جمال عبد الناصر.. العصر الذهبي – عبد المحسن عباس الوائلي
كنت في الثالثة عشر من عمري ومعي زملائي بنفس العمر او اكبر او اقل كنا لانعرف الخوف، كان طموحنا لا حدود له احلام وردية وروح ثورية نصغي جيدا لمنظرنا نقرأ كثيرا نحب التظاهر وتوزيع المنشورات التي تحمل كفاح ونضال القومية العربية واهدافها بالحرية والاشتراكية والوحدة.. كان لنا قائدا واحدا نثق به كل ثقة احاديثنا هادفة تتناول مصير أمتنا ووحدتها، انه حلم جميل وجيل سعيد وفوجئنا بموت عبد الناصر وكأنا العرب كلها ماتت، كنا نصدق او لا نصدق ونسمع اخبارا كثيرة ونرى مظاهرات لا حدود لها في كل بلد عربي، أحقا مات جمال عبد الناصر.
انه قوة العرب ووحدتها ونضالها مخيف ومرعب لاسرائيل ومن يؤيدها وقرأت كثيرا عن الرجل بحب لا مثيل له، وعن وفاته وهذه نبذة موجزة عن الشكوك التي رافقت وفاة الزعيم جمال عبد الناصر. وها نحن نبحث عن زعيم ولكن هيهات ان نصل لما نريد وهيهات ان نرى بعد اليوم احلام وامال وردية، ودعني اكتب مما قرأت شيئا من الشكوك التي رافقت وفاة جمال عبد الناصر.
ففي الحفل الذي اقامه حزب التجمع الوطني يوم 10 يناير 1982 بمناسبة عيد ميلاد عبد الناصر وقف شيخ المحامين عبد العزيز الشوريجي، وكان ألد اعداء عبد الناصر، ليشيد به وبانجازاته وليعلن ان عبد الناصر لم يمت وانما قتل! وطالب الشوريجي بفتح ملف قضية قتل عبد الناصر، بل انه حدد المتهم، وهو الدكتور علي العطفي الذي كان يشغل منصب عميد معهد التربية الرياضية! وقد اتضح بعد ذلك ان شهاداته العلمية التي حصل عليها زيفتها له اسرائيل، وادين في اخطر قضية تجسس لحساب اسرائيل وحكم عليه بالسجن المؤبد وصودرت امواله، وقد زادت على المليون جنيه مبلغا كبيرا في وقتها.
وكان قد تردد على لسان العطفي انه اثناء مرض جمال عبد الناصر كان يقوم بعلاجه علاجا طبيعيا بالتدليك وانه وضع له سما معينا يسري في جسده ببطء اثناء التدليك مما ادى الى موته!
شكوك الوفاة
ويبدو ان هذه القصة قد ابتكرتها المخابرات الاسرائيلية لتنال على قوتها. ويؤكد محمد احمد السكرتير الخاص للرئيس عبد الناصر ان العطفي لم يتردد على جمال عبد الناصر ولم يره في حياته.. ويؤكد جميع افراد اسرة جمال عبد الناصر ما ذكره محمد احمد. ويقول صلاح نصر في مذكراته التي لم تنشر، ان اسرائيل حاولت من قبل قتل جمال عبد الناصر بالسم عن طريق خادمه الذي يقدم له القهوة، حيث جندته ليدس له السم في القهوة، الا ان هذه المحاولة اكتشفت واحبطت.
ويلقي حسين الشافعي ظلالا من الشكوك حول وفاة عبد الناصر عندما يقول: “اننا لو تنبهنا في ذلك الوقت لربما اكتشفنا ان وفاة جمال عبد الناصر كانت جنائية، لكن ما نعلمه من اسرار حول هذه الامور لايمكن ان يبوح به الا مرتكبها، ولا يعرف ابعادها الا فاعلها، ولايمكن التحقيق فيها الا اذا كان هذا الخاطر قد ورد قبل دفن جمال عبد الناصر. بمعنى ان يكون هناك تشريح، ولو ان هذه الوسائل مما لاتترك اثرا يمكن الاستدلال به على الفعل الذي ادى الى الوفاة”. وهكذا يزيد حسين الشافعي الشكوك حول وفاة جمال عبد الناصر.
وهناك ايضا واقعة اخرى ربما كانت لازمة للذين لايصدقون ان عبد الناصر مات طبيعيا، فمنذ مرض جمال عبد الناصر بالقلب وضع الى جوار فرشه في غرفة نومه جهاز لتنشيط القلب. وكثيرا ما استخدم هذا الجهاز عندما كانت الازمة تفاجئ عبد الناصر. وفي ليلة 28 سبتمبر عندما اصيب بالازمة حاول الاطباء تشغيل الجهاز تعليلا للخلل الذي اصاب الجهاز، انه القضاء والقدر. وهذه –حتى الان- الشكوك حول وفاة جمال عبد الناصر. وهي شكوك ينقصها كلها الدليل المقنع. واذا وجد هذا الدليل ذات يوم واكتشف ان الوفاة كانت جنائية فبالطبع سوف يصعب تحديد القاتل. ولكنه يمكن ان نشير اليه اذا حددنا اصحاب المصلحة في التخلص من عبد الناصر سواء في الداخل او في الخارج.
