جريمة كتابة

قصة قصيرة

جريمة كتابة

سناء الشعلان

“ليس لها سابقة في عالم الكتابة، ولا شيء يدلّ على أنّها كانت تتعاطى حرفة القلم والخيال والسّرد في يوم من حياتها،كلّ ما عاينته من خبرات-كما هو موجود في سيرة حياتها في هذا الملفّ- لا يتعدّى أنّها كانت تعمل كاتبة في مؤسسة حسابات قديمة،وبعد سنين من العمل وصلت إلى رتبة رئيسة ديوان بحكم التّراتب الزّمني لا أكثر،وبخلاف ذلك فهي امرأة رتيبة حسنة النّية والسّيرة والسّلوك والمظهر،هي تماماً كالنّعناع المنزلي،بلا أهداب أو وبر ورقي أو رائحة نفّاثة،كلّ ما في حياتها يدعوها إلى أن تسير نحو تقاعد بارد تقليديّ في انتظار الموت الذي يأتي على مهله وعلى جرعات نزقة، كما هو شأنه مع معظم سكّان هذا الكوكب من البشر،أمّا هذا الجنون الغريب الذي تعانيه،فهو محض طفرة سلوكيّة تحتاج إلى مزيد من الدّراسة”.

  زمّ الطبيب شفتيه على غليونه الذي يوهم نفسه بأنّه يشدّ نفساً عميقاً منه،متناسياً أنّه لم يشعله ولا مرّة في حياته،وإنّما هو مدخنٌ شره من تبغٍ نائم في غليون لا يعرف أواراً أو اشتعالاً؛فهو مشجّع قوي للتّدخين الوهمي،ثم قال ممليلاً ما يقول على مساعده الطّبيب النفسيّ المتمرّن:” هذه حالة جنون نادرة تنحصر في أنّ المريضة مصابة بجنون يرتبط بما تكتب من قصص،بالتّحديد هو مرتبطٌ بقدرتها العجيبة على أن تصوغ نهايات حقيقيّة للأحداث التي تعرفها عن النّاس،كلّ شخص يحدّثها بقصة ما،ولو كانت قصته الشّخصية،تستطيع أن تكملها له،والغريب أنّ ما تكتبه من أحداث استشرافيّة يصبح حقيقة!

وما الغريب في ذلك؟” سأل الطبيب النّفسيّ المتمرّن.

 أجاب الطّبيب النّفسيّ المسؤول بعد أن برم شفتيه،وأخذ نفساً أعمق من الذي أخذه وهماً من سالفه من غليونه:” الغريب في ذلك أنّ كثيراً من قصصها الاستشرافيّة أو لنقل التنبؤيّة ارتبطت بنهايات مأساويّة جرميّة،وهذا جعلها المتهمة الأوّلى في تلك الجرائم،وعندما أنكرت علاقتها بتلك الجرائم،وأصرّت على أنّها مجرد كاتبة قصص بارعة تجيد أن تتنبّأ بالمستقبل الحدثي لأبطال قصصها الحقيقيين،أحالتها المحكمة إلى مستشفى الأمراض العقليّة للتّحقق من قواها العقليّة والنّفسيّة،لاسيما أن أجهزة التّحقيق الأمنيّة قد فشلت في أن تدينها بالجرم المشهود،واكتفت بأن تجعلها في خانة ضنين يحتاج أدلة نفي أو إثبات ليبرّأ أو يجرّم”.

-” وهل هي كاتبة قصّة مشهورة لتملك هذه الملكة الفذّة؟” سأل الطّبيب النّفسي المتمرّن بفضول.

 أومأ الطّبيب النّفسي المسؤول بالنّفي،ثم أتبعها بكلمة لا ممطوطة مكرورة،ثم عبس ثم أردف قائلاً:” لم تكتب كلمة واحدة قبل أن تصادف بهذا الجنون القصصيّ الدّمويّ.هذا ما تقوله سيرتها وشهادة الشّهود”.

-” ومن تقصد بالشّهود؟”

-” أقصد زوجها الذي طلّقته بعد أن نبأتها إحدى قصصها بأنّه يخونها،وأمها المتشافية من مرض السّرطان بسبب سرد قصص ابنتها عليها كما تدعيان،وجارتها التي عرفت أنّ ابنها قد توفى منذ عامين قتيلاً على يديّ عشيقته الخائنة،ومن حارس عمارتها الذي أخبرته قبل أسبوع بأنّ ابنه سوف تدهسه سيّارة وهو في طريقه إلى جامعته،وأنّ السّائق المجرم سوف يولّي هارباً من مكان الحادث،وقد أعطته مسبقاً رقم السّيارة الهاربة ليبلّغ عنها الجهات الأمنيّة المسؤولة في حين وقعت الجريمة،وهذا ماكان فعلاً”.

