

بمناسبة الذكرى الثانية بعد المئة لانطلاق ثورة العراقيين الكبرى
ثورة العشرين بين كمّاشتي علي الوردي – نادية هناوي
( إلقاء اللوم) صناعة تبتدع لأغراض نفسية معينة ويعتمد في تطبيقها أساليب التقريع والندم والتبكيت بشكل قسري قاس ومتعمد ويكون للخيال دور في إعلاء مستوى ما تتركه تلك اللائمية في نفس الملومين من قهر واستفزاز وبطريقة تقريعية، لكنها أيضا قد تكون مشوّقة واقناعية. وهذه الصناعة نجدها واضحة في مؤاخذات الدكتور علي الوردي للعراقيين بالمجموع والتي تتبدى واضحة في الجزء الخامس من كتابه( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) بقسميه الأول والثاني وفيه نجده يلوم العراقيين الذين كانوا (في أواخر العهد التركي قد ابغضوا ذلك العهد بغضاً شديداً وتمنوا زواله ولكنهم الان صاروا يبغضون العهد الجديد ويتمنون أن ياتي الاتراك لانقاذهم منه) كأن للعراقيين يداً في أن يحتلهم المحتلون فيأتون بهذا أو ذاك بطرا وبحسب أهوائهم.
ولا جرم أن في هذه الاطلاقية تعميمياً ولا موضوعية فضلا عن التناسي لأمر القوة الغاشمة التي لا تصرع الوحدة الوطنية حسب، بل تقدر أيضا على تفتيت لحمتها الشعبية برمتها. ولو طبقنا قول الدكتور الوردي على مجيء الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 لعرفنا أن وجهة النظر هذه صناعة أساسها اللوم والتعميم بلا دقة تقتضيها الوظيفة التاريخية.
وسيتقن هذه الصناعة أعني صناعة اللوم كاتب سيأتي لاحقاً وسيوظفها في كتاباته هو( كنعان مكية ) الذي صوّر الخوف جزءاً تكوينياً من مكونات العراقيين يلازمهم باستمرار وأن الالاف من الناس العاديين ـ برأيه ـ كانوا متورطين في العنف الدكتاتوري في أغلب الحالات فلم يكن لهؤلاء خيار في هذا الامر.. وهنا نتساءل : أ يجوز أن تُلام الاكثرية المغلوبة على أمرها بقسوة الاقلية المتسلطة عليها ؟! وهل من المنطقي أن نبني على الاستثنائي من الظروف الراهنة والحوادث المنصرمة عُقدا مَرضية ونضع وصمات جينالوجية نطبع بها جسد الامة ونوشم جبينها ماضيا ومستقبلا؟ ولماذا ينسى الوردي أن العراقيين مثلهم مثل أي شعب ليس لهم يد في مجيء قوى غاشمة لاحتلال بلادهم ؟ ولماذا لا يؤاخذ الذين احتلوا البلاد واستغلوا ثرواتها بدلا من مؤاخذة العراقيين؟
إن الباحث المحمل بفكرة ما سابقة، سيبقى مقيداً في تعليلاته وتأويلاته بأوتدة تسمره عند تلك الفكرة منشدا إليها فلا يستطيع منها فكاكا، وتتضح نقاط التسمر هذه على مستويات متعددة، يكون فيها الباحث مسيرا لا مخيرا وهو يعرض الاثباتات أو يقدم الأدلة ويدلي بالحجج. وبالشكل الذي تتضامن فيه الصورة السابقة المتمثلة بالتحيز لوجهة نظر معينة مع الصورة الحالية المتمثلة بالتسمر، وهو ما نجده في نقد الدكتور علي الوردي لثورة العراقيين الكبرى( ثورة العشرين) واول نقده تمثل في بحثه عن أسباب قيام الثورة أو العوامل التي ساهمت في إحداثها. فوجد أن أول ما ساهم في قيام هذه الثورة ليس التحريض الثوري بوازع وطني داخلي، وإنما هي الدعايات التي أتت من الخارج (سوريا وتركيا وروسيا البلشفية( جاء دعاة البلشفية الى العراق في زي زوار وطلبة ايرانيين فقد ورد في تقرير للاستخبارات الانكليزية في العراق: أن أخبار البلاشفة متداولة في العتبات المقدسة.. وهي تلقى لدى السكان عطفا وتأييدا) أما مصدره الذي يثبته في الهامش فيكتبه هكذا( Atiyyah ) ولا ندري من هو عطية هذا ؟!
