ثنائية الغرب والشرق

ثنائية الغرب والشرق
عماد فارس النداف
من جديد يطفو على السطح النزاع، في أوج تجلياته، ما بين الغرب والشرق وهما المحورات الأساسان، في الثنائية. ولربما هما الانعكاسان لثنائية الطبيعة وازدواجيتها. فهذا الغرب الطامح دائماً، ليس فقط في مقدرات وماديات الشرق، على اختلاف أنواعها، بل أيضاً في فكر وثقافة الشرق. كيف لا، وقد نالها منذ زمن بعيد، وطورها ليسخرها ويستفيد منها عملياً، منذ اكتشافات الشرق الأولى للزراعة والفلك والعلوم والرياضيات. وحسبنا الاستشهاد على ذلك كيف أن الإنسان المشرقي السوري القديم اكتشف دورة الطبيعة على البذور ولاحظ نموها وجرب وفصل أنواعها مع الزمن وأخذ حاجته وحاجة حيواناته التي دجّنها لخدمته… وكذلك تأمّل النجوم والكواكب وعرف مواعيد ظهورها وأفولها واستدلالاتها فأسس لعلم قائم بذاته هو علم الفلك وحساباته وصولاً الى أسّ الحسابات والنظام الرياضي الستيني… كما أن تدوينه لنشاطاته وأفعاله وتجاربه دفعه الى ابتكار رموز يتواصل بها مع جيرانه وتؤرشف له ولذريته حقائق هذه النشاطات فكانت المرجع الأول للغات القديمة المسمارية والتي بدأت بأكثر من 600 رمز في الألف الرابع والثالث قبل الميلاد. واستمر هذا النشاط والتجريب والتطوير حتى وصل الى الى 30 حرفاً أو رمزاً أعني أبجدية أوغاريت، المحفوظة في متحف دمشق الوطني التي تعتبر اليوم أصل اللغات الحية القديمة. وتعود للألف الثاني قبل الميلاد، ثم أنه إذا علمنا أن هذه المجتمعات المشرقية كانت تتواصل مع ما حولها في الهند وفي آسيا، التي كان لها أيضاً علومه وأدواتها ومواردها، أو حتى فيما بينها. فسلكت طرقاً آمنة لتتبادل عبرها المنتجات والموارد الأولية فكانت طرق التجارة القديمة أو ما يعرف حتى وقت ليس ببعيد بـ طريق الحرير .
في هذه الحقبة، لم يسـجّل وجود لنشاطات وحياة هامة في أوربا والغرب بهذا الحجم والزخم الحضاري. وأعود للمشرق، فما يثير العجب هو أنّ هذه المدن أو المدن الدول المشرقية، ولكي تسود وتستمر بقوتها، كان لابدّ لها من بسط هيمنتها على البلاد السورية الكبرى، والتي هي بالحقيقة عقدة المواصلات وتقاطع الطرق لكل الاتجاهات. وحسبنا ذكر الصراع الكبير ما بين الحثيين والفراعنة اللذين كانا يعتبران أنّ أمن كل منهما القومي يبدأ من سوريا. وبلغ هذا الصراع ذروته في الألف الثاني قبل الميلاد في معركة قـادش التاريخية واذا عرفنا أن مكان هذه الموقعة حالياً الى الجنوب الغربي من مدينة حمص السورية نستدل على اهتمام هاتين الدولتين باهمية الأرض السورية. وبعدهم جاء الفرس وسلالاتهم المتعددة ومحاولاتهم المتكررة للسيطرة على سوريا وقد نجحوا في كثير من هذه المحاولات، فكانت لهم القوة والعظمة والمصالح الجمّة ومن بعد الفرس، تفتحت أعين اليونان على الأهمية الكبرى لهذه المجتمعات السورية وللجغرافية التي تتواجد عليها، وكذلك ما أسسته واكتشفته هذه المجتمعات، أراد اليونانيون الاستفادة من ارث هذه المجتمعات والنهل من معينها الحضاري، فكان حلمهم بالوصول الى الشرق المشرق بفكره وحضارته وعلمه، وقد تحقق هذا الحلم على يدي الاسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد. وهنا بدأت مسيرة التمازج والتفاعل والاختلاط، حيث، أشار الاسكندر على قواده وجنوده بالتزوج من النساء المشرقيات لقناعته بما سيولد من فكر نير وحضارة انسانية، وخير مثال على ذلك زواج سلوقس نكاتور من جوليا دومنا السورية… ولاحقاً تحققت فعلاً حضارة عضيمةً برزت فيها وازدهرت مختلف العلوم والطب والفلسفة وانتجت حضارة انسانية كانت الأساس فيما بعد لامبراطوريات كبرى. ومع مرور الزمن، تتبدل الأفكار وتتم اكتشافات جديدة وتظهر مستجدات ويسيطر المتنفذون وأصحاب المصالح جاء الرومان، وذهب البيزنطيون واتى الأمويون والعباسيون والصليبيون والمغول والعثمانيون والأوربيون… والخ والنقطة أو الهدف المشترك الجامع بين كل هؤلاء هو سوريا وعندما أقول سوريا، أقصد بها سوريا الطبيعية أو الكبرى أي الحوض الشرقي للمتوسط والتي تعني في اللغة الآرامية أرض الشمس أو المشرق. إذاً، ليس مستغرباً، أن أقول إنها هي الآن، سوريا، من جديد محط أنظار العالم ونقطة الفصل الكبرى في التحول التاريخي مابين الغرب والشرق اللذين يريدان كل منهما أن يهيمن ويسود عبر البوابة السورية المشرقية، هذان العالمان، لكل منهما مصالحه وأهدافه وأدواته ومبرراته، لكنها، أي سوريا، تميل دائماً الى ما هو خير للإنسانية جمعاء وتؤسس لنظام عالمي وعلاقات اجتماعية جديدة في العالم. لكنها قلما تستفيد هي من هذه التغيرات والتبدلات فلا يطالها سوى الخراب والتدمير لبنيانها والنهب لخيراتها. ولا تنتظم ذهنية مجتمعاتها في قالب توافقي يوقيها من آثار صراع الغير على ارضها ومن أجلها. وأختم بالقول، إن الغربيين، منظّري صراع الحضارات ونهاية التاريخ، قد سوغوا لأنفسهم ولسياساتهم هذه المفاهيم لكي يتسنى لهم السيطرة والهيمنة على العالم ولكن هذه المرة بالقفز فوق التاريخ، ولربما نجحوا مرحلياً ولفترة وجيزة من الزمن، وقد استعملوا أدوات من هامش التاريخ، لكنهم فوجئوا برد المشرق سوريا بحوار الحضارات وتلاقيها وتآخي مجتمعاتها. فأفشلت مخططاتهم وافسدت نواياهم. لكنها دفعت وتدفع الثمن غالياً كما هو تاريخها نيابة عن العالم والانسانية أجمع وليسجل التاريخ.
AZP07

مشاركة