جياكومو ليوباردي المؤمن بشجاعة الإنسان
حياة أليمة وفلسفة متشائمة
جعـفر حســن الشكـرجي
لقد عانى ليوباردي من عدم اهتمام والديه به، إذ رفضا مساعدته ماليا، غير أن علاقته مع أخيه وأخته كانت سعيدة. ولما أصبحت حياته في مدينته ريكاناتي ثقيلة الوطأة على نحو متزايد، حاول الهرب منها عام 1818، ولكن والده قبض عليه وأعاده إلى المنزل. استمرت بعد ذلك علاقة الأب مع ابنه في التدهور، وأصبح تحت المراقبة من قبل بقية أفراد العائلة. وبالرغم الرغم من ذلك، استمر ليوباردي في نشاطاته ودراساته الأدبية. ففي عام 1819 كتب بعض أجمل قصائده الشعرية الغنائية، عليها قامت شهرته بشكل رئيسي، أطلق عليها اسم الأغاني .
محرر خطب شيشرون
وعندما استطاع عام 1822، أن يقوم بزيارة قصيرة ولكنها غير سعيدة مع عمه إلى روما، أصيب بإحباط شديد لأجواء الفساد والانحلال ولنفاق الكنيسة. وبدت روما له قذرة ومتواضعة بالمقارنة مع الصورة المثالية التي نشأت في ذهنه من مطالعاته للأعمال الكلاسيكية.
أمضى ليوباردي مرحلة أخرى مؤلمة بعد عودته من روما عام 1823. فقد تعرض لخيبة أمل ناجمة من فشله في حبه لبنت عمه، كما ساهمت الأمراض الجسدية، التي استمرت في التدهور إلى انهيار آماله الباقية. غير أن الذي جعله يبتهج هو طبع مجموعته الشعرية كانزوني عام 1824.
وفي عام 1825 قبل ليوباردي عرضا لتحرير أعمال الخطيب والسياسي الروماني شيشرون 106 ــ 43 ق.م. في ميلان. تنقل في السنوات التالية بين مدن بولونيا وريكاناتي و بيزا وفلورنسا، ونشر تحفته الأدبية النثرية مؤلفات أخلاقية عام 1827، وهي عبارة عن شرح فلسفي مؤثر، يمتاز بالقوة، كتبت معظمها على شكل محاورات وهي تعبر عن مذهبة في اليأس. وقد ترجمت إلى اللغة الإنكليزية عام 1905، تحت عنوان مقالات وحوارات وأفكار .
أصبح ليوباردي في عام 1828 واهن بدنيا وأنهك بسبب عمله، ولم يغامر على الذهاب الى ما وراء جبال الألب لضعف بنيته الجسدية، حتى أنه رفض عرضا ليكون أستاذا في جامعة بون، قدم إليه بواسطة سفير بروسيا في روما.
قدمت الطبيعة له لحظات نفيسة من الهدوء، ولكن هذه اللحظات القليلة لم تبدد الغم البدني والميتافيزيقي الذي كان يرهق ليوباردي. كان يشعر بخيبة أمل لاذعة من الواقع بكل جوانبه. عرض عدد من الناشرين والأصدقاء عليه وظائف مختلفة و موارد رزق متعددة، ولكنها لم تنفع بشكل عام إلا قليلا.
حاجة ليوباردي إلى النقود أجبرته على العيش في ريكاناتي بين عامي 1828 1830، كتب في 1829 جزءا آخر من الأغاني . ولكنه هرب من ريكاناتي مرة أخرى إلى فلورنسا بمساعدة مالية من أصدقائه. انتقل في عام 1831 إلى روما، ثم إلى فلورنسا، و استقر أخيرا عند صديقه إنطونيو رانييري في نابولي، حيث كان يأمل أن يستفيد بدنيا من المناخ. إن الموت الذي كان ينتظره طويلا ويتوقعه ويعده السبيل الوحيد للتحرر جاء إليه فجأة بوباء الكوليرا في نابولي عام 1837، بعد أن أملى آخر قصائده بوقت قصير ، وهي بعنوان أفول القمر ، حيث يصور القمر وهو يزول، تاركا الطبيعة في ظلمة شاملة، تماما كالشباب الذي ينقضي تاركا الحياة كئيبة ومهجورة. ويبدو أن ليوباردي كان هنا ينذر بقرب وقوع موته.