-” إذن هي عرّافة” قال الطّبيب المسؤول كمن يقترح تسمية لحالتها.

“لا ليست كذلك،فهي تنكر ذلك،وتصمّم على أن تسمّي نفسها قاصّة،وتمضي أوقاتها في غرفتها المعزولة في المستشفى تكتب القصص لمن تقابلهم،ولا تعبأ أبداً بوضعها تحت مراقبة نفسيّة مشدّدة،وكلما كانت في جلسة نفسيّة تقيميّة أو اختباريّة أجابت عن أسئلتها وكأنّها في لعبة ذكاء أو مغامرة مسابقات،لا كمريضة تحت المراقبة النّفسيّة والعقليّة بغية تجريمها وإرسالها إلى السّجن أو إلزامها بالبقاء في مستشفى الأمراض النّفسيّة للعلاج في أحسن الأحوال”.

– ” وما دوري في هذه الحالة الغريبة؟” سأل الطّبيب النّفسيّ المتمرّن.

– ” عليك أن تتولّى الحالة بنفسك وتتابعها وتكتب تقريرك الشّخصيّ عنها،وأنا سأتولّى الإشراف على تقريرك الذي سيؤهلك بكلّ تأكيد للنّجاح بتجاوز فترة التّمرين في المستشفى”.

-” سأفعل ما بوسعي لمساعدتها بكلّ سرور” .قال الطّبيب النّفسيّ بحماس مصنوع  وهو يمدّ يده اليمنى لتناول الملفّ من الطّبيب النّفسيّ المسؤول،ويهم منتصباً ليغادر الغرفة.

      عكف الطّبيب النّفسيّ المتمرّن ليلته على دراسة ملفّ المريضة الكاتبة أو الكاتبة المريضة،ولم يخلص إلاّ إلى ضرورة أن يقابل تلك الحالة في الصّباح الباكر لعلّه يعرف نقطة يتمسّك بها ليدلف إلى عوالم تلك المرأة اللغز،ولذلك ما كادت الشّمس تبادرأصبوحة اليوم التالي حتى كان متخذاً مقعده أمام مريضته الجديدة التي بدت أجمل وأهدأ وأشدّ سذاجة من أن تكون كاتبة قصّة،كانت تشبه عانساً حلوة لم يضنيها حمل،ولم يهصرها جنس،ولم تجهدها مسؤوليات أسريّة أيّاً كان نوعها،وإنّما غافلتها بعض شعيرات بيضاء زادت سمرتها دكنة،وجاذبيتها حضوراً،أمّا أن تكون بأنامل ذهبيّة ومخيال خلاقٍ موصول مع عوالم الغيب،فهذا أمرٌ لا يتناسب مع حركاتها العفويّة الطّفوليّة،ولا مع ابتسامتها العميقة،ولا مع خصرها الأهيف الشّهي الذي يعد بموسيقى وطبول وأنغام وشهقات وحجل واهتزاز وتثنّي،ولكن لا يمكن أن يخبّأ فيه حكايا وقصصاً تثقل دقّته المتناهيّة الاتساق.

   كان يعدّ نفسه لأن يحاصرها بأسئلة طوفانيّة يؤمّل نفسه بأن تحمله إلى أعماقها،أو أن تفيض بأعماقه عليها،ولكنّه وجدها تسأله بنبرة صارمة لا يمكن أن يفلت من وقعها:” ما اسمك؟”.

-” مراد،اسمي مراد كحلان”. أجابها كطفلٍ يجيب معلمته بكلّ أدب ومباشرة.

   ابتسمت لشيء غير إجابته،وتناولت قلماً كان يداعبه بإبهامه،وشرعت تكتب بضع جمل على منديل ورقي كان مندوحاً على الطّاولة،ولمّا انتهت ممّا  كانت تكتب،أعادت القلم إلى حيث كان،ومدّدت المنديل الورقيّ أمامه على طاولته،فقرأ فيه على عجل فضوليّ قلق:” لن يستطيع الدّكتور مراد كحلان أن يكمل علاجه لمريضته؛لأنّه قدمه ستكسر هذه المساء،وسيظلّ حبيس الجبس في بيته لمدّة شهرين”.

