السيلفي… (الأنا الرقمية)
تمدّد الأنا على سلطة الجموع – سكينة العابد
الجزائر
جذبني مؤخرا كتاب عنوانهje selfie donc je suis لكاتبته إليزا غودار Elsa Godart والذي ترجم للعربية ليصبح عنوانه: أنا أوسيلفي إذن أنا موجود –تحولات الأنا في العصر الافتراضي-،والكتاب في عمومه يسلط الضوء على سلبيات الفضاء الافتراضي الذي التهم واقعنا ، وهذا من خلال الصورة الرقمية الذاتية خصوصا والتي أصبحت تشكل وجها آخر لعلاقة الفرد مع ذاته ومع الأخر.
إذا الكتاب عبارة عن دراسة سيكولوجية فلسفية واجتماعية للصورة التي أضحيت اليوم أبرز معالم الافتراض، لتضعنا حسب ما استنتجنه من كلام الكاتبة أمام مشكلة كيفية قراءتها، وعبر أي فلسفة، ومن أي زاوية، هل نضعها في زاويتها الإنسانية الذاتية بعللها المختلفة أم نكتفي بزاويتها الجمالية وفقط.
إن إنسان اليوم أصبح يعيش مرتبطا بهاتفه يستعرض به حياته وتحركاته اليومية بعد أن بسطت الشبكة خيوطها اللامرئية، وغدت الصورة وسيلة للتعبير عن الأنا والتمركز حول الذات والتي أصبحت تملأ العوالم الافتراضية ليتم تداولها ضمن فضاء أفقي تخلص فيه الفرد من كل أبعاد العمق، وتحرر من كل سمات واعتبارات الموجود، والأخر، والواقع لتنتصر الذات ولو لحظيا، وهذا ما علقت عليه الباحثة بالأنا الرقمية وتناقضها في كثير من الأحيان مع الهوية الواقعية اليومية كما تفسر الكاتبة الموضوع في ذات السياق.
-السيلفي .. هل هو استعراء؟ ومن خلال قراءتي المعمقة والمتكررة لفحوى الكتاب وحقائق وخفايا سطوره نكتشف فعلا أن الناس اليوم يعيشون استعراء كبيرا كما عبرت الكاتبة، إذ أصبحت الصورة في نظرهم مطلبا دائما يغذي هذا الفضاء الذي أضحى ساحة عامة تجسد فيها كل القدرات والسلطات التي وفرها الإعلام الاجتماعي التفاعلي والتواصلي.
إن عصر الوسائط هذا أغرق المهووسين بالصورة في تصوير أنفسهم وبعض أحداثهم البسيطة وكأنها أحداث كبرى، لترخي النزعة الذاتية والفردانية المفرطة بضلالها على العقول؛ فكل يحاول أن يثبت أن صورته هي الأقوى والأجمل والأهم، وكأن صاحبها البطل الفائق أو الخارق! تقول صاحبة الكتاب: أن كل الوسائط الجديدة أصبحت تحاكي عالم الحقيقة الواقعة من خلال سيل من الصور التي لا غاية لها سوى التمثل الذاتي، فالسيلفي لا يعدو أن يكون تمثيل بصري وأسير رؤية تحتفي بالأشياء في صورها العارية خارج مداها المتخيل. إن السيلفي منطلقه ترسبات الشعور بالوحدة والعزلة وغياب الاهتمام، ويتضح ذلك في الانتشاء بالمشاعر النمطية التي تحكمها الإيموجات والجمجمات (الايقونات الثابتة والمتحركة المعبرة عن مشاعر ما) والتي تعد الأدوات الفعلية والآنية التي يحقق الفرد من خلالها الإشباع الافتراضي.
إنه عالم الافتراض الذي أودع فيه المستخدم كل مشاعر الرغبة والحلم والذاكرة المرتبطة بما يمر بها من الصور الحاضنة للزمن الوهمي في الذات المنشطرة بين العزلة القاتلة والحميمية المزجاة، التي ومع سهولة الحصول عليها افتراضا فهي لا تعوض الحقيقة والواقع والذاكرة الفعلية.