إن تدخل صديقه رانييري لدى السلطات منع أن تدفن جثته في قبر جماعي بطريقة شائنة كما تقتضي الأنظمة الصحية ذلك الوقت ، فدفن في ردهة إحدى الكنائس، ونقل عام 1939 إلى حديقة عامة بنابولي، حيث أعلن كنصب تذكاري.
أما يومياته التي دونها بين عامي 1817 ــ 1832، فلم تنشر، إلا بعد أكثر من ستين عاما 1898 1900 في سبع مجلدات بعنوان مختارات أدبية وهي عبارة عن مجموعة من الانطباعات الشخصية والأقوال المأثورة وملاحظات فلسفية عميقة وتحليلات في فقه اللغة والنقد الأدبي ونماذج مختلفة من المذكرات.
تًرجم شعر ليوباردي إلى اللغة الإنكليزية مرات عدة. و كثير من قصائده أصبحت خالدة. وهي تعبر عن الضجر من الحياة واليأس.
فلـسفته
لقد أراد ليوباردي أن يكون فيلسوفا، وهو يستحق ذلك، فأصبح فيلسوفا. فهو لم يأتي إلى الفلسفة من خلال الشعــر، ولا إلى الشعر من خلال الفلسفة، إذ إن شعره هو فلسفة.
إن ما لقى ليوباردي من عنت الدهر، كما تبين لنا أعلاه، مما جعل التشاؤم يغلب على آثاره كلها. إلا أن ليوباردي نفسه يرفض بقوة رد التشاؤم المفرط إلى سوء أحواله الصحية، ففي رسالة كتبها عام 1832 يقول إنه جبن الناس، الذين يحتاجون إلى الاقتناع بقيمة الوجود هو الذي جعل البعض يعد آرائي الفلسفية أنها ناتجة عن آلامي الخاصة بي، وأصروا على أن ينسبوا إلى ظروف ثانوية ما أدين به لعـقلي وحده.
وقبل أن أموت أريد أن أحتج على هذا الرأي الذي هو وليد الضعف والتفكير العامي، وأرجو من قرائي أن يعملوا على تنفيذ ملاحظاتي وبراهيني بدلا من أن يتهموا أمراضي .
لم يعرض ليوبرادي فلسفته بشكل منهجي، ولم يصوغها في نظام، وتنعت بأنها فلسفة يأس، وبأنها شكيّة و تشاؤمية. هي في الحقيقة تتمثل في انتصار الشر على الخيـر والطبيعة على الإنسان، وفي تفاهة الوجود البشري المعرض للموت وآلام الإنسان وبؤسه و انطفاء شبابه.
العالم ارادة وامتثال
كتب فيلسوف التشاؤم الألماني آرثر شوبنهاور 1788 ــ 1860 ، وهو بصدد الإشارة إلى العقول العظيمة في كل العصور، الذين عارضوا التفاؤل، وعبروا عن إدراكهم ببؤس هذا العالـم
لم يعالج هذه الموضوعات بعمق وشمول في عصرنا أعظم من ليوباردي. فهو متشرب بالموضوع و متغلغل فيه تماما، ويعرضه بطريقة فيها استهزاء بهذا الوجود وبؤسه. إنه يقدمه في كل صفحة من أعماله، ولكن في صور وتطبيقات متنوعة، مع غنى من المجازات، فهو لا يرهقنا، ولكن على العكس، يسلينا ويثيرنا .
