جاكي كاي: الشعر صوت من لا صوت لهم
ازدواج الهوية بحثاً عن مكان في هذا العالم
ترجمة وتقديم: عواد ناصر
مثل كثيرين غيرها في هذا العالم وضعتها هويتها المزدوجة أمام سؤال الذات المبدعة، وهو سؤال تطرحه الأجيال الشابة من عالمنا العربي المهاجر، مبدعين ومواطنين عاديين، إذ تتشظي روح المواطنة بين جذور بعيدة وغامضة وأغصان تورق في الغربة، وسواء عاش المواطن المزدوج في بلد يؤمن له حياة ثقافية تتيح التعبير الحر عن تجربته الخاصة أم لا، فإنه لا يني يطرح سؤال الهوية: هل أنا ذاك الطفل الذي ولد في المكان الأول أم أنا هذا الذي أقيم الآن في المكان الثاني؟
الشعراء أكثر المخلوقات حساسية إزاء ازدواج المكان والهوية.
بخلاف ثقافتنا العراقية التي انشغلت، وقتاً، بسؤال “ثقافة الداخل والخارج” الذي أملته آيديولوجية الثقافة، لا الثقافة نفسها، يطرح المثقف، مزدوج الشخصية السؤال نفسه، ولكن من خلال تجربته الشخصية، التباساً ومعني وحيرة، أي ليس سؤالاً ابتزازياً يطرحه المقيمون في ثقافة المكان الأول.
أكتب لأردّ الشتيمة
هذا أحد الجوانب الرئيسة في اللقاء الشيق مع الشاعرة جاكي المولودة في سكوتلاندا لأب نيجيري وأم سكوتلاندية، أما الجوانب الآخري فتكشف عن تجربتها الابداعية في الشعر والرواية والكتابة للأطفال – أكثرهم، بخلافنا، يكتبون للأطفال كما أشرت في ترجمة سالفة للروائي جيمس باترسون في عدد سابق من »الزمان« – كما أنها قد تثير حفيظة أولئك الشعراء والنقاد الذين لا يرون للشعر دوراً في الحياة العامة: شعر قضية. أي أن “يستعمل” الشعر من أجل غاية ما، خصوصاً “آيديولوجية” عي اعتبار أن الشعر قضية بحد ذاته. لكن هذه الشاعرة لا تجد غير الشعر “ملاذاً” حسب تعبيرها درءاً للعدوان الخارجي الذي يتعرض له أمثالها من ذوي السحنات السمراء. هي تقول: ماذا علي سوي أن أعود إلي البيت لأنتقم “شعراً” من أولئك الذين يشتمونني بسبب سحنتي الملونة؟
علي أي حال: الشعر طريق حياة، مثلما الحياة طريق للشعر.
ولدت الشاعرة جاكي كاي عام 1961 في أدنبره لأب نيجري وأم سكوتلاندية، وفكرة بحثها الأساسية هي البحث في أزمة الهوية المركبة في حياتها.
أهتمت، أيضاً، بأنواع متعددة من التراث التي ألهمتها كتابة ديوانها الشعري الأول.
وكان بعنوان »أوراق بالتبني« لأن زوجين من البيض تبنياها عندما كانت طفلة، وقوبل باستقبال كبير، وفاز بجائزة المجلس الاسكوتلاندي للفنون، إضافة إلي جوائز أخري.
في مجموعاتها الشعرية وروياتها الأولي »ترامبيت = بوق أو نفير« واصلت كاي البحث في الهوية الثقافية والجنسية ارتباطاً بالحميمية واضطرابات الحب.
كتبت هذه الشاعرة قصائد للأطفال، أيضاً، ورواية أولي لهم بعنوان »Strawgirl) نشرت عام 2002.
تقيم الشاعرة، الآن، في مانشيستر.