ولا يخفى أن الأفكار البلشفية والاشتراكية الماركسية لم تدخل العراق في إطار دعاية منظمة وإنما هي رياح الفكر الماركسي القادمة من ألمانيا وليس روسيا، والتي وصلت العراق وبعض بلدان الشرق الأوسط قبل ثورة العشرين، وكان لنشاط حسين الرحّال وتعرفه على ارسين كيدور عام 1914 ثم سفره إلى ألمانيا واطلاعه على الأطروحات الثورية للحركات الاشتراكية الألمانية الأثر المهم في تأسيس حلقات الماركسية الأولى ومن ثم تأسيس الحزب الشيوعي العراقي فيما بعد.
أما إشارة الوردي إلى أن الانكليز كان قد تذمروا من هذا الوضع أي من هذه الدعايات المغرضة وتبدلات الظروف لاسيما بعد ذهاب كوكس وحلول ويلسون بدله وذهاب ماكمون وحلول الجنرال هالدين محله في قيادة القوات الانكليزية وكذلك موت السيد كاظم اليزدي وحلول ميرزا تقي الشيرازي محله، فإن فيها توكيدا لتسمر الوردي عند وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر ضابط اسمه كابتن لايل ذكر أنه وأمثاله كانوا يؤمنون بما يسمى( رسالة الرجل الأبيض وهي تمدين الشعوب وأن العراقيين في نظرهم متوحشون وبحاجة إلى أن يحكمهم البريطانيون مئة سنة على الأقل لكي يتعلموا كيف يحكمون أنفسهم) مبرئا بذلك المحتل من العدوان ومظهرا إياه بمظهر متمدن يريد خدمة العراق وليس احتلاله واستغلال ثرواته.
وتعزيزا لهذه التسمرية عند فكرة لوم العراقيين على ثورتهم ضد المحتل البريطاني، يأتي علي الوردي بالقصص التي تدلل على انقسام العراقيين حول الثورة نافيا عنهم السمة الوطنية، ومنها قصة الاستنفار الذي وصل بغداد من النجف وكربلاء وكيف أثار في المجتمع البغدادي جوا من التوتر والصراع حيث انقسم البغداديون إلى فريقين يشتم كل منهما الاخر ويوجه إليه التهم القبيحة. ومصدره تقارير سرية فيها يبدو الانجليز متفاجئين مفاجأة غير مفهومة متسائلين كيف يثور العراقيون عليهم وهم يرون لاول مرة في تاريخهم أن الحكام( أي الانجليز) يسألون رعاياهم ما هو نوع الحكم الذي ترغبون فيه ؟ ومن هو الحاكم الذي تريدون ؟
ونحن نتساءل: هل نعد نحن ايضا الانجليز حكاما والعراقيين رعايا لهم ؟! وإذا كان الامر مفهوما على انه موضوعية المؤرخ في رواية ما لديه من وثائق، أيا كانت هذه الوثائق مطابقة أو غير مطابقة، فلماذا اذن لا يكون موضوعيا ويتحرى مدى صحة التقرير السري الذي مصدره( عطية Atiyyah) وهو يجعل القائل عراقيا يجاهر بلا وطنية وأنه يوالي أي محتل بلا تردد ” انتم لو عينتم علينا حاكما نصرانيا او يهوديا او عبدا زنجيا كان ذلك بالنسبة لي حكومة” ؟ فهل يمثِّل هذا الواحد المجموع العراقي كله آنذاك ؟ الجواب بحسب تعقيب الدكتور الوردي موجب وهو( إن هذا القول الذي فاه به هذا الرجل يمثل لنا مستوى التفكير السياسي لدى أكثر الناس في تلك الايام ونحن إذ نريد أن ندرس أحداث تلك الايام لا يجوز لنا ان ننظر فيها بمنظار أيامنا الراهنة)، وبالطبع لا نعد ذلك تعليلا ولا تأويلا إنما هو تسمر عند أحادية النظرة والوثيقة تصديقا بتاريخيتها، وكأن ما ورد فيها من أخبار واقوال هو تام وكامل لا مجال للرد عليه أو رفضه.
