ثورة الرواية ورواية الثورة

ثورة الرواية ورواية الثورة
إبداع من رحم المدن المهمشة
عبد الرحمن مجيد الربيعي
تعود بي الذاكرة إلى عام 1976 وإلى الجزائر تحديدا حيث عقدت وقتذاك ندوة بعنوان الأدب والثورة دعت إليها دائرة التنشيط الثقافي في جامعة الجزائر التي كانت تحت إدارة المرحوم مصطفى كاتب رجل المسرح والسينما الشهير وبمعاونة من أسماء أدبيّة معروفة أمثال المرحوم الطاهر وطار.
كان المشاركون قادمين من عدد من البلدان العربيّة ليتحدّثوا في هذا الموضوع الذي كان ساخنا وقتذاك، وها هوالموضوع نفسه يعود من جديد بعد أن عرف عدد من البلدان العربية ثورات أجهزت هذه المرّة على عدد من الحكّام الديكتاتوريين الذين كانت أنظمة بعضهم تسمّى ثورية أمثال القذافي وعلي عبدالله صالح ولم تكن لها علاقة بالثورة.
كنت وقتها أحد الذين يتوجسّون من تسمية الإنقلابات العسكرية الكارثية ثورات فهي في حالة نجاحها تسمّى ثورة ويصبح العساكر الذين يقودونها ثوّارا سيفعلون ويحرّرون ويأتون بـ المنّ والسلوى وفي حالة فشلها يسمّى من كان يقودها متآمرا وخائنا وغالبا ما ينفذ فيه حكم الإعدام ــ ما فعله النميري بهشام عطا ورفيقه بعد أن سلمّهما له الثوري القذافي حيث تمّ إعدامهما وهما رمزان للعسكريين الوطنيين.
كنّا في تلك الندوة الجزائرية المبكرّة التي مرّت عليها 36 سنة أكثر حماسا وأقلّ فهما واستيعابا للواقع السياسي الذي نعيشه وما فيه من متغيّرات. كنّا بشكل وآخر ضحيّة خطاب سائد اتفق صانعوه على أن وطننا العربي يعيش ثوراته الحيّة وأن التفاؤل يجب أن يسكن الصدور. كيف لا ونحن في ضيافة أبرز رمز للثورة بكلّ ما تعنيهوأعني بها الثورة الجزائرية، وكيف لا وفي وجداننا أسئلة الثورة المبشرّة القائمة التي تحمل اسم فلسطين التي انطلقت شرارتها عام 1961، وسرعان ما نالت التأييد العربي والإنساني الذي حظيت به هذه الثورة؟
2
المدن المهمّشة
أردت في تلك الندوة الحديث عن القصّة والثورة وعندما أعدت قراءة ما كتبته وقدمته قبل 36 عاما وجدت الكثير من أفكاري ما زالت حيّة وأنّني قد أعدت ايرادها من جديد وأنا أهيئ هذه الورقة لندوتكم النفطيّة ــ نسبة لمدينة نفطة ــ رغم أن الثورة التي تحدثت عنها هي غير الثورة أوالثورات التي عرفناه في ربيعنا العربي هذا، كيف؟
وأجيب أن الذي حصل لم يكن انقلابا فوقيا ينفذه مجموعة ضباط بدباباتهم وطائراتهم وجنودهم، يحتلون مبنى الإذاعة ويذيعون بيانهم الأوّل، وفيه يؤكدون أنّهم سيحرّرون فلسطين من الإحتلال الصهيوني، حتّى أصبحت البيانات الأولى مكرورة الصياغة ممجوجة السماع ولنا منها في العراق كمّ وافر.
إن الذي حصل هوثورة المدن المهمّشة، من أبنائها العاطلين، من الجياع، من المهملين، من الذين اتسمّت مديات نظرهم بفضل وسائل الإعلام الحديثة.
هي ثورة من الأعماق أطاحت بمن ظنّوا أنّهم في مأمن ما دامت قبضتهم الأمنيّة تمسك بالبلد، ويد بوليسهم طليقة حتّى للقتل أن اقتضت الضرورة، وتونسيّا ووفقا لقاعدة تجفيف الينابيع فأن أي احتجاج تتمّ ابادة منفذيه وفقا لهذا الشعار المراوغ الذي يساوي بين كلّ المعارضين.