هنا لقاء متلفز معها أنتجته آن روسينفلد لموقع “أرشيف الشعر”:
س: ما ضرورة الشعر؟
ج: تكمن هذه الضرورة في أن الشعر ينظم في كلمات ما لم تستطيع قوله بصيغة أخري، غالباً، وهو أيضاً يتيح للناس التعبير عن الحب والحزن والفقدان واللحظات الكثيفة، الانفعالية، في حيواتهم، ويلتقط تلكم اللحظات التي يغالبونها، ونحن أيضاً، بطرق متنوعة خلال الحياة، والتي لا يمكن أن تكون مفصلية، عادة. حقيقة، الشعر هو صوت من لا صوت له.
س: متي اكتشفت الشعر؟
ج: كنت أذهب إلي جمعية تحتفي بالشاعر الاسكوتلاندي روبرت بيرنز »الذي كان يكتب العديد من اشعاره باللهجة الاسكوتلاندية« ويحتفي بعيد ميلاده في 25
كانون الثاني، من كل عام، وكان أحد الأشخاص يحشو قطعة نقانق كبيرة وهي أكلة شهيرة في اسكوتلاندا تسمي “هاغيت” ثم يمسك أحدهم بسكين بينما يرددون بيتاً من شعر روبرت بيرنز باللهجة الاسكوتلاندية.. بيت يغازل فيه الشاعر “الهاغيت” بعد ذلك يتم طعنها بسكين لتنفتح .. كنت أندهش من تحول الشعر الي موضوع درامي واضح المعاني وكيف يصبح مادة لمناسبة بسيطة تتخلص بتناول وجبة شعبية.
المكان الأول
س: ما الذي دفعك لكتابة الشعر؟
ج: بدأت الشعر وأنا شابة »11 أو 12 من عمري« عندما شعرت بأن ثمة أخطاء في هذا العالم، لذا حاولت كتابة قصائد عقائدية عن التمييز العنصري والسلام. القصيدة، بالنسبة لي، لحظات صغيرة من الإيمان.
غالبية قصائدي المبكرة، وأنا شابة، جاءت جدلية بطريقة ما، ولم تعط القارئ فرصة للتفكير بنفسه.. قصائد تدفع الناس إلي ما ينبغي التفكير فيه.
اعتدت أن أكتب الشعر في البيت نوعاً من الانتقام عندما كانت تطلق بوجهي مفردات عنصرية في مكان عام، وهذا ما يهدئني، أي أن القصيدة هي ملاذ ما.. إنها المكان الذي لا مكان سواه لتذهب إليه.. وما زلت أعتقد بأن الخيال، مكاناً، نوع من اللجوء، لأنه يساعدك، في مختلف الأوقات، وبصيغ متعددة، وفي أوقات مختلفة.. الخيال أداة جبارة بطريقة من الطرق، كما يحدث للناس، في مختلف الظروف، وفي أوقات الحرب.. وعند الحاجة، وأظن أن الدافع الأول ليصبح المرء كاتباً هو، في المقام الأول، حدث كبير في حياته، كأن يكون، ربما، مرضاَ خطيراً أو موت أحد الوالدين، أو شعوره بأنه يعيش خارج المجتمع الذي يعيش في كنفه، ولكن في مقابل هذا كله يحتاج الكاتب إلي أن ينطلق من المكان الأول.
س: كيف تبدأ القصيدة بالتشكل؟
ج: تبدأ القصيدة، حقاً، علي شكل صوت.. صوت القصيدة. إذا التقطت هذا الصوت بشكل صائب، وكذلك الإيقاع، عندها بمقدوري أن أستمر مع القصيدة حتي لو كان الصوت غنائياً، أو إنه صوت مجرد.. أو إنه مرئي بالنسبة لي علي شكل مادة ملموسة. هذا ما يحدث لي لتنطلق القصيدة.
أحياناً، تشكل لدي الأساليب التي يتكلم بها الناس، في منطقة ما، مفتاحاً لقصيدة، إذ كثيراً ما أحب أساليب التعبير أو أشكال النطق الخاصة بمنطقة محددة.