ومع التسليم بالنشر المحدود لكتاب شوبنهاور العالم إرادة وامتثال في ذلك الوقت، فإنه من غير المحتمل أن ليوباردي قد قرأه أو أنه قابل المؤلف. ومن ناحية ثانية، فإنه من المؤكد أن شوبنهاور قد قرأ ليوباردي، ورغم أن شوبنهاور يشير إلى ليوباردي، فإنه مع ذلك لا يلمح بأية طريقة فيها إذا كان قد أثر على تطوره الفكري. ومع ذلك فإن التشابه بينهما كان عميقا.
يؤكد ليوباردي أن الحياة والشقاء لا يقبلان انفصالا، إذ رغم أن المطلب الأول للبشر كافة هو السعادة ونزوع المرء إليها غير محدود، غير أن قدرته على الفوز بها معدومة. لهذا أصبحت التعاسة تسود الوجود البشري، ويقوم على اللامعقول، ويسري فيه الملل، ويهمين عليه الشر. ولا ينكر أن الحياة يمكن أن تقدم لنا متعة ومرحا وسعادة، غير أنها انقطاعات خاطفة للألم.
وينظر للحياة على إنها لا معنى لها، وهي شبح مخادع ومراوغ وتكرار ممل للشؤون الإنسانية، بيد أن الذين يرفضون العـمل يثـقلهـم ضجـر الحياة، ويجب أن يبحثوا عن أشياء تشـغلهم في هوايات عديمة الفائدة لتمضية الوقـت.
صحيح أن الإنسان فقير وضعيف، ولكنه شجاع بشكل كافٍ ليدرك وضعه الحقيقي البائس. بيد أنه أكثر بؤسا من بقية الحيوانات، لان الأخيرة لا تعرف أنها تعيسة.
وينكر ليوباردي التقدم. فإن احتج أحد بالتقدم في العلوم الطبيعية والتكنولوجية قال
إن العلم يدمر اللذات الرئيسية لروحنا، لأنه يحدد الأشياء ويبين حدودها، وإن كان في كثير من الأشياء قد وسع أفكارنا من الناحية المادية وأقول من الناحية المادية ، لا من الناحية الروحية .
ولم يحاول أن يحطم فقط أسطورة التقدم العلمي التكنولوجي، بل وأيضا كل شكل من أشكال النزعة الفلسفية ، سواء أكانت تجعل الله في مركز المنظور، أم تجعل الإنسان في مركز المنظور.
وكان ليوباردي يائسا من إمكان حدوث أي إصلاح في المجالين السياسي والاجتماعي، ومن وجود العدالة بين الناس.
وأمتد تشاؤمه إلى المرأة. ففي الوقت الذي يمجد فيه قوة و فضيلة المرأة في العصور القديمة، فإنه يشوه سمعة نساء عصره لأنهن لا يسمحن للمرء أن يكون فاضلا وسعيدا.
ويوضح ليوباردي أن الأخلاق لا معنى لها، فالإنسان الذي يعتقد في الفضيلة والحرية والشـرف، والذي يضحي في النهاية بكل شيء من أجل هذه الأفكار، سيدرك متأخرا بأن كل ما عمله هو عبـث، وإن كل شيء تافه، بل إنه سيموت، كما يؤكد، مهانا بالعار والخُــزي، لأعماله التي قام بها بحسن نيـة.
الطبيعة تهديداً
إن وصف ليوباردي هذه الحياة تحت أسماء الحـزن والتعاسة والضـجر، قد طرح كثيرا من المفاهيم العالـقة فـي الذهــن. فمفهوم الوطـنية تلاشى بوصفه عملا أحمق، وكذلك الأمر بالنسبة للبطولة. ونفى مجد العبقرية إلى فئة الأوهام، أما الحب والعدل والمثالية فهي ليست سوى كلمات فارغة. يضاف إلى ذلك فإن المستقبل لا يحمل لنا وعدا.
ويسود كتابات ليوباردي أيضا التشاؤم الكوني، حيث إنه متأصل في الطبيعة، التي يعدها المبدأ الغامض للوجود، فهـي لا تجيب عن أسئلة الإنسان عن سـر الأشياء، ولا تكشف عن شيء، وغير عاقلة، وغير قابلة للفهــم، وتسير بشكــل ميكانيكـي، ولكن مدمــر، وأحيانا تكـون عدائية اتجاه الإنسان.
