جدلية العلاقة بين التربية والسياسة عند محمد عبده

جدلية العلاقة بين التربية والسياسة عند محمد عبده

 

فلاح المرسـومي

 

بغداد

 

كان الشــــيخ  محمــــد عبـــــده مفكـــرا” شـــموليـــا” عقليـــا”شـــغلت طــروحاته الفكــرية الــزمـــن الذي عاشـــه واســـتمرت فيمــا بعـــد نظرا” لعمقـــها وامتـــدادهــا الى مختلف ميــاديــن الحيـــاة الســياســـية والاجتماعيـــة والاقتصــادية والتربــوية وغيـــرهــا، فــــربط ربطـــا” جـــدليــا”بيــن كــل ميـــدان والميـــادين الأخـــرى، ولــم يعـــزل بينهـــا لأنــه أدرك أنهــا عبـــارة عــن حلقــات مفتـــوحة تكمـــل إحــداهمـــا الأخـــرى، ولا يمكــن عــزلهــا عــن بعضهـــا، أو إقــامة حــدود مانعـــة بينهـــا، فالســياســـة تخـــدم التــربية والأخيــرة إحــدى أدوات التغييـــر الســـياســـي، عبـــر جــدليــة علميـــة مــا بيــن العمـــل الســـياســـي والفعـــل التــربــوي . الشـــيخ محمـــــد عبــــده  من أبـــرز المفكــــرين الإصلاحييــن، فهـــو تقـــدمي تنـــويري فــي مجـــال الــدين والعقيـــدة وأعمـــال العقـــل، وقـــد تــرك لنـــا تــراثا” زاخـــرا”بالأبعــاد الســـياســية والاجتماعيـــة والتربــوية التي لا تــزال أغلب مفاهيمــها حية وصالحة لزماننا الحالي، كــونه انطلـــق فــي مجــال صيـــاغة نظريتــه التـــربــوية والســـياســـية مــن مشـــكلات عصـــره، وقـــدم حلولا” تتــوافــق مـــع تلك المشـــكلات، وربمــا تصـــح هـــذه الحـــلول لكل عصـــر لمــا تتضمنــه مــن تجــديد فــي معالجـــة المشـــكلات ولكـــن يبـــقى لكــل عصـــر ســـماته الخاصـــة ونأخــذ مثال على ذلك من عصرنا الذي نعيشـــه، إذ يتعـــرض العالم العربي والإســلامي لمناخ عــام يرتدي صفــة العالميــة وتنبثــق عنـــه المشـــكلات والقضايا التي تطــرح نفســها كتحديات حضارية تغييريه، فإذا تأملنــا عصــر الشـــيخ عبــده لوجــدناه عصــر اقتحــام الغـــرب ومــوجات التحــديث، وإذا ما قارنا تلك المشــكلات مــع مشـــكلات مجتمعنــا المعاصــر، تبــدوا لنــا أن الهــوة كبيــرة بيننــا، وشـــروط نهضتــها اليوم هـــي أصعــب بكثــير ممــا كانت عليــه شــروط النهــوض في القــرن التــاســـع عشـــر، لا شـــك أن مـا نشـــهده فـــي عصــرنا مــن مظاهـــر التقــدم وإيجابياته ومــا رافقها من علل التقدم وســلبياته، هــو النتيجة المباشـــرة لظاهـــرة التغييــر الســـريــع والجــذري.، ووراء كل هــذه التغيــرات ظاهـــرة العــولمة التي هي الحصيلة الأســاســية لانتشار الثــورة المعلوماتيــة والســيطرة على الاقتصـــاد والســـوق، فالآليــة الحقيقية للعولمـــة هـــي الهيمنــة والســـيطرة الدوليـــة، إذ يتعرض العالم العــربي والإســلامـــي الى هجمات متعـــددة الأشـــكال والوســـائل مــن الجهــات المعــادية للإســـــلام، فعلى الصعيـــد الإعلامـــي تتمثـــل بإظهــار العـــرب المســـلمين إرهــابيين متخلفيــن ومعادين لكـــل تمـــدن، فضــلا” عــن الأصعـــدة الســياســـية والاقتصــادية، ان هـــذه النظرة  فيهــا تجني كبيــر على الإســـلام لأنـــه ديـــن ســـلام ومحبـــة وإخــاء ويـــدعــو الى العلــم والمعــرفة والتمـــدن، وهـــذا ما بيّنــه الشـــيخ عبـــده في عصـــره، أمــا قضيــة الإرهــاب فلا تــرجـــع  بجــذورهــا الى ديــن معيــن أو جماعــة معينــه بل نجـــدها في مختلف المجتمعات وبمختلف الأديان والمــذاهب، تقــول الدكتورة منتـــهى عبـــد جاســـم مؤلفة كتــاب “جــدليــة العلاقـة بيــن التــربية والسياســة عنـــد محمـــد عبـــده ” في مقــدمة الكتاب التي أوردنا جزءا” منها إن اختيارها لهـــذا الموضــوع كان  لحيــويته ولتناولـــه جانبــا” فكــريا” مهمـــا” من أحـــد أبــرز المفكـــرين الإصـــلاحيين وصاحب المفاهيم الحيـــة في مختلف جوانب الحيــاة والتي تصـــلح لكل زمــان،