السيلفي .. بين كوننة الأنا ومركزية الحضور
إن الدور الجديد لثقافة الصورة هو تحولها من المغزى الجماعي إلى المغزى الفردي وأحيانا النرجسي، فحتى أثناء الأزمات ومعارك النضال انفلتت الأنا من مهمتها الأساس وتمددت على سلطة الجموع، فبدا الفرد ممارسا لهويته الخاصة لكنها هوية مفتوحة على الغير تنتشي بسرعة وسائط التواصل والتعارف محققة قفزة غير مسبوقة لاختراق الخصوصية المحمية ولو عبر ابتكار تكنولوجي أثيري قد يبدو ناعما.
السيلفي في المقام الأول نوع من النشوة الذاتية المؤقتة، يحاول أصحابها العيش ضمن اللحظة الفارقة بالانقطاع لزمنية الصورة المتاحة التي يكون ضمنها صاحب السيلفي البطل اللحظي برمزية الصورة المأخوذة، وبمركزيته ضمن دائرة الاهتمام، ومستودع النظر ولحظة الانبهار.
طبعا لا أريد المبالغة في الطرح، ولا اريد تحميل الكتاب مسؤوليات فكرية أو فلسفية أخرى، لكن المؤكد أن ما شهدته البشرية اليوم من ثورات وحراك أجج فعلا لاستفحال منطق موضة السيلفي، فبقدر ما كان الإعلام العام يبحث في جذور للأزمة، بوادرها وتداعياتها، وفهم ما يجري على مسرح الأحداث، انغمس بعض أصحاب السيلفي بتفكيك تلك الأليات من خلال نشر صورهم في باحات الثورات والحراك كل يحاول أن يختزل الحدث ومستجداته في ذاته والدعاية لها.
ولعل هذه هي مهمة الدافع الاستعراضي بتشكيل والدفع بالصورة الذاتية لاختراق البنى والعلاقات الاجتماعية النمطية، لتتجذر في قعر الذاكرة الإنسانية، وهكذا تنتصر التمثلات والرموز الجديدة، وتنطبع الهويات الفردية التي تحاول أن تجد لنفسها حظوة ومكانة في المجتمع، وهذه هي ثمرة وهم أو حقيقة الأنا الرقمية التي تستجدي الحضور والفاعلية.
ثورة السيلفي ..واحتلال الشاشات: وفي الأخير نقول: أن هذا ما يحدث اليوم ، وهذا هو الواقع الذي يجب أن نعترف به واستيعابه ،و بإن التحول في المشهد الافتراضي-التكنولوجي سيفضي حتما لإيجاد ظواهر ثقافية جديدة آخذة في التشكل والبروز، و تغيير موازين القوى بين الأنا والآخر، بين الفرد والمجتمع ، بين الخصوصية والاستعراء، وبين الصورة والمعنى، بين الخطاب والرمز، وكأن العالم بإعلامه ومؤسساته لم يعد تصنعه قيمه التقليدية بل إنه سينبني وفق توجهات الأفراد الذين احتلوا الشاشات والمواقع ، وتموقعوا ضمن الشبكات الاجتماعية بصورهم واختلاقهم للوقائع والأحداث، وإعادة تركيبها باستعراض أجزاء من حياتهم التي يطغى عليها تبجيل الذات لتغدو شيئا ثابتا وطبيعيا، وإن كانت صور وطرق الاستعراض تتفاوت بين ما هو معقول وبين ما هو جنوني ونرجسي وزائف.
وفي كل الأحوال، إن هذا كله سيؤدي حتما إلى أن ينصب مستخدمو الشبكات أنفسهم كمنتجين منافسين يتحدون أنفسهم والأخرين بالرواج والانتشار ولو عبر سيطرة لحظية وتنافس وتمشهد تختزله الصورة السيلفي وفقط. ولا مبالغة من القول إننا نشهد سيرورة فضاء (إني) ينال فيه الفرد (الأنا الرقمية) شرعية الوجود والتداول.