وما انفك الوردي يؤكد وهو يؤرخ لاندلاع الثورة أن الثورة ليست نتيجة إحساس وطني وأن الروح الوطنية ما كان لها داع لكن الاستفتاء كان حافزا لنشوء (ما نسميه بالحركة الوطنية في العراق وهي الحركة التي تبناها المعارضون للحكم البريطاني واتخذوا فكرة الاستقلال لهم شعارا) ولكنه يذكر أن هناك أمورا سبقت الاستفتاء منها وجود احزاب سرية كحزب الاستقلال وحزب العهد ووطنيين متعلمين فتحوا مدرسة اهلية ثانوية لتكون سببا في تأجيج الروح الوطنية في بغداد. وهو أمر دفع الوردي لأن يؤاخذ الانجليز كيف أنهم نسوا أمر هذه المدرسة وما كان عليهم أن ينسوا أمرها قائلا: ( لم يعر الانكليز أي اهتمام لنشاط المدرسة بل تركوها حرة تفعل ما تشاء ثم تبين.. انهم كانوا في ذلك مخطئين) ويردف مؤاخذته بقول المس بيل:” ولم يتحدث ( أي ويلسون) عن تأسيس مدارس بنات بل تحدث عن تأسيس حزب”ويعقب الوردي:( وهذا يدل على جهله بالطبيعة البشرية فإن الكلام مهما كان معسولا لا يمكن أن يؤثر في الفعل البشري الا اذا كان العقل مستعدا للتأثر به)، مبينا أن ويلسون لم يكن قد فهم بعد طبيعة البشر العراقي وظن أنه بمثل هذا الكلام المعسول سيقنع العراقيين.
ويبدو أن ثقة الدكتور الوردي بمذكرات المس بيل تجعل أمر التسمر عندها فعلا يتعدى التارخة الى التاويل الذي بدا هذه المرة اجتماعيا فيه يصف الفرد العراقي بالجلافة التي لا تنفع معها مرونة ولا لين. بيد أننا لا نجد عند الوردي هذا التسمر حين ينقل مرويات من مذكرات عراقية فيشكك فيها بينما لا يشكك في مذكرات المس بيل، ومن ذلك ما نقله البوشهري عن الشيرازي أنه زاره في احد الايام فاخذ الشيرازي يلومه على اعماله ومنها انه فتح مدرسة بنات ويتبع الوردي هذا الخبر بالقول: ( لست واثقا من صحة هذه الرواية التي حدثني البوشهري بها واعتقد أن الشيرازي كان ارفع شأنا وأكثر تعقلا) مضيفا أن البوشهري كان يتظاهر بالتشيع. ولو كانت رواية البوشهري تماشي نزوعه لصدقها ولكنها لا تخدمه لذلك شكك فيها.
القسم الثاني
إذا كان التسمر التاريخي قد أفاد في تأكيد أن الحركة الوطنية ما كانت بالمعنى الاصطلاحي للكلمة مؤكدة وحاصلة عند قيام ثورين العشرين وعند انتهائها؛ فإن تأويل الدكتور علي الوردي الاجتماعي لبعض أحداث الثورة سيعزز الأمر عبر تصوير مسألة التفكير في قيامها بأنه كان بدوافع سلمية وأن ثورة العشرين ليست مسلحة ضد الانجليز ولا ظهر تسليحها عند سادة العشائر في الفرات الاوسط وخاصة المشخاب. ووراء ذلك اسباب هي ـ بحسب الدكتور الوردي ـ أدت إلى التفكير في الثورة وحددها بـما يلي :
أ : الخصوصية الجينالوجية للعشائر العراقية وقيمها البدوية التي تحافظ عليها.ب: أن منطقة الفرات الاوسط هي مركز التشيع في العالم الاسلامي وأن فيها عائلات علوية تجمع الرئاسة بالقدسية وهو ما يضطر الناس للاستجابة لهم والا فقدوا مكانتهم الدينية.ج : أن النزعة السياسية والجدل السياسي عندهم اكثر من غيرهم. د: أن شق نهر الهندية ولد نزاعا هائلا بين العشائر حول الاراضي .ه : زراعة الرز جعلها الاغنى زراعيا في الدولة العثمانية حتى وصفتها احد التقارير البريطانية بأنها حديقة العراق.
