جامعة العقـلاء

 جامعة العقـلاء

حسن حنفي

 إنها الجامعة، جامعة الحوار حيث تتعدد المدارس الفكرية والتيارات في الآداب والحقوق ودار العلوم.

 وربما تنضم إليها الهندسة من خارج الأسوار والعلوم والتجارة من داخل الأسوار. هي الجامعة حيث السؤال  والجواب. الطالب يسأل. والأستاذ يجيب. والإدارة تحافظ على الأمن. وتوفر كل أساليب الهدوء والاطمئنان.

 فالمكان مكان علم. والجامعة موطن هدوء واستقرار. بالرغم من تعدد المدارس واختلاف التيارات. ويحاور البعض البعض الآخر.

 وينطلق الرصاص الحى بين المصريين لا فرق بين شرطة وجيش من ناحية، وطلبة من ناحية أخرى. ويسيل الدم من الفريقين. وتمتلئ المستشفيات. وتحزن الأسر. وتشتد القلوب. وتتعصب فى مواقفها. ولا ينفع ماء أو خراطيش  لتفريق المتظاهرين.

 ويتم الاقتتال في الداخل بين الكليات والمدرجات، وفي مكاتب الأساتذة والعمداء، في الداخل وفي الخارج.في الداخل طبقا للوصايا، وفي الخارج على باب الأسوار. ويصل الاقتتال إلى حد حرق الكليات، وضرب  العمداء. والشرطة والجيش على الأبواب وعلى حافة الأسوار. ويسيل الدم لصالح مَن مِن أبناء الوطن؟ والدم  مازال يسيل. ولا نهاية للخصام أو المصالحة. فلا القيادة على حد أعلى من المسؤولية. ولا الشباب على حد  أدنى من المصالحة. وكأن الخصام إلى الأبد.

 أليس الحوار هو الحل؟ أليس سماع الرأي الآخر هو التقرب إليه؟ وماذا يفعل الأستاذ إن لم يعرض كل الآراء  ويستعرض آراء الطلبة فيه؟ وهل يتصلب كل الطلاب لكل ما يسمعونه من آراء من الطلاب كي يفحصوها عن قرب ويتبادلوها، ويصلوا إلى حل وسط؟ وطالما امتلأت الروايات بالحوار بعد الخصام، وبالمصالحة بعد العتاب.

 وطالما انتهت الروايات السينمائية والمسرحية إلى نهاية سعيدة بعد طول صراع درامى هو قلب المسرحية.

 وأين يتم الصراع؟ في الأزهر، موطن الإسلام، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومشيخة الأزهر، وكلها مواطن شبه مقدسة، بارئة من الخطأ، وقد نال الأزهر احترام رجاله وشعبه، والوقوف دفاعا عن نفسه؟ لقد خرجت منه شرعية السلطات السياسية. ومنه خرجت الثورات الوطنية. وخرج منه الكبار، كبار المشايخ الذين يقومون  بدار الإفتاء. وهم الذين يخرجون من الشروق إلى الغروب للصلاة وللعبادة وهم الذين يقومون بالمثل الأعلى  للمؤمنين. ويصححون كل محتاج.

 وجامعة القاهرة أولى الجامعات التى اتحدت مع نهضة مصر. واتحدت مع حركة مصر الوطنية عام 1919 بعد نشأتها 1925، وإقامتها على أرض إحدى الأميرات، فاطمة إسماعيل، مع حديقة الأورمان وحديقة الحيوان التى أصبحت فيما بعد وقت الصراع بين الجامعة والإخوان تمثال نهضة مصر وهو أيضا من معالم ثورة 1919 على يد مثال مصر العظيم مختار. فكيف تنحرف كل هذه الآثار إلى غير مصدرها أو هدفها؟ أصبحت تجرى كلها حول السلطة وترفض العقل والعلم. مع أن الجامعة إنما نشأت لهذين الفرعين من العلوم: الآداب والعلوم.

 ومنذ أن خضعت الجامعات لسلطة الدولة فإن استقلالها أصبح مشكوكا فيه سواء عن طريق الشرطة والجيش  بداخلها أم بالسلطات الجامعية بداخلها والتي تأتمر بأوامر الدولة. وفي كلتا الحالتين أصبحت الجامعة  جزءا من الدولة وفى حمايتها. والدولة هي السلطة. والسلطة هي الشرطة والجيش. صحيح أنها تعتمد على  العقل في البحث العلمى وعلى العلم فى تأسيس أسسه إلا أن بقايا الخرافات والخزعبلات مازالت باقية فيها. وكانت الجامعة لها الأولوية في انتقاء العلماء مثل مشرفة علم الطبيعة، وطه حسين الأديب والروائي  والمؤرخ. ليس للتدريس وحده بل أيضا لمحاولة الإبداع خارج النصوص. والتصق اسم طه حسين بجامعة القاهرة حيث أنشأ كلية الآداب وأقسامها المميزة، الآداب والفرنسية والإنكليزية والدراسات اليونانية واللاتينية  والفلسفة إلى آخر ما يشعر بها بأنها كانت جديرة بالآداب وليس العلوم أو التجارة أو الهندسة. وشهداء الجامعة على البوابة الكبرى رمزا للشهداء. لا تليق بأن يعلق عليها الطلاب لافتاتهم. إنما هى ذكرى  للشهداء وحدهم، شهداء الحركة الوطنية منذ ثورة 1919 مرورا بثورة 1952 وبدوراتها الثلاث،  استشهاد 1970، ثم موت 1980 ثم الثورة الأخيرة 2011.

