تمرد رايات – نصوص – ابتهال الخياط
(سمعت في الاخبار عن مدينة عامرة بالرجال متوسمة بالعمران كل مدينة فيها لون واحد لكل شيء . الاشجار مطلية بلون واحد ،ملابس الناس بلون واحد وكل مدينة تسمى بلونها ..فهي كباقة ورد.
عجبت من الامر وقررت الترحال الى اعجوبة الزمان دولة الالوان .تملكتني الفكرة ..وحوتني التجربة ان اعيش ولو لايام في دولة عجيبة ..تمجد الانسان .
استيقظت مبكراً والشمس مازالت تنتظر الامر بالشروق..وتحركت بقوة الى هدف حلمت به منذ قرون .تتبعت الطرق اليها فكانت كلها وعرة ..كان بعضها يتلاشى امامي وكأنه سراب .لكني بقيت أسير ،حتى أتضح الطريق..وبانت لي من بعيد مجموعة رايات تتمايل مع الريح وكلها تحمل الواناً يتوافق مع ماتحتها من بنيان.وطن واحد متعدد الرايات ولكن له باب واحدة هي الوحيدة التي تُركت معطلة دون اصلاح وكأن يدا تعمدت تحطيمها ..كعنوان ما لأمر ٍ ربما سأفهمه ان دخلت هناك .دخلت فاحترت ..رأيت امامي حلقة من دول مقطعة تفصل بينها خنادق قد مُلئت بالقطران ..النظر الى ماأرى جعلني اتحجر في مكاني ..يالقساوته !
طفح الكيل مبكرا بي ..ولكني لست سوى مستطرق جاء لأمر، وسأرحل .
سألتُ نفسي : هل اتوغل ؟ قلت نعم .
الان يشدني كالحبال الى سفري المشتهى, فهو لذة الروح التي احيانا تكون القاضية.
دولة الالوان أمامي ! دولة بلا عنوان ! وانا بدون لون وسادخلها تباعا واما ان اكون او لا اكون ،وضالتي في وجودي هنا ان اعرف ماهي ” هوية الانسان ” في هذا الوطن .)
وقفت امام اول باب وكأنني امام سجن كبير ولكنه يحمل صورة جماعية للرجال ..رجال السلطة في الوطن الام وكلٌّ يلبس بدلة بلون مختلف عن الاخر ,متكاتفين
وترتسم الابتسامة الصفراء على وجوههم ..حيث السخرية..
لاأدري أهي من الناظر اليهم أم من الوطن المسكين لمحتُ زراً يبدو انه وضع لتلقي نبأ قدوم طارق للباب التي لا يمكن ان تطرق فهي اعمدة من حديد ..
وضعتُ اصبعي على الزرّْ وضغطت ..وكان صوت الجرس كصدى انفجار هزًّ المدينة ..انطرحتُ ارضاً ..ماهذا؟انسحبت البوابة.. ووجدت امامي شابا وسيما يضحك ..ومن خلفه رجلان بملابس غريبة توحي بانهما من العسكر..فقال:انهض ..وبسرعة .
قمتُ متثاقلا مهووسا بمايحدث ….وقف الرجلان خلفي وعلمتُ انني مقبوض علي!
قال الشاب : طرقة الغريب تعطينا انذاراً , هيا سِرّْ خلفي . لملمتُ بقية اعصابي لأتحدث بهدوء, قلت: لستُ سوى زائر ولستُ بغريب .فأجابني : اهلا بك ولكن عليك مقابلة الرجال القائمين على حفظ الدولة والوانها.
اخذتُ بالسير خلفه ومعي الرجلان يسيران كالدمى عن يميني وعن شمالي ..يضربان الارض بقوة السير العسكري ..وكأنني جنرال وفي محفل ما.
صَدَمتْ انفي رائحة جيفة ,تلفتُ.. فرأيت مجموعة كلاب تأكل فشيئاً ما.. لم اتبينه ! ولكن لماذا تُترك هكذا على الطريق..كان الناس يتحركون في المدينة.
والاسواق مكتضة..وكل شيء جميل ..الا احساسي بالغرابة فكل شيء بلون واحد يجعل راسي يدور وكاد يغمى علي .سألتُ نفسي :ماذا يريد رجال يحكمون دولة كهذه مني ؟ هل تقاليدهم عربية اصيلة بأن يرحب كبير القوم بمن يهل ؟
مازلت أشم رائحة كريهة رغم ابتعادي عن الكلاب وكأنني اسير في امعاء خنزير!
آه ..وآخ ..يادماغي المسكين..أين نحن أنا وأنت!والى اين نسير ؟
وصلت القصر المدرع وأمسك الرجلان بي خوفا مني ان اهرب ام ماذا ؟ لا اعلم لكني اشعر بالموت .