لكن هذه الثورة ــ غير المتوّقعة وبالطريقة التي تمّت بها وأؤكد على هذا ــ لم تكن لها ارهاصات أولنقل لم يكن لها تنبّوءات بما نشر في تونس من روايات قبل هذا ــ رغم أن هناك مساحة من الحريّة لدى الكاتب التونسي ولكنّه لم يستعملها ما دام الخوف يتراكم داخلهولكن مساحة الحريّة ليست في الشأن السياسي بل في المحظورين الآخرين الجنسوالدين، وخاصّة الجنس إذ نجد نصوصا روائية تناولته وبشكل لم نجده في أعمال روائيّة عربيّة أخرى عدا المغرب ولبنان، إذ ما ينشر في هذين البلدين ــ لبنان خاصّة ــ لروائيين عرب هاجروا بأعمالهم إلى دور النشر اللبنانية وهي أعمال معارضة لأنظمة الحكم في بلدانهم.
وكمثال على جرأة الرواية التونسيّة نستشهد بأعمال حسن بن عثمان وعبد الجبار العشّ وكمال الزغباني وابراهيم درغوثي ومحمد علي اليوسفي ومحمد الباردي وحسونة المصباحي والحبيب السالميوالأزهر الصحراوي وصلاح الدين بوجاه وفرج الحوار، ومن قبلهم أعمال محمد صالح الجابري وحسن نصر مثلا.
ومع هذا تمّ حجز رواية الكرسي الهزاز لآمال مختار لوجود صور جنسيّة أرادت الكاتبة أن تتجاوز فيها كلّ المحظور الاجتماعي السائد.
3
تونس في زمن مختلف اليوم، زمن لم تعرفه، ارتفعت الأصوات، كثرت الأحزاب، كثرت منابر الحوار، تعدّدت أسباب الهياج، اعتصامات، اضرابات، قطع طرق، مطالب لا تحصى، حرق مراكز شرطة، احتلال لأدارات، والأسباب موجبة أوغير موجبة، غليان بعد صمت المحتضرين الذي كان، يوم كانت قبضة الأمن لا ترحم، المعتقلات ملأى، والتعذيب في الأقبيّة، وانتزاع الإعترافات، واعلام خشبي مكرور، مقرف، لا يعرف غير صيغة التسبيح للرئيس الواحد، الرياضي الأوّل، والعبقري الأوّل، والذكي الأوّل الذي وهبته السماء لهذا البلد إلى آخر هذه الترهات، والمظاهرات مخطط لها، والإنتخابات مزوّرة يشارك فيها حتىّ الموتى، والتصفيق حار من منظّمات مجتمع مدني ذات لون واحد وتساق بعصا واحدة، وأحزاب ديكور لا تحرّك ساكنا ولا تعرف غير قول نعم.
نحن في تونس أخرى، ولكنّها تونس التي ما زال مبكرا البحث عنها بين صفحات رواية.
وما صدر من روايات بعد الثورة إما أعمال كانت مخبأة في أدراج أصحابها وهي قليلة جدّا وللتاريخ أذكر هنا رواية تراتيل لآلامها، لرشيدة الشارني التي كتبتها عام 2007 كذلك كانت رواية برج الرومي إذ هي من وحي تجربة كاتبها سمير ساسي في هذا السجن الذي تحمل الرواية اسمه.
أهذا كلّ شيء؟ لماذ ليست هناك أعمال أخرى عن الذي عاشه شعب تونس؟
أتساءل لأنّ هذه الأعمال يبدوأنها لم تكن موجودة أصلا ولوأنّها كانت موجودة فعلا لأقدّم كتابها على نشرها شهادة عن الذي كان بعد سقوط نظام بن علي.
لكن بعد الثورة كتبت أعمال روائيّة جديدة وبدأت بالظهور روايات السجون التي كانت بدايتها بثلاث روايات هي راتيل لآلامها لرشيدة الشارني و برج الرومي لسمير ساسي ثمّ جاءت بعدهما رواية كمال الشارني أحباب الله .