واستند الدكتور الوردي في إقراره عدم وجود حركة وطنية حقيقية إلى الوثائق السرية الانجليزية التي تقول إن لا ثورة حصلت وإنما اعتداء وسلب ونهب توضح من اول شرارة كانت قد انطلقت من تلعفر حتى اطلق الوردي على حركة الثوار اسم (احتلال تلعفر) ( فاحتلوا الابنية فيها ونهبوها نهبا ذريعا) وكيف تكون نهبا وهي التي التحق في ركبها شيوخ مثل الشيخ الضاري وقادة من بغداد والنجف وكربلاء والانبار وغيرها من مناطق العراق كدليل على تجاوز الطائفية وأن الفعل الوطني هو الذي ساد.
وطبيعي في من يرى في الوطنية نهبا أن يستغرب التقارب الذي حصل في بغداد بين السنة والشيعة، فتعجب الدكتور الوردي كيف يكون المولد بجنب التعزية ولم يصدق أن يكون هناك عامل وطني وراء الرواية عن حادثة الحيدر خانة و( شهيد الوطن) ووضعه بين قوسين ولو كانت الرواية وردت في مذكرات المس بيل لما تردد الوردي في تصديقها.
احداث الثورة
وقد روى كاظم الدجيلي احداث ثورة العشرين في مذكراته الصادرة عام 1973 وفيها بين أن الشهيد لم يكن سوى رجل اخرس وبيده مطرقة لكن وجوده في شارع الحيدرخانة تصادف مع قيام مظاهرة احتجاجية في الشارع على اثر اعتقال عيسى عبد القادر اليريزلي وكانت جماعات من بعض المحلات البعيدة، تدق طبولها وتهوس قائلة: ( الدين يا محمد والموت بالجهنم)، فامتلأت ساحة الجامع بالناس وفاضوا الى الشارع العام وامتنع المرور في الشارع لشدة الزحام. وخشيت السلطة (يقصد الاحتلال) من مغبة هذا التظاهر فارسلت عددا من الجنود واربع سيارات مصفحة لارهاب الجمهور وهنا ظهر بين الجمهور هذا الرجل الاخرس وبيده مطرقته كان يحملها لانه كان نجارا متجولا فتقدم نحو السيارة بغية الهجوم عليها بمطرقته فحرك السائق تحركا مفاجئا جعل الرجل يسقط على الارض فمرت عجلات السيارة على ساقيه فحمله الجمهور الى المستشفى) ولا يرى الوردي في الحادثة بعدا وطنيا وإنما هو حزب الحرس الذي اراد أن يجعل من تشييع الجنازة مظاهرة وطنية كبرى يتحدى بها السلطة وهذا بحد ذاته هو دليل على وجود وعي وفعل وطنيين لدى قادة حزب الحرس.
بيد أن علي البزركان وهو أحد زعماء الحركة الوطنية المناهضين للانكليز وله مذكرات ايضا كان قد أكد خلاف ما ذكر الدجيلي لكن الوردي يظل مصرا على عدم التصديق بدليل وضعه كلمة الشهيد بين قوسين في قول البزركان : ( ومن هناك اتجهوا نحو مقبرة الشيخ جنيد حيث دفنوا جثمان (الشهيد )) تشكيكا في الرواية فضلا عن تغييبه ذكر النسوة العراقيات اللائي خرجن للتشييع والحادئة المعروفة التي ذكرتها صبيحة الشيخ داود في كتابها ( أول الطريق إلى النهضة النسوية في العراق)
وفي مقابل ذلك يسمي الدكتور الوردي المحتل (سلطة) من دون أن يصفها بـ(سلطة الاحتلال) مشيرا بايجابية إلى هذه السلطة ومشيدا بموقفها قائلا: ( مما يلفت النظر أن السلطة لم تتدخل في سير الجنازة بل ارسلت كوكبة من الفرسان يسيرون أمام موكب التشييع وكذلك حلقت ثلاث طائرات فوق الموكب) لكنه سيذكر في القسم الثاني من الجزء الخامس من كتابه( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) حنق الانجليز على المظاهرة والجمهور المشارك فيها ولاسيما زعمائها الوطنيين لها. فقد استدعى ويلسون اربعة من الوطنيين هم: أبو التمن والسويدي والشيخ داود والبزركان وحكم على الشيخ داود بالنفي الى جزيرة هنجام في الخليج العربي.