 

لقــــد جــاء الكتــاب بمقـــدمة وثلاثــة فصــول وخاتمـــة، تناول الفصل الأول: وفي المبحثين الأول والثاني منه حيــاة الشـــيخ عبـــده ونشـــأته والتأثيــرات الفكــرية فــي تكــوينه، وقـــد تميـــز المبحـــث الثــالث بأهمـــية خاصـــة كونـــه يتضمــن المنهـــج التجـــديدي للشـــيخ، فالتــجديد عنـــده هــــو الارتفـــاع بطـــريقة التعامل مــن التراث الى مســتوى ما يســـمى بالمعاصـــرة ،أي تحــديث التـــراث، وذلك بهـــدف تحريك التغييــر مــن الـداخــل، فهـــي تعنـــي حــداثة المنهـــج وحـــداثة الرؤية (تحديث الذهنيــة والمعاييـــر العقليــة والوجــدانيــة) أي الكيفية في التحـــرر مــن ســـلطة التـــراث وتحـــويلها الــى قـراءة عصـــرية للتـــراث أي ســـلطتنا نحـــن عليــــه ،وتحــرير تصــورنا من الجمـــود والبـــدع والضلالة والتأكيــد على أهميــة النظـــر العقـــلي، فمــن دون المعقــوليــة لا يمكــن قيــام معــرفة مــوضـــوعيـــة، لهـــذا فإن أهــم ما يميــز منهـــج الشـــيخ عبـــده هــو ســــمة العقـــلانيــة (القائم على مبـــدأ تقديــم العقـــل على النــص والاجتهـــاد فــي تــأويـل النــص واســـتخراج مقاصـــده) والتوفيقيــة (محاولـــة الــربط بيــن الأصـــالة والحـــداثة بما يخـــدم التقـــدم والتطـــور) جاعـــلا” التجـــديد الــدينـــي شـــرط للتجـــديد الفكـــري، إذ أن القيــم الفكـــرية والثقــافيــة لا تخـــلو مـــن رواسب غـــريبــة عـــن أصـــول الــدين ومنطلقــاته وروحـــه، من هذا يمكــن القــول ان التخلف الاجتمــاعي الذي تعيشــه الأمـــة هـــو فــي جــوهـــره تخلف ثقــافــي وقد وعي الشـــيخ لهــذا الهدف الاجتمــاعي عنـــدما أشـــار الى أن الإصـــلاح الــدينــي هــو المــدخل الأســـهل لإصـــلاح المجتمـــع ولإيجــاد نمــوذجا” جــديــدا” للإنســـان . أما الفصل الثاني فقــد تضمــن دراســـة (نظــريــته التــربويــة) لنتعــرف في المبحثين الأول والثاني على غاية الشيخ عبــده في التربية وكيف يجــب أن يكــون الإنســـان، فالتــربية عنــده هـــي لإصـــلاح المجتمـــع مــن خــلال إصـــلاح الأشـــخاص ولا شـــك أن أهـــم سبــل الإصـــلاح همـــا في الدين والتربيـــة، لتخليـــص الفكــر مــن قيــود التقــليد، والرجــوع في كســب معارفـــه الى منابعهـــا الأولـــى واعتبــارالدين مــن ضمــن مــوازين العقـــل البشـــري، وعلى الرغم من أن التربية عنــده قائمــة على مبــادئ الديــن لكــن هـــذا لا يعنـــي أن يفهـــم على أنه من دعاة التعليـــم الدينـــي، بل هــو من دعاة التعليـــم المدني الذي يســتجيب لظروف العصــر ويقيـــم مــع الــدين الصــلات الضرورية، أما في المبحث الثالث فقد تناولت المؤلفـــة مفهــوم الــديمقــراطيــة الطبقيـــة في بعض المفاهيــم التربوية إذ تظهــر ديمقراطية