4
إنّ الثورة لا تكتب بتقنيّة ولغة وموضوعات تقليديّة مباشرة، وهنا أتذكّر رأيا لأرنست فيشر ورد في كتابه الإشتراكية والفنّ جاء فيه أنّنا نحتاج إلى وسائل جديدة للتعبير من أجل تصوير الحقائق الجديدة فكيف؟
في الإتحاد السوفيتي مثلا فتح ايليا اهرنبودغ الباب أمام ما سيسمّى أدب ذوبان الجليد عندما نشر روايته الشهيرة ذوبان الجليد في نقد الفترة الستالينيّة، ولكنّه لم يفعل هذا إلاّ بعد أن تمّت مراجعة هذه الفترة القاسية السوداء من تاريخ الإتحاد السوفييتي التي تختلف عن ديكتاتورية ستالين.
ولكن الذي جرى في تونس أنهى عهدا كاملا امتدّ منذ استقلال تونس عام 1956وفي فترة حكم رئيسين أوّلهما رغم كلّ ما جاء به من منجزات لشعبه إلاّ أنّه كرّس الديكتاتوريّة عندما أصبح برغبته المطلقة رئيسا مدى الحياة .
وهوما سار عليه رجل البوليس المنقلب عليه بمدى حياة آخر ولكن بأقساط وهكذا بقي يحكم 23 سنة.
ولولا الثورة التي أطاحت به لظلّ في الحكم حتّى أرذل العمر، لأنّ ترزيّة القوانين الذين تجمعوا حوله كانت لهم القدرة على التلاعب بالدستور ليبقى على رأس الدولة وكانت أفكاره تبتعد به ليورث الحكم لإبنه أوزوجته أسوة بما كان يحلم به ديكتاتوريون آخرون أمثال حسني مبارك، القذافي، وعلي عبدالله صالح.
تونس تغيّرت من حال إلى نقيضه، ولذا فالمدى ممتدّ واسع أمام الروائيين التونسيّين ليكتبوا هذا الذي حدث والذي يحدث أسوه بما فعله الروائيون المصريون مثلا.
5
إنّ الثورة وفقا لرأي أرنست فيشر الذي أوردناه لا تكتب بنصوص روائيّة حياديّة التقنيّات، ولكن بنصوص تشكّل ثورة في شكلها ومضمونها وشخصياتها ومناخاتها، أقول هذا وأنا أعلم أن الثورة المعلوماتية والتقنيّات الحديثة قد دخلت عالم الكتابة الروائية، ولا بّد من الإفادة منها لتحقيق ما نبغيه في كتابة روايات تتمرّد على السائد وتتجاوزه بأدواتها الحديثة، وليتني أتذّكر من قال أن أجمل وأروع ما يقدّمه الأدب للثورة هوأن يكون هونفسه ثورة .
نعم، هذا هوالقول الفصل لأن الكتابات الفجّة المباشرة وخاصّة في الشعر ــ لا تقدّم ولا تؤخرّ بالنسبة للثورات التي لها انشغالاتها ولها سبرها العميق لحركة المجتمعوتطلعاته المستقبلية، فماذا تعني له قصيدة مباشرة ملأى بأسماء وأوصاف مكرورة حدّ الإستهلاك.
كم قصيدة ــ أوهكذا ظنّ صاحبها ــ وقد أقحم فيها اسم الشهيد البوعزيزي معتقدا أن ورود هذا الإسم يجعلها قصيدة ثورية وماهي بذلك أبدا.
ولذا لم تستوقفنا قصيدة كتبت بعد الثورة فكانت قصيدة الثورة أوللثورة فعلا رغم عشرات القصائد بل والدواوين، والحالة نفسها نجدها في القصّة القصيرة وإن كانت بشكل أخفّ لأنّ مساحة الثرثرة فيها ليست مفتوحة كما في الذي يسميه أصحابه شعرا.