وآخر الروايات التي يوردها الوردي ما سمعه وهو جالس في سيارة أجرة ويذكرها من باب التدليل بها على احقيته في التشكيك بوطنية مظاهرة الحيدرخانة وأن الذي سقط فيها لم يكن شهيدا قائلا: ( وقد تعرفت مؤخرا على سائق سيارة في بغداد يدعي بانه ابن اخي الشهيد وان الشهيد اسمه سلمان شكر من سكنة محلة الست هدية) واول امر يفيده من هذه الرواية الشفاهية أن الاسم هو غير اسم عبد الكريم النجار الذي كان مشهورا بالاخرس ومن سكنة الحيدرخانة. علما ان هناك اتفاقا بين ما قاله عبد الرزاق الحسني في كتابه (الثورة العراقية الكبرى) وما ذكره البزركان في مذكراته عن هذا الشهيد وعن الشيخ داود، لكن هذا ليس مهما بالنسبة للوردي بل المهم عنده أن” ويلسون قرر عقب (مقتل) الاخرس أن يسمح للناس باقامة حفلات المولد والتعزية بلا تحديد ). وكما اختلف الوردي حول الشهيد الاخرس كذلك اختلف حول علاقة شعلان ابو الجون بالحركة الوطنية.
توافق تاريخي
وحصيلة هذا التوثيق التاريخي للمظاهرة تفسيرها بأنها كانت مسالة عابرة حصلت صدفة وليست وراءها مشاعر وطنية مبنية على قصدية جماهيرية وأن الاخرس هو قتيل الصدفة وليس شهيد الوطن. علما أن الوردي في كتاب الفه قبل ثلاثة عقود من كتابه( لمحات اجتماعية..) هو كتاب( مهزلة العقل البشري) كان قد أكد مسالة تاريخية وهي أن الاستعمار يظل واحدا في مآربه وهو يريد استغلال الشعوب المستعمرة ونهب خيراتها فقال: ( رأينا بعض الدول الحديثة تفتح الأمصار وهي تنادي جئنا محررين لا فاتحين..بحجة التمدن والتحرير ومن مفارقات التاريخ أن الشعب المفتوح ياخذ نفس الحجة التي جاء بها الفاتح فيقلبها عليه… فيقول اين التحرير ومن هنا يتحول الصراع الاجتماعي من صراع سيف الى صراع فكر)
أما تحامل الدكتور علي الوردي على الثورة فيتضح وهو يفسر التقارب الوطني الذي حصل بعد هذه الحادثة بانه استفحال طائفي، فقال متبنيا وجهة نظر المحتل:” استفحل التقارب الطائفي في النصف الثاني من رمضان بشكل لم يشهد العراق له مثيلا من قبل” ودليله على هذا الاستفحال( حفلات رمضان) ولا يقول مواكب او مجالس، متأثرا بويلسون الذي كان يستعمل كلمة حفلات في مذكراته. وتندر على إحدى( الحفلات) بحكايات سمعها ـ أي أنها لم تكن مدونة في مصدر موثوق ـ وهي أن الملا عثمان الموصلي كان ينتقل بين الاعظمية والكاظمية وهو شديد الحب لأهل البيت. وكان حرياً بالباحث المنصف أن يجد في مثل هذه الوقائع مسائل مشرقة تدلل على الوحدة والتاخي بين طوائف المجتمع العراقي. ولا غرابة فالموصلي مشهود له بالوطنية والوعي وتعرض الى السجن والنفي في العهد العثماني.