دخلت من بوابة جانبية بالرفقة الطيبة التي معي وأجلسوني بالانتظار لقدوم الرجال .سألتُ الشاب : دعني افهم منك ياهذا ..مالذي يحصل ؟ فقال ستعرف وضحك .وددتُ ان ألكمه ..فأطيح بكل وجهه وليس فقط باسنانه.
سمعتُ صوت قدوم اشخاص في الغرفة المجاورة وأمرٌ صَدَرَ من هناك بحضوري للقائهم .ودخلت متلهفا لنهاية ما !
شاهدت 5رجال ..بالالوان(ولكنهم ليسوا من الذين في الصورة على الباب) وكانوا ينظرون الي بتمعن فقال احدهم : تفضل اجلس ارجو ان لاتكون قد امتعضت منا فعندنا ظرف استثنائي نحن مجموعة دول كما ترى في وطن واحد ولكن نسج التمازج في الالوان لا يناسبنا فقررنا العيش هكذا ، تحدث الان حالة تمرد في المدن ونحتاج علاجها بسرعة قبل وقوع الكارثة انهم مجموعة رجال مختلفين نزعوا لباس هويتهم لحكومتنا وارتدوا لونا لا نرضاه ففيه هلاكنا جميعا (قطع كلامه ليسألني: انت معي ؟) قلت نعم ,معك وبعد وما شأني فيما تقول ؟ لستُ سوى مستطرق وان كنت اتكلم لغتــكم !
فقال : انت من نحتاجه !فسالته : كيف؟
فسكت .ثم اكمل رجل اخر : ستقوم انت بعملية لنا فانت غريب ولن يعرفك احد وان قمت بها ستكون لك جائزة كبرى ،ها ماذا تقول؟
قلت : لم افهم …وضح لي . ستخرج الان ومعك صاحبك الذي أدخلك الينا ..وفي الطريق ستفهم (اخذني الرجل وطلب مني ارتداء بعض الملابس ومن غير لونهم ..وفوقها لباس اخر من لونهم )لم افهم!
خرجتُ والغباء متلبسني اكثر من الحيرة ..وسرتُ مع الرجل وخضنا معا في السوق حيث كثرة البشر تلفت حولي لم اجده عندها شعرت باللاشيء.هزَّ انفجار عنيف المكان ولحظة صمت غزت رأسي مازلتُ حيا ًومن حولي ساحة من دم واجساد ممزقة وأنين وصرخات كان الدم يغطي جسدي لااعلم ان كان دمي ام دم الاخرين حاولت النهوض والاصوات تصل عالية تهز راسي بصداها ،هناك من يقول لابد من وجود شخص من غير لوننا قد فعل هذا .., اجبته : يبدو لي انه (انا) .كيف يعيشون كرجال دولة دون الاغبياء الجبناء امثالي ! لكنني لم أمت ! وسأردُّ عليهم ولي الحق في تغيير نفسي وتحويل مساري من رحالة غريب يبحث عن كمال وجود الانسان ..الى محرر رايات !
(العدل أساس الملك) شعاري.سأقيم العدل بأخذ حق كرامتي باسناد حرب الرايات وقتل الطغاة .
تحركتُ في الفوضى التي ملأت المكان متخفيا بدمائي ودماء المساكين المغفلين من هذا الشعب وسرتُ ابحث عن الطريق الى القصر ..ستكون راية هذا الفرع من الوطن هي الاولى لتهوي في نهر القطران وزوال الفاصل بينها وبين البلد الاخ العدو والجار من اللون الاخر.
واخذت اتحرك ورأسي تملأه اصوات الباحثين عن الغريب يبدو انه لم يمت ..وكلاب الصيد تنتشر تشم الجميع ولكني مغطى بدماء مختلفة ولا وجه لي فقد تمزق ..والآلآم تنتظرني لأصرخ منها ولكن هيهات لن أفعل ..بل سيكون صراخهم هو المسموع ..الطرقات تنسحب تحت قدمي وساقاي قد طالتا فأصبحت خطواتي سريعة..لن اهدأ حتى استرد كرامتي ..ما جئت الى هنا الا لأكون مقياس للانسان ..لن يعطي الكرامة للانسان الا هو ..تلك هي الحقيقة التي عرفتها ..وساكون انسانا كاملا ان تحقق هدفي بتدميرهم ..هؤلاء المجرمين.
لستُ شهيدا ولستُ مجاهدا انما انا بشر وعقلي سليم ..فعرفت ماهية خلقي حراً ولن أُستعبد لاحد على الارض ..هي المسافة بيني وبين الله لاكون عبدا له فقط لا عبدا لغيره..ساقطع المسافة بيني وبين الله بقتلي لعبوديتي لهم ،كان صوتي عاليا وانا اسير كمجنون في الطرقات ..ولكن لم يمسكني حرس ..ولم يشمني كلب صيد المطلوبين !!