الشـــيخ محمــد عبــده مــن خلال دعـــوته لإطـــلاق الحــريات الإبــداعيــة وتنميــة المــواهب الضرورية، وتربية الأبنـــاء على امتـــلاك المهارات النقــدية ورفض الخضــوع والطاعة العميــاء والاســـتســلام، وتأكيــده على التكافل الاجتمــاعي والتعاون بين الأفــراد والمســاواة بيــن الرجــل والمـــرأة، وعلى الرغــم مــن ديمقراطيتــه، فإنه يقســـم أبنــاء المجتمـــع الى  طبقـــات ثلاث فـــي التعــليم لكل  طبقـــة تعليــم معيـــن، وفي ذلك تناقض بين قوله في الديمقــراطية وهـــذه الطبقيـــة . أما فـــي جانب (الفكـــر الســـياســـي للشيخ عبـــده)، فقـــد تناولته الدراســـة في الفصل الثالث حيث تقول فيه : من المعـــروف عنـــه أنه لم يكـــن ســـياســيا” بقـــدر ما كان إصـــلاحيــا”، لكـــن من المسلم به أن ما من إصــلاح دينـــي واجتماعي وثقافي إلا ويؤثـــر في المجرى السياســي بشــكل أو بآخـــر، مما جعل  التجديد الفكـــري شـــرطا”للتجـــديد الســـياســـي وهذا التقويم والتجديد يكــون بالتربيــة والتعليم،  وبالتالي فعـــن طريقهمـــا يمكـــن تحقيـــق الحـــرية والــديمقــراطيــة والتخلص مـــن الاســتبداد والعبـــودية، وقــد تم التطــرق في المبحثين الأول والثاني من هــذا الفصل أيضا” الى بعض المفاهيــم السياســـية عنـــد الشيخ ك (الوطنيـــة والــدســـتور والســـلطة والشـــورى…)، وفــي المبحث الثالث تم تــوضيح مشـــكلة العلاقــة الجـــدلية بيــن التــربية والســـياســة وبيان الارتباط الوثيـــق والتأثــر المتبــادل بعضهـــم بالآخـــر من وجهـــة نظـــره، وكيف يمكن أن تقوى التربية على تغييــر المجتمـــع نحــو الأفضل والتربية قادرة عليـــه، فيما إذا كانت مســـتندة الى مبــادئ الإســــلام الصحيـــح وتأخـــذ بنظـــر الاعتبـــار التطــور الحاصــل في الحاضر، من خلال هــذا الربـــط بيــن الأصـــالة والحـــداثة يمكــن أن تــؤدي دورا” رائـــدا”في التغييـــر إذا ما انطلقت مــن الــواقـــع الحـــي تــدرســـه وتوجهـــه (وكلما كانت الإصلاحات أعمق كلما كان التغيير في المجتمع أســـرع وأخطـــر)  كمــا يحـــدث فــي عصــرنا، وفي الخاتمـــة صنفت المؤلفــة إســـهامات الشـــيخ محمـــد عبـــده بأصناف عـــدة (دينيــة، منهجيـــة، حــداثوية، تــربوية، ســياســــية) وأشارة إليها بوضــوح في 16 نقطة، لتخلص في الخاتمـــة الى القـــول (حقـــا” لقـــد كان الشــــيخ محمــــد عبـــده واحـــدا” مـــن أبــرز المفكـــرين فـــي عصـــره، ودفـــع طروحاتــه الفكـــرية العـــديد مــن الباحثيـــن لأن يعّــدونه زعيمــا” ومفكـــرا” وفيلــسوفا” تكمن في أفكاره ما يمكـــن أن تســتنبط منـــه تحليلات عـــديدة فـــي مجــال الحيـــاة برمتــــــها .  الكتــاب من إصــدارات بيت الحكمـــة ببغـــداد – 2013- ويقــــع بـ160 صفحــــة.

 

مشاركة