 والآن روح مصر هي السائدة. فقد مرت منذ عام حتى . انتفضت قومة رجل واحد، رجلا وامرأة،  بلا فرق بين طفل وشيخ، صبي وفتى. وكانت تنتفض بين حين وآخر حتى أتت ثورة الربيع العربى مع باقي  الثورات ولكنا تدل على نفضات قلب مازال حيا فيحيا الجسد كله إلى أن جاءت انتفاضة الحياة الكبرى فى  ينار 2011 فرفعت الغبار الذي عليها وغيرت جلدها الميت إلى جلد حي، وبيئتها الفاسدة إلى بيئة صالحة.

 ويحتاج الجسد إلى وقت للشفاء الكامل. وتصحو الجامعة بأساتذتها وطلابها ورؤسائها وعمدائها وأمنائها  وأمنها الداخلى. فالجامعة موطن قلم وليست موطن سلاح. وقد قال بيتهوفن بعد أن هزمه فشته بعد أن وجه  نداءات إلى الأمة الألمانية “لقد هزم القلم السيف”.

 الجامعة ليست مصنعا به آلاف العمال أو متجرا به آلاف التجار أو مؤسسة بها آلاف الموظفين ولكنها موطن  علم واستنارة وقدرة على التخاطب، السؤال والجواب فى بيئة سلمية تثير الفكر وليس الغضب. وتبعث على  السلم وليس العنف. فالعقل هو القاسم المشترك بين الأستاذ والطالب أو بين الأستاذ والأستاذ أو بين  الطالب والطالب، والخلاف والاتفاق يكون على القضايا العامة، قضايا الوطن والذي يستطيع المثقف وحده أن  يتناوله دون مصلحة حزب أو طبقة أو طائفة أو جماعة. ويتحول الصراع اليدوي إلى نقاش عقلي. يكفي قضايا التنمية الثقافية التى مازالت تؤرق الوطن على النحو التالي:

 1- تنمية سيناء ثقافيا بإنشاء دور ثقافة على مسئولية وزارة الثقافة ثم وضع برنامج لها لربط شبه الجزيرة بالوادي ثقافيا أي وطنيا بمساعدة أساتذة التنمية وطلبتها في الكليات حتى لا يعود هناك فرق  بين الجزأين من الوطن. وتشمل الثقافة اللغة والفن الشعبي والتاريخ خوفا من مخاطر الانفصال الذهني قبل  السياسي.

 2- وضع برامج تنموية عامة لمصر بحيث تنمى الصحراء والواحات والمياه الجوفية والسواحل والمياه  الضائعة في البحر والأراضى المنزرعة الضائعة المبنية. ويمثل مشروع البحيرة أو السد العالي اللذان كانا يمثلهما جيل عبد الناصر. وهو مشروع قومى لرفع ربع سكان مصر فوق حد الفقر وإعادة بناء  العشوائيات التي أصبحت خزيا فى تاريخ مصر في القرن الواحد والعشرين. ويستمر المشروع القومي بربط  الواحات بالوادي بفضل الجامعة. تستطيع الجامعة أن تبدأ حوارا وطنيا بين الشقين المتخاصمين الوطنيين،  الحكومة والمعارضة أو العلمانيين والإسلاميين لإيجاد الاتفاق بينهما والخلاف. الاتفاق للتعاون عليه،  الخلاف للمسامحة فيه. تعمل الجامعات وخاصة صيفا بمشروع قومي يميزها أو كل جامعة بمشروع قومي خاص يُعرف باسمها. ويكون الصراع مع الأرض والجبال والصحراء والبحار والأنهار. ويكون المشروع القومي مع الأمية. فمازال 40 بالمئة من شعب مصر أميا. وهذا ليست فقط مسؤولية الحكومة التي عجزت عن القضاء عليها فى السنوات الماضية كما فعلت الدول المتحررة حديثا مثل كوبا وفيتنام. ينزل الجامعيون صيفا، أساتذة  وطلابا، في القرى وفي التجمعات السكانية الكبيرة كالمصانع أو استعمال المدارس والمساجد بعد الظهر لمحو الأمية بدلا من الشكوى منها وبالتالي من الجهل السياسي.

 الجامعة هي جامعة العقلاء وليست جامعة الغضبى والمتعصبين والحارقين والكاسرين، جامعة ثورة 25 يناير  كما كانت جامعة  ثورة 1919.

مشاركة