وصلت القصر ولن اخاف من احد سأحرر العدل المعقود حبلا في رقاب الميتين دخلت باحثا عن طريقٍ لأي شيء اقتل به هؤلاء، عندها رأيتها ..فسالت دموعي رحمة انها النخيل ..حبيباتي الباسقات الغائبات الحاضرات الناظرات بالم وصمت ..لا..لا..لن اتبع مايدمر الجميع ..سافكر لاكون للكل وليس انتقاما لنفسي ،هدأت روحي ..واستنار قلبي ..وتفتح فكري..لابد من التحليق بعيدا عن الدم ..ولن يستباح دم غير دم المجرمين ..ايها الموت الخرافي …ابتعد وكن نسرا تلقفهم بسيفك المسموم ..ولكن احذر منهم كي لا يقتلوك!
اني اتحرك ولا املك لنفسي الا جبيني المدمى وغضب ..ولن اخون النخلة ..حتى ان علقوني عليها مشنوقا بجدائلها . اختفيت عن الانظار ..وجائتني فكرة سأفعلها ..وارى مايكون ..سأبدا عند الغروب ..ربما يكفيني الليل ..ليت الشمس تكن معي عند شروقها ..وليت القمر الليلة يسدل ستاره عني فلا أُرى ..لا حبا بالعيش قدر رغبتي باكمال فكرتي ..!
وجاء الليل ..وشاركني القمر ..في ثورتي الصامتة.. خلعت ردائي المدمي ..وسرت وسط الظلام ..احاول ان اصل الى الراية ..هدفي ..كانت الارض معي ..فهي تُطوى كما الاوراق ..وصلت ..فجذبتها ممزقا لها..وعلقت جزءا من ردائي ..بدلا عنها …
ورحت اتابع حركتي ..لاشيء امامي يردعني .او يمنعني..فكنت هناك ..عند الدولة الاخرى ..وفعلت مافعلته قبلها وعلقت جزءا من ردائي ..والبلد الاخر مثلهما ..وهكذا ..اتممت العمل ..ولم أشعر بالتعب او الوهن ..انتظرتني الشمس ولم تشرق حتى اخبرها القمر ..بأن هيا حبيبتي ..تعالي ..اني راحل مع ستائري..اكرمي هذا البلد بالنظر وكوني معهم فلا شيء حقيقي الا بك يظهر.واشرقت الشمس ..وهلت الراية الجديدة امام الشعب المقطع إربا والفاسقون لايعلمون فهم لاينظرون ..لانهم مطمئنون وكانت بداية الثورة ..ثورة الرايات من ردائي المدمى بدماء الابرياء..وعلت الاصوات في كل الفروع ..وماجت الارض وصاحت ..ياالله..” الالم واحد في كل مكان”..لا حقيقة الان الا ..”بسقوط الجدران “..فكانت الحركات متوافقة ..وسقطت الجدران تباعا لتبتلعها انهار القطران ورُدمت الشروخ ..بالحطام .
ووجد الشعب بفروعه وجها لوجه حيث لا فرق الا الوان باهته امتلكت حياتهم وأبلت عقولهم ..واستعبدتهم .
قلت: مزقوها .. واقتلوا المجرمين .
لم يكن احد يخالف المجموع ..كان الذهول علامة الرجال المتسلطين حيث لاسلطة بقيت في ايديهم ..فكانوا قلة معدومة ..لا ابراج لهم ..ولا حراس ..ولا راية وسقطوا بيد الموت المسموم ..الذي سقوا به الشعب واستعبدوه لسنين ..ورُفعت الراية ..راية واحدة راية نقية تحمل شعار الوطن وبرسم النخلة عليها .
كنتُ اقف بينهم فرحا مددتُ يدي مصافحا لاحدهم ومهنئا للجميع ..فارتعد حين مس يدي ! وعاد الى الوراء ..قائلا: انه رجل ميت!
قلت : لا انا لستُ ميتا ان قلبي ينبض ضع يدك عليه لست بميت .
قال :لكن من انت ..انك بارد جدا ؟
قلت: انا صاحب الرايات تلك ..التي رأيتموها متمردة فتمردتم ..اني الزائر لبلدكم ..ولست بغريب..وعندي كرامة الانسان ..لم ينبح علي كلب ..التف حولي الجمع يسمعون ..حملوني معهم .عندها خرجت روحي بسلام ..وبكرامة عظيمة وتلاشت المسافة بيني وبين الله ..فقاموا وكفنوني براية النخلة ودفنوني في تلك الارض الطيبة ارض النخلة ..وكان لدي صرح أسموه صرح الخلود.و اصبحت ابن الارض حيث لا يعلمون اسمي ..وصاروا هم.. الزائرين .ليت امي وابي واحبتي يعلمون. ……………………………………..تمت .



















