جمهوريات التديين والتسييس
د.رنا خالد
التغيير العربي المسمى بالربيع العربي أعاد الى الأدبيات العربية والعالمية جدل العلاقة بين الدين والسياسة والحقيقة ان هذا الجدل لم يقف يوما بل ضل قائما من اقصى التكفير الأدنى التفكير. بل يبدو انه في الشرق الاوسط لم ينته يوما منذ عصور الدولة الاسلامية وكل تداعياتها. في حين انه لدى الغرب أخذ وقته الكافي وحسم لصالح القانون الذي يحمي الانسان وإنسانيته.
العلاقة بين الدين والسياسة اليوم هي جوهر كل التغيير والواقع والمتوقع. هي ذلك المحرك الخفي الذي تتبناه النخب الطامحة في الحكم والسلطة السياسية وتستخدمه باحتراف في الوقت الذي تلوج به العامة ويلوج فيها، غير واعية وغير قادرة على تفسيره او التكهن بأبعاده فنحن نختزل فكرتنا عن هذا الدين العظيم العميق في فرضية واحدة اذا أطعت ذهبت الى الجنه واذا خالفت فانك في النار. والطاعة والمخالفة لا تشمل الله سبحانه عز وجل بل مع الأسف انها لدى مجتمعاتنا تشمل من لاعزة ولا جلال لهم بالمطلق. حتى تلك الجمهوريات العلمانية التي جاءت بعد منتصف القرن الماضي والتي تتفاخر ببريق أفكارها التحررية المأخوذة من رحم الفكر الغربي وتجاربه تحولت بعد عقد حكمها الطويلة الى دكتاتوريات بشعة تعاني من التشتت السياسي بين الحكم العلماني الموجب للقانون والحكم الديني المتسلط بالأساطير. ولهذا السبب تفسخت الأيدلوجيات مع تفسخ تلك الجمهوريات الواحدة تلو الاخرى.
ان المفكرين الإسلاميين ومنذ مطلع القرن العشرين أجتهدو في وضع النظريات المنطقية المستمدة من روح الشريعة الاسلامية هادفين الى تفسير العلاقة بين الدين والسياسة او الدين والحكم السياسي للدولة الحديثة والواقع ان تلك النظريات لم تتوافق مع احداث المنطقة في ذلك العصر حيث الصراع مع المستعمر والصراع مع الملكيات الرجعية.. الخ. اليوم أيضاً الشعوب العربية تثور مرة اخرى وتخرج عن بكرة أبيها مطالبة بالحرية والعدالة والتخلص من الفقر والستبداد الذي رسخته تلك الجمهوريات التي ولدت من رحم الثورات على الاستعمار والرجعية.
ولكن الجمهوريات العربية الجديدة تبدو وكانها تستمد درعها من العلاقة بين الدين والسياسة ولكن هذه المرة بناءا على التفسير الطائفي المتشدد.
وبالتالي فإنها تذهب في خطابها السياسي الى خطاب التديين اي تسييس الدين او التسييس الذي يتحول الحاكم بموجبه إلى شبه إله، او بمعنى اخر جعل الدين خادما لدولتهم متأولين النصوص ومصدرين للفتاوى المؤيدة لهم، وهذه هي الدولة التي تتسيد تسيدا مشتبها حسب الدكتور طه عبد الرحمن، لأنها لا تنكر السيادة الإلهية، ولكنها تخضع الدين لسياستها.
وهناك الصورة المقابلة أي تديين السياسة ، وهو الأمر الذي يدافع عنه الإسلاميون الذين فتنوا بتقليد مفاهيم العلمانيين المسيدين. فسقطوا في نظرية تطويع السياسة لخدمة الدين .
بمعنى آخر فان بعض الإسلاميين وخاصة جناح الاخوان المسلمين يعانون من انفصام حاد في الشخصية بين شخصية المتعبد الملتزم بنصوص الشريعة الاسلامية وبين هذه الرغبة العارمة والشهوة المكبوته في الحكم والسلطة والمال والنفوذ.
من سوء الحظ ان التغييرات المفاجئة وأحداثها العاطفية دفعت الى السطح هذين الفريقين التسييسين والتدينيين ولكنها أغفلت وطمرت الفريق العقلاني التوافقي الذي يرى انه من الممكن ان تتوازن العلاقة بين الدين والسياسة وان تكون العلاقة بينهما علاقة توافقية وليست علاقة تبعية. ومثلهم تم الاستبعاد الكلي لفريق الحداثة وهم تلك النخبة المثقفة التي أوصلتهم العلوم الحديثة الى حقيقة دور الدولة ودور الدين فالدولة هي مؤسسة خدمية من ينتمي لها هو ملتزم بخدمة المجتمع وتحقيق طموحاته اما الدين فهو مؤسسة روحية تغذي القانون وتصحح مسار القوانيين الوضعية لتجعلها قوانين إنسانية تراعي فوارق الناس وافتراقاتهم.
هذا الفريق ينطوي تحت جناحة سياسين وعلماء ومفكرين ورجال الدين المنفتحين على الفكر الإنساني هذا الفريق يتهمون بالعلمانية وهي تهمة تساوي تهمة الملكيين ايام الثورة الفرنسية وعملاء الاستعمار ايام الثورات العربية في الماضي.
اخيرا اليوم نحن جميعا مهما اقتربا او ابتعدنا دافعنا او واجهنا لن نستطيع الحكم او النقد اي الفريقين اصح وانفع ولن نستطيع ان نوقف هذا التيار الدافق من التغيير ولن نستطيع ان نمنع هذه الجماهير التي حولها الفقر والاضطهاد الى افواه تصيح بما لا تعي واجساد تطحن دفاعا عما لا تفقه.
فهذا العصر هو عصر التديين والتسييس وبالتالي يجب ان تأخذ المرحلة مداها وتجربتها ثم بعد ان تتشبع الفكرة بآلام التطبيق سينجلي الحق من الباطل وتثبت الحقائق الدامغة فنحن في الحياة حقيقة وجودنا ان نختار ثم يوميا نكتشف مدى صحة هذا الاختيار. وكذلك الشعوب العربية اليوم هي تختار جمهوريات التسييس والتديين ثم أجيال وأجيال ستختبر صحة الاختيار وتكاليفه كما وستختبر روح التغيير وآفاقها.
/7/2012 Issue 4247 – Date 10 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4247 التاريخ 10»7»2012
AZP07