  ابتسم الطّبيب النّفسيّ ممّا قرأ مستهزئاً،وهو يكابر قلقاً يزعق في أعماقه،وقال لها:” بل سأعود غداً لنكمل هذا اللقاء”.وغادر على عجل وكأنّه يريد أن يهرب من تلك السّطور اللعنة التي يشدّ عليها بقبضته يده التي تصمّ أصابعها على المنديل الورقيّ ذي النبوءة الشؤم.وكان مصمّماً على أن يعود في اليوم التالي ليردّ قصصها الكائدة إلى نحرها،ولكنّه لم يعد لأنّه وقع من ليلته في بهو المسبح،وكسرت قدمه،وحاصره الجبص اللّعين،وحرمه من مهمته الهدف لتقيم حالة مريضته وعلاجها،واستكمال متطلبات إنهاء فترة تدريبه الميدانية!

  أمّا هي فوقعت من جديد في ذمّة الطّبيب المسؤول في المستشفى الذي قرّر أن يتحدّى قصصها النّبوءات،وأن يعرف مصدر طاقته الاستشرافيّة،ولو كلّفه ذلك أن تكتب قصّة موته! ولذلك تمترس خلف ابتسامة إسمنيّة غير قابلة للتّداعي،وتأبّط جأشه،وطلب أن يقابلها متصنّعاً الأريحيّة بإعداد كأسي قهوة لهما بطريقته التّقليديّة التي يصمّم عليها عندما يصنع القهوة له في حالات تفكيره المستغرقة في الحزم والقطع في الأمور.

  حاول أن يبتعد تماماً عن أيّ سؤال يتعلّق حول ملكتها القصصيّة،وحدّق فيها بقصديّة مصنوعة،ثم وجد نفسها يسألها باهتمام حقيقي:” منذ متى تكتبين القصّة؟”

 أجابت بسرعة وكأنّها كانت تنتظر السّؤال،وتعدّ عدّته:” منذ ولدت،طوال عمري أكتب القصص،ولكنّني حديثاً بت أعلن عنها كي أخلق حلمي،وأنا عاكفة على ذلك.”

-“وما هو حلمك؟” سألها بصوت ثخين كأنّه قادم من جوف تمثال.

-” أن أخلق من أعشقه! وأن أخلق للآخرين من يعشقونهم”.

– ” وكيف يكون ذلك؟” سألها بنبرة مخابراتيّة تحقيقيّة.

-“بالكلمات،أنا أجيد أن أصنع كلّ شيء في الكلمات،و العشق أشدّ ما أجيد صناعته ، لقد كتبت قصة عشقي الموعودة كاملة،رسمت رجلي الحلم،اخترت جزئياته كما أشتهي،نظمت تفاصيل هذا الدّفق العظيم من السّعادة،كلّ أجزاء الفرح موجودة مركّبة كما ينبغي في قصصي،والآن عليّ أن أنتظر تحقّقها،وهذا ما سوف يكون،سأعيش أجمل ما يمكن أن يصدف البشر في حياتهم،سأعيش العشق”.

” وهل أستطيع أن أطلع على هذه القصّة؟” سألها بفضول مهنيّ بحت.

– ” طبعاً”. أجابت  كمن تلقي عليه إجابة حفظتها عن ظهر قلب منذ زمن طويل،وأخرجت من جيب زيّ جنونها الأزرق الفضفاض دفتراً صغيراً أخضر،وفتحته مسجّياً في حضنها،وفتحت الصّفحة الأولى منه،وقالت بثقة من تفرض شروط انتصارها على خصمها المهزوم:” ولكن أنا من ستقرأ لك هذه القصة،سأقرؤها عليك في أيام؛فهي أطول من أن تُقرأ في جلسة واحدة”.

-“وأنا سأستمع إليك باهتمام” ردّ الطّبيب وهو يعقد يداً فوق يد،ويسترخي على مقعد منجّد مستطيل قبالتها معلناً استسلامه لقصصها.

   وشرعت تقرأ،وشرع يسمع،أيام طويلة قرأت،وساعات طويلة سمعها،خطفته إلى دنياها السّرديّة،وطارت به ومعه،وعلّقته في سماء البهجة حيث لا تكون إلاّ في شفة تلعق شفة،في قلب يلهج بقلب،في جسد يتّحد في جسد،في رعشة تنبثق عن رعشة،في أنامل تصبح حكاية،في سماء تصبح أجمل،في عيون تصبح تاريخاً،في نَفَسٍ يشهق ويزفر خزامى،في نبض يتألّه على الوجود،في وجود يُختصر في آخر دون غيره في بشر،علّمته كيف يكون العشق دفقات،وكيف يتعملق في ومضات،جسدته له في مواقف وكلمات ورؤى وأحاسيس وخلجات،أشعرته إيّاه بحواسها،وذاقته بمداركه وانتفاضات جسده عليه،في كلّ يوم سارت به في درب من دروب الهوى،وفي كلّ جزء من قصتها رمحت به في سهوب رحاب  العشق الخصيبة به.

