيد لي الباقي
وفي الكلب الضال الذي يرافقني حتى باب البيت
ثم يرفض الدخول.

3
الآن،
عندما أستدعي تلك الأيام
لا أعرف إن كنت عشتها أم أتخيل أنني عشتها.
الذاكرة تتصرف كجدةٍ عجوز
تحكي القصة نفسها كل ليلة
لكنها تغيّر النهاية على هواها
وتضحك حين أنبهها.

المدرسة ما زالت هناك
لكن ممراتها أصبحت أطول
وأصوات الأجراس خرجت للتقاعد
تجلس الآن على عتبة الباب
تدخّن وقتها بهدوء.

السينما أُغلقت
لكنني أسمع كل ليلة
صفيرَ شريطٍ يدور في الظلام
كأنه قلبٌ يحاول إقناعي
أن الحب لا يحتاج إلى جمهور.

الكتب غابت
لكن كلماتها تظهر فجأة على جدران نومي
تكتب لي ملاحظات قصيرة:
“انتبه، الحياة ليست فصلاً أخيراً،
بل هوامشُ لم يقرأها أحد.”

والشوارع
آه الشوارع…
كبرتُ فصارت تناديني بأسماء لم أعرفها
وتقدّم لي أحذيةً واسعة
كي أتعلم كيف أضيع بشكل أعمق.

هكذا أكتشف أنني لم أكن خارج العائلة تماماً
كنتُ داخل عائلةٍ أخرى
تضمّ المدرسة كأمّ صارمة
والسينما كأخٍ يحلم في نومه
والكتب كعمّةٍ تمارس السحر في الخفاء
والشوارع كابنةٍ مشاغبة
وكلهم تركوني لأتربّى على يد الريح.