موسيقي الأصوات البشرية
س: ما الذي تلجئين إليه لتمضي كتابتك بشكل جيد؟
ج: ما يساعد الكاتب في عمله أكثر، ربما، هو وجود فضاء ما في حياته. أي أن لا يكون محصوراً تحت ضغط المشاغل بطريقة مضحكة. الكاتب يحتاج إلي فسحة من الوقت لكي لا يشعر بالجزع، أو الكمد أنه لا يكتب، عملياً، ولكي يكتب فهو بحاجة ماسة ليخلق فضاء كافياً حول نفسه ويعطي عقله الوقت الكافي لبلوغ لحظة الكتابة.. إننا مشغولون دائماً وتحت ضغط الوقت، هذا من ناحية، أما الناحية الأخري فهي اللجوء إلي الطبيعة، ذلك أنني أهوي التمتع بالطبيعة، حيث الريف. المشهد الطبيعي هو بمثابة غرفة، وشخصياً أحب أن تكون لي غرفة خاصة.
س: ما علاقة صوت كلامك وذاك الصوت الذي يتجسد علي الورقة؟
ج: لا أعتقد أن صوت كلامي المحدد ذو تأثير كبير علي طريقتي بالكتابة، بتاتاً، لأنني أعمل، في أغلب الأحيان علي التقاط أصوات الناس. أحب أن أكتب ضمن نطاق أصوات ولهجات متنوعة وليس ضمن اللهجات السكوتلاندية، حسب، بل في اللهجات الشعبية والكاريبية »…« كل الذي أعرفه هو أنني أريد تلك الأصوات التي تفرض نفسها لتكون بالنتيجة مبهمة، وملحة، حيث ثمة شيء مهم تود قوله مما يشغل الناس وما يعتقدون بأنه يتعلق بتلك الأصوات بطريقة ما.
إن أفضل شيء هو عندما يقرأ الناس فقرة تعجبهم فيهتفون: هذا أنا.. وهو لأمر يثير الحماس عندما يكتشفون في النص ما هو مفيد وما يعبر عن حياتهم، وربما ما يساعدهم.
س: ما تأثير الموسيقي في عملك؟
ج: الموسيقي تؤثر في عملي بشكل ملحوظ، خصوصاً تلك التي أستمع إليها باستمرار كالجاز و “البلوز”بحكم كوني سكوتلاندية سوداء.
كثيراً ما تكون الموسيقي جسراً للتعبير لأنني أنحدر من جذور متعددة لا أجد الثقة الكافية للكتابة بأصوات كاريبية أفريقية.
كتبت كثيراً عن موسيقي الجاز، لأن هذه الموسيقي مثار اهتمامي فهي صيغة رشيقة ونابعة من الشجن وأنا أحب فكرة أن الموسيقي السوداء تتميز بطاقة علي التغيير.
س: هل ثمة نصيحة تلقيتها ساعدتك، أو ألهمتك الكتابة في بداياتك؟
ج: ذهبت مرة للقاء كاتب سكوتلاندي هو ألاسدير غراي، وكنت في السادسة عشرة، وأستاذي في اللغة الإنكليزية هو من أرسلني له، قال لي غراي: لا شك في أنك كاتبة!
كان هذا دافعاً كبيراً لي، حقاً، لأنه قال: أنت كاتبة. إنه من الصعب أن تجيبي علي سؤال من مصففة الشعر حول مهنتك لتقولي: أنا كاتبة. لكنني أود أن أقول للكاتب: من الأهمية بمكان أن تنظر إلي نفسك ككاتب، وأن لك الحق في أن تدعو نفسك كاتباً.
وعندما التقيت الكاتبة الأمريكية »من أصل أفريقي« أودري لورد قابلتني بمزيد من الدعم وقد أدركت ازدواج هويتي فلا أنا اسكوتلاندية ولا أفريقية، قالت: أنت كلاهما.
/2/2012 Issue 4122 – Date 14- Azzaman International Newspape
جريدة »الزمان« الدولية – العدد 4122 – التاريخ 14/2/2012
AZP09