  كان يعيش قصتها لحظة بلحظة،بات يعيش داخل قصتها سطراً فسطراً،انطلق يتعامل مع عالمه بروح عاشق يُصنع على دفقات منسوجة من وشيج رسمها بالكلمات،تعلّم أن يتعطّر باللافندر،وأن يستقبل الصّباح بفرح من نال غنيمة ساعات إضافيّة في الحياة،بدأ يقرأ الشّعر،ويحضر السّينما،ويجوب الشّوارع في المهرجانات، طفق يحبّ جسده العجوز الذي فارقه الرّضا عنه منذ زمن طويل،بات يمارس رياضة الجسد والرّوح والعقل،ويتلّذذ بكلّ تفاصيل حياته؛ لقد وهبته عينين جديدتين يرى بهما الكون بشكل جديد،فأدرك أنّ العمل يمكن أن يصبح حرفة للسّعادة والإسعاد والعطاء لا حرفة دخل وتوفير نفقات،وجزم بأنّ الأسرة تلوّن من تلوّنات ذاته،ولذلك عليه أن يهبها كلّ محبته،وعاد قادراً على استرجاع لحظاته البائدة الجميلة المقتولة بفعل التّقادم مع زوجته وأبنائه وأحفاده،فمضى يتذوّق من جديد عشقه لزوجته ولأبنائه،وغمر أحفاده لأوّل مرّة بحبّه النّشط الجميل الذي يسمح له بأن يشاركهم لحظاتهم الجميلة في الملعب والمدرسة والبيت والعطل والاحتفالات الخاصة والعامة،بدل حبّه السّكونيّ المعلن في قبلة استقبال،واحتضان وداع،وسؤال أو اثنين عن أحوال المدرسة والتّحصيل الدّراسيّ.

   وانحاز للشّباب الذي ينبثق ثرّاً حارّاً نشطاً من الرّوح التي لا تهرم عندما تتغذّى من نفس عملاقة أدمنت  على أن تكون نفسها وتكون الآخرين في آن،فتمخّضت عن أجمل تعايش بشريّ مع الوجود العابر بالجسد الخالد بالرّوح،فانطلق يرعى جسده،ويرفّه روحه بكلّ جديد،أحبّ الله والبشر وذاته،وراح يزرع الجمال في كلّ ناحية من رياض نفسه.

  كانت مريضته القاصّة تعيش فيه بكلّ كلماتها التي تمتدّ لتختار عطره،وتجعله يغيّر تسريحة شعره،ويلبس ملابس مزركشة غير رتيبة كلاسيكيّة داكنة كالتي كان يلبسها سابقاً،لم يعد من المستحيل أن يراه النّاس يحمل طاقة زهر لزوجته،أو يزرع حديقة المستشفى بالياسمين البلديّ،أو يرقص مع موظفي المستشفى في سمر ليلي متسلل إليهم بعد يوم عمل مجهد،وألف من حوله أن يروه يدندن وهو يقود سيارته،ويأرجح حقيبته وهو يسير بفرح،ويصعد الدّرج وينزله وهو يترك درجة بين كلّ درجتين بنشاط عجيب لا يماثل شعره الأبيض وتجاعيد وجهه الدّاكن القمحيّة.

 مريضته القاصّة كانت تروى قصتها السّحر،وتدفع الحياة في شخصية الرّجل المعشوق الجدير بلحظات الحياة،وهو ينزل هذه الشّخصية في أعماقه،ويذيبها في وجدانه،ويمتصّها حدّ التشبّع بها،هي تتخيّل وتروي،وهو يخفق حيّاً كائناً بما تخلق فيه من جمال.

  باتا صديقين يرسمان لوحة الحياة معاً،هي تروى له أقاصيصها الخياليّة،وهو يؤمن بها،وهو ينزلها على أرض الواقع افتتاناً بما فيها من جمال،وإدراكاً لسرّ الحياة فيها،كانت تراقبه يقترب من عالمها،وكان يراقبها تحنو على عالمه وهما يجلسان في حديقة المستشفى حولهما نفر من المرضى والممرضين والأطباء يسمعون قصصها،أو يحتسي معها مشروب المساء في شرفة من شرفات المستشفى،أو يمارس معها رياضة المشي في الغابة الخلفيّة لمبنى المستشفى.