ولهذا، فالطبيعة، تشكـل تهديدا ثابتا للإنسان،ويصفــها بالعـدو المشتـرك، ويتهمها بأنها هي التي جعـلتنا أشقياء و بناءً على ما تقـدم فإن ليوباردي يندب الوضـع الإنساني المتقلقل المهدد من قبـل نزوات الطبيـعة وشرورها بشكــل مستـمر و مطـرد. غير أن الطبيعة بدورها تخـضع خضوعا أعمى لصلابة القضاء والقدر، وهو خضوع لا يأخذ بنظر الاعتبار كفاح الإنسان وبؤسه.
إلا أن العالم يقـدم أثنين من الأشياء الجميلة وهم الحـب والمـوت.
يعلى ليوباردي من شان الحـب بوصفه قوة حيوية نابضة بالحياة في ذاتها، حتى عندما يكون غير متبادل. إن ليوباردي يحطم كل شيء ويدين كل شيء، ولكنه يسعى إلى إنقاذ الحـب من الجـو الكوني الخانـق، ويحميه على الأقـل في أعماق روحه.
ويلاحظ أن ليوباردي كلما كان يحيط به البؤس والانعزال أكثر، يصبح متمسكا بالحـب أكثر، لإنه يلطـف الألم والمرارة ويحرر من الأوهام، ويلغي تقريبا وعي الإنسان بالتعاسة. فالفرح، إذن، بجمال الحــب، يجـعلنا نتغاضى عن معاناة حياة طويلة.
والشيء الثاني الذي يقدره ليوباردي هو المـوت، الذي هو النفي الفلسفي للحياة، لكل من آلامها المؤثرة ولسعادتها الزائفة . والموت بوصفه عدم الوجود هي شيء جمـيل، مثل الحب لحظة الوجـود، ويهيئ لنا المتعة في أقصى درجاتها.
ولكن لا أمل بعد الموت، إذ النفس الإنسانية فانية وليست خالدة، ولهذا ينعي على المسيحية إنها تحيــل الناس إلى حياة وهمية بعد المـوت. وهذا من شأنه أن يدمر الحياة الدنيوية، لأنه يحيل الحياة على الأرض إلى المــوت.
والانتحار لا يحل شيئا، لأنه لا يشكل نفيا للمـوجود، ولكن بالأحرى فعل يتجه ضد الجزء العرضي للتعاسة التي تتسلل إلى الوجود البــشري.
والحقيقة الوحيدة التي يمكن نيلها هي الموت، باتجاهها يجب أن يتقدم الإنسان بصلابة، متخليا عن كل الأوهام ويصبح على وعــي بوضعه البائــس. إن الذين يكونون قرب أبواب الموت قادرين فقط على أن يجدوا الحلاوة فـي المـوت، بوصفه راحة وسعادة. ولهذا فإنه لا يصور الموت بأنه بشـع، ولكن كعذراء شابة تمنح السلام إلى الأبد.
ويهجو ليوباردي غطرسة وسذاجة الإنسان الحديـث، الذي يطرح أفكار التقدم ويحـمل الكثـير من الآمال، معتقدا أنه خالـد، رغـم معـرفته في الوقـت نفسـه إنه فان.
أما بالنسبة لعلاقة الحـب بالمـوت، فإنه ينـظر إليهما أنهما توأمان أحدهما مولد كل الأشياء الجميـلة، والأخر يضـع حدا لكل العـلل. والحـب يجعلنا أقوياء ويلغي الخـوف مـن المـوت، وعندمـا يسـيطر على النفـس يجعلها ترغـب فـي الموت. وبعض الذين يوفقون إلى بلوغ عاطفة الحـب يموتون بسعادة،و آخرون يقتلون أنفسهم بسبب جروح الحـب أو ثملا بهذه العاطـفة.
فالمـوت، إذن، هو أخ الحـب، وهما أفضل ما يمكن أن يقدمه العالـم.
AZP09