ولم يكتف الوردي بهذا التفسير بل علق على التضامن بين اهل بغداد بالقول: (من الجدير بالذكر أن كثيرا من وجهاء بغداد ومثقفيها كانوا غير راضين في قلوبهم عن تلك( الحفلات) ولكنهم كانوا مضطرين الى حضورها والى التبرع لها خوفا من غضب الجماهير ( ولا نعدم وجود مثل هذا الصنف من المثقفين في أي مكان وأوان. أما ما نقله عن المس بيل من أن هؤلاء كانوا يأتون إلى ويلسون ليعبروا عن استنكارهم لتلك الحفلات وليعتذروا عن التظاهر بمناصرتها..فلا ندري المقصد من ورائه، أهي رغبة الوردي نفي الوطنية عنهم أم هي توكيد خيانتهم لجماهيرهم وانهم كانوا ذوي وجهين بلا نضال ولا ضمائر؟! يبدو أن الذي أراده الوردي هو نفسه ما ارادته المس بيل التي نقل عنها قولها: (في أحد تقاريرها السرية اسم واحد من هؤلاء هو سليمان فيضي وكان طائفيا يكره الشيعة وقال ما نصه: انتم لا يمكن أن تتركوا الأمور تجري على هذا المنوال الذي.. فالهياج قد وصل الى درجة الخطر)
فهل نسى د. الوردي أن لسليمان فيضي مذكرات نشرها تحت عنوان( في غمرة النضال) كان عليه العودة اليها كي يتأكد من حقيقة ما ذكرته المس بيل عن هذا الرجل المناضل؟ ثم كيف يُعقل أن يكون الفيضي بهذا التواطؤ والطائفية وهو المعلم المثقف والسياسي الوطني المتحرر والمناضل صاحب القلم والروائي المفكر الذي كتب أول رواية عراقية عام 1919 هي ( الرواية الايقاظية) ومن اوائل من فتح مدرسة ابتدائية ؟!!.
امتد نفي الوردي الوطنية عن المثقفين البغداديين الى رجال الدين ايضا فما قاله ابن الشيرازي مثلا لرؤساء العشائر:”(هذا اليوم يومكم”) لا يعبر بحسب رأي الوردي عن انطلاق شرارة الثورة؛ بل هو مسألة شخصية ولم تكن له مقدمات مهمة، سوى انطلاقته من عشيرة الظوالم وبني حجيم التي هي فرع منها.
أما فتوى الشيرازي بانطلاق الثورة فيشك الوردي فيها ( انها غير مؤرخة على الرغم من اهميتها وقد اختلف المؤرخون في تحديد تاريخها .. يرجح في ظني ان الشيرازي اصدر فتواه بعدما اشتدت المعارك في الرميثة وفشلت محاولته في مفاوضة ويلسون). وهل ينفع الظن والتخمين عند من هو باحث ومؤرخ وله أدواته في الكشف والتحقيق ؟! ثم أن المفاوضة لم تكن محاولة بل هي قرار اتخذه الشيرازي بعد مشاورة أصحابه من اجل إيقاف القتال حقنا للدماء، ولم يقم هو بالتفاوض مباشرة وإنما ناب عنه في حمل رسالته إلى ويلسون السيد هبة الدين الشهرستاني والمرزا أحمد الخراساني.
ويخيل إليَّ أن المغالطة كانت أسلوبا ناجعا استعمله الوردي في تفسير بعض الروايات مقللا من المعاني الوطنية للثورة، فذكر مثلا أن عشائر الرميثة ظلت تقاتل الانكليز زهاء اسبوعين دون ان تسرع الى نجدتها عشيرة اخرى. والسبب برأيه هو ما كان بين عشائر الفرات الاوسط من عداوات قديمة واحقاد وثارات وأن “( الحكام الانجليز) يدركون ذلك فاخذوا يستغلونه بشتى الوسائل” واعتبار الدكتور الوردي المحتلين الانجليز ( حكاما) يعني أنه يغلِّب وجهة نظر المحتل في التفسير أعلاه، متناسيا أن سبب عدم النجدة هو الحصار الذي فرضه الاحتلال على مدينة الرميثة. ثم أن هذا الاشتعال في الرميثة كان تمهيدا لثورات شبت في المشخاب والشامية وحصلت هدنة ثم نقضت الهدنة لتعود الثورة تنتشر في الفرات الأوسط حتى وصلت إلى الرارنجية. وللاسف نسي الوردي صعوبة المواصلات وطبيعة الظروف الطوبوغرافية آنذاك التي تجعل أية عشيرة لا تصل بسرعة لنجدة عشيرة أخرى.
والمغالطة تظهر حين يفسر النصر بانه نهب واشاعات وهوسات مستندا إلى مقولة سمعها من أحد المسنين من أهل الكاظمية حدثه أن بعض العشائر عند انضمامها إلى الثورة كانت تبتغي الفوز بالغنائم والفرهود أكثر من المطالبة بالحرية والاستقلال، وعنده هذا طبيعي لا داعي للعجب منه، فإن العشائر التي اعتادت على النهب والسلب خلال مئات السنين يصعب عليها أن تترك هذه العادة تحت تأثير حب الوطن الذي يضعه بين قوسين.
