وقبل فترة كتبت موضوعا في جريدة الشروق التونسية، ولعلّ عنوانه رغم أنّه ورد بصيغة سؤال إلا أنّه يؤشرّ حالة الفراغ، عنوان المقال هو مشهد تونسي مكتظّ فمن يكتبه؟ فإذا كان الأدباء غير مشاركين في الثورة بل وغير متنبئين بها أصلا، وقد سبقهم السياسيون إلى ذلك عندما عرفوا كيف يوّجهون الغضب الجماهيري ويؤججونه ليكون نواة ثورة رفعت مطالبها إلى أعلى سقف وهوالإطاحة بالنظام وكانت أحداث الحوض المنجمي ثمّ حرق المرحوم البوعزيزي لجسده صبيحة 17 ديسمبر من عام 2010.
ولعلّ ما يؤكد هذا الفراغ الماثل إلى الجماهير الثائرة لا في تونس باعتبار ثورتها الأولى زمنيّا بل وفي اليمن ومصر وليبيا لم تجد إلآّ قصيدة أبي القاسم الشابي إذا الشعب يوما أراد الحياة وحولتها إلى شعار صارخ الشعب يريد .
إنّ هناك غليانا وهناك متغيّرات وهناك قوى وأحزاب وهناك مباريات بلومزايدات بالشعارات، وهناك فائض حريّة قد يتحوّل أحيانا إلى لا حريّة ــ يتحوّل إلى فوضى عارمة ربّما يأتي ضررها أكبر من فائدتها، ولكن كلّ هذا لم يكتب، تعالوا لنقلب ما ينشر في الصحافة الثقافية، أوفي المجلات على قلّتها فأنّكم لن تجدوا الثورة بل ستجدون ظلالها فقط، أوتجدون اسمها لكنّه المفرّغ من دلالاته الأعمق.
ربّما كان هذا بسبب أن الهدوء لم يأت وأن الأمور وفقا للمقولة التونسيّة الشعبيّة الرائعة داخلة بعضها حتّى الآن، تابعوا برامج الحوار الإذاعيّة والتلفزيّة لتتأكدوا ممّا ذهبت إليه.
6
هذه ليست مرحلة ذوبان الجليد فالجليد كلّه قد ذاب هذا إذا كان هناك جليد، فتونس أومصر أوليبيا أواليمن غير روسيا التي يغمرها بياض الثلج عدّة أشهر في العام.
هذه مرحلة الحرائق بدأها البوعزيزي ورغم أنّه جعل من جسده الضامر القربان الأوّل إلاّ أنّ الحرائق الممتدّة قد قدمت قرابين أخرى.
كلّ هذه الحرائق لم تكتب ولعلّ قراءة مجريات الأحداث تحتاج إلى امكانات مركبة علّ الجيل الماثل من الأدباء يقدر على تقديمها.
وكان لنا رأي مبكّر ضمّته شهادة لنا سبعينات القرن الماضي بأحد النوادي الإجتماعية ببغداد أوردنا فيه قولنا أن أي عمل أدبي جديد يجب أن يحقّق تجاوزا لما سبقه وأن ثوريته تتأكدّ في جدليّته وقدرته على استشراف الجديد في الحياة والتقنيّة الفنيّة، وأن يجعلهما متلازمتين متوّحدتين .
ولنا أن نسأل أليس هذا الرأي مازالت صياغته حيّة بشكل أوآخر رغم تراكم السنوات؟
نعيد هذا التساؤل لأنّ ما أوردناه في رأينا كان شاغلنا على امتداد عمرنا الكتابي، وقد تستبدل الصياغات وتنضاف اليها عوامل جديدة لإثراء النّص وتثويره ولكن الجوهر يبقى واحدا.
وسيظلّ سؤالنا الذي حمل عنوان مقالنا الذي أشرنا اليه في الشروق حاضرا بل ومؤرقا لكلّ مبدع يريد أن لا يجرفه المعتاد ولا شاغل له إلا النّص الجديد الثائر على كلّ الأدوات القديمة، النّص الذي نصفه بابن الثورة الشرعي.
نعم هومشهد تونسي مكتظّ ومازلنا نتساءل عمّن يكتبه؟
نص الورقة التي قدمت في ندوة البشير خريف للرواية العربية صيف 2012 في مدينة نفطة التونسية.
AZP09