وكان جمال عبد الناصر قد عاد مرهقا بعد وداعه امير الكويت عقب انتهاء مؤتمر القمة العربي الذي دعا اليه لوقف الاقتتال الدائر في الاردن. وكان قد كلف الفريق محمد صادق بالسفر مع البعثة التي يرأسها الرئيس نميري للتوسط لوقف نزيف الدم. وقال للفريق صادق انه له مهمة واحدة محددة وهي احضار ياسر عرفات. وتمكن الفريق صادق من تنفيذ المهمة، وحضر ياسر عرفات، وحضر ايضا بعده الملك حسين. وتوصل المؤتمر الى حل للخلاف بين المنظمة وحكومة الاردن.كان عبد الناصر قد امضى خمسة ايام دون ان ينام. فلما انتهى المؤتمر ذهب الى بيته. واصر على ان يكون وداع كل الملوك والرؤساء. وفاجأته الازمة في المطار اثناء توديع امير الكويت. وحملته السيارة الى منزله حيث صعد على الفور الى الطابق الثاني وخلع ملابسه وارتدى البيجامة والقى بنفسه على الفراش. وجاء الاطباء، وكانت الحالة خطيرة، ولكن الاطباء لم ييأسوا. فالدكتور رفاعي كامل والدكتور منصور فايز كانا على رأس الاطباء الذين يحاولون جهدهم في انقاذ حياة جمال عبد الناصر. ودق جرس التلفون من منزل شعراوي جمعة. وكان المتحدث ه وسامي شرف، يبلغ شعراوي ان فؤاد عبد الحي، ياور الرئيس، قد اتصل به منذ لحظات وطلب اليه الحضور فورا الى منزل الرئيس ومعه شعراوي جمعة. وكان محمد احمد سكرتير الرئيس قد ذهب الى بيته لأنه رزق لأول مرة بمولود ذكر سماه جمال بعدها انجب خمس بنات. وكان الرئيس يداعبه بأنه في هذه المرة ايضا سوف تكون البنت السادسة! وسمح له الرئيس بأن يذهب الى بيته فورا بعدما علم انه انجب مولودا ذكرا كان سعيدا به. واستدعي ايضا محمد احمد. ركب سامي شرف سيارته ومر على منزل شعراوي جمعة القريب منه، وحملتهما سيارة واحدى الى بيت الرئيس. واستدعي خالد جمال عبد الناصر –الطالب في السنة الثالثة بكلية الهندسة- من النادي المجاور.
غرفة الرئيس
وعندما وصل شعراوي جمعة وسامي شرف صعدا الى غرفة الرئيس. فقد احسا ان جوا غير طبيعي في المنزل. في غرفة الرئيس وجدوه ممدا في فراشه وكان جسمه محاطا بتوصيلات كهربائية من الاجهزة الطبية. وجاء خالد عبد الناصر في اللحظة التي انتفض فيها جسم عبد الناصر. وظن الحاضرون ان الحياة تدب في جسم الرئيس ولكنها كانت الصدمة الكهربائية. ولحظات بعدها ثم انسابت الدموع من عيون الاطباء.وجاء حسين الشافعي في هذه اللحظة بالذات وعرف ان عبد الناصر فارق الحياة، فأتجه الى القبلة دامعا واخذ يصلي في حجرة نوم الرئيس. وخرج الجميع من الغرفة ليتركوا جثمان عبد الناصر لاسرته تلقي عليه نظرة الوداع. ويقول محمد احمد الذي كان قد وصل الى منزل الرئيس، انه منع صعود اي شخص من غير افراد الاسرة الى الطابق الثاني حيث كان جثمان عبد الناصر. وهكذا انتهت حياة عبد الناصر.بعدما فارق عبد الناصر الحياة وصل محمد حسنين هيكل رئيس تحرير “الاهرام” ووزير الاعلام، وعلي صبري. ووصل بعدهما انور السادات والسيدة قرينته. ويبدو ان من استدعى السادات بلغه ان الرئيس متعب او مريض فجاء مع زوجته التي كانت ترتدي فستانا اخضر اللون؟ ثم جاء بعد ذلك امين هويدي الذي يقول: حينما وصلت الى منزل الرئيس دخلت فورا حجرة الصالون التي اعتاد ان يستقبلنا فيها ووجدت هناك السادة انور السادات، حسين الشافعي، علي صبري، محمد فوزي، شعراوي جمعة، محمد احمد، سامي شرف، الليثي ناصف، محمد حسنين هيكل وبعض افراد الحرس الخاص، وكان الحزن يخيم على الجميع. وأذيع نبأ الوفاة من اذاعة صوت العرب بصوت أنور السادات وخرجت مظاهرات الحزن في كل بلدان الوطن العربي وقبل فيه الكثير من الشعر والنثر وكلمات الخطابة وترك فراغا بقي وسيبقى شاغرا والعلم عند الله وهزة ارادته فله الحمد والمنة ولزعيمنا الرحمة والغفران.