  هي لم تعد مريضة محتملة يقف على تخوم جنونها أو عقلها ليرصده في تقرير رسمي مختصر،وهو لم يعد طبيباً عجوزاً ليس له من الحياة إلاّ انتظار الرّحيل عنها،إنّما غدت صديقته المبدعة التي يستحيل أن تقترف غير الجمال،وهو غدا رجلاً سعيداً يعيش قصة حبّ مع زوجته في سن السّبعين بوحي من ذلك الرّجل القصصيّ المتخيّل الذي صنعته له.

   لقد عرف بها كيف يمكن أن يكون العشق قضيّة،وتعلّم منها أن يصالح العالم كلّه به،لقد أصبح أزمانه كلّها،ومن يصبح العشق زمنه فقد نال الخلود والجمال والقوّة.

  ” من يصبح العشق زمنه فقد نال الخلود والجمال والقوّة ” جملتها الختام في قصتها الوعد التي أنجزتها لقلبه دون أن تعده بذلك،كرّر الجملة لأكثر من مرّة مخموراً بها،طوت صفحتها الأخيرة،وغادرت حجرته دون إذن أو كلمة وداع أو نظرة من أيّ نوع،وبقي هو أسير الجملة يكرّرها ممسوساً بها،ملتبساً بمساحاتها وطاقتها.

  مضت أيامٌ وهو لم ير مريضته من جديد إلاّ لمحاً من بعيد،كان يراها دائماً مع  بعض نزلاء المستشفى تروي لهم قصصها اللغزّ ترياق الوجود الجميل،كان يهزّ رأسه فرحاً بها راضياً بما تفعله،فهو يعلم أنّها ستزرع أنفسهم بيادر فرح،وستخرج منهم العشّاق الذين تجيد أن تصنعهم من سردها القصصيّ،ثم يتحسّس نفسه فرحاً بما أصبحه،ويمضي بعيداً  نحو مكتبة في الطّابق الثالث ليكمل كتابة تقريره النّفسي عن حالتها.

  بعد أيام انتهى تقريره عنها،وبدل أن تنقل إلى السّجن مجرمة أو تخلّد في مستشفى الأمراض النفسيّة والعصبيّة مريضة خطيرة على نفسها وعلى المجتمع،أُفرج عنها بناء على توصياته التي أكّدت أنّها قاصّة مجيدة رقيقة،قد لا تُجيد أن تدافع عن نفسها أمام المجتمع،ولكنّها تعرف أن تنفث الرّوح في عوالم قصصها لتنقلها إلى الحقيقة بكلّ ما في ذلك من عجائبيّة وغرائبيّة وتجاوز لمألوف العادة بعيداً عن أيّ جرم أو إذاء مقصود أو غير مقصود،وإنّما ذلك محض صدف،وقدرة فطريّة إبداعيّة على الاستشراف تماثل الكثير من الأمثلة المعروفة عند المبدعين والموهوبين.

      طبعت قبلة على خدّه وهي تودّعه على باب المستشفى بعد أن فتح لها الباب بيده،وأومأ لها بالطّيران بعيداً عن سجنها فيه،ابتسم لها ابتسامة حلوة تعلّمها من قصصها،ومدّ لها بورقة  صغيرة من الكرتون المقوّى طُبع فيها بلون ذهبي داكن رقم هاتف صديقه الصّحفيّ،وقال لها:”هو في انتظارك،سيكون لك عمل مناسب في صفحته الإبداعيّة القصصّية في الصّحيفة التي يملكها،لقد حدّثته عنكِ،وهو يعرفك تماماً.

  تناولت الورقة منه بحماس،ووضعتها في داخل حقيبتها الكتّانيّة الصّغيرة،وابتسمت ابتسامة نديّة مار بها فستانها القصير الصّيفي بزهو طفلة مشاكسة دون أن تنبس بأيّ كلمة،وقفلت تسير نحو البعيد،وهي تروي لنفسها قصة الرّجل الذي تعشقه،وستقابله بعد قليل عندما يصدمها بدرّاجته الهوائيّة وهي تقطع الشّارع بُعيد كيلو متر واحد من هذا المكان!

selenapollo@hotmail.com

مشاركة