تقانات الميتاسرد وأسئلة الكتابة الروائية

المخطوطة في المبنى السردي

 

تقانات الميتاسرد وأسئلة الكتابة الروائية

 

 

علي حسن الفواز

 

تثير موضوعة الميتاسرد اكثر من سؤال اشكالي، وتفتح اكثر من افق، اذ تضع هذه الموضوعة اليات الكتابة امام مديات تتجاوز ماهو تقليدي ونمطي، مثلما تحفّز باتجاه اعادة النظر بمدونات التاريخ والحكايات الشعبية والاساطير، وهوتفتح مايعنى العمل على احتياز مجموعة تقانات وميكانزمات تسهم في منهجة المعالجات السردية للتاريخ والثيمات التقليدية في الكتابة الروائية، وتمثل اشتغالات الناقد فاضل في ما اسماه ب(الكتابة النرجسية) مدخلا لمقاربة موضوعة الميتاسرد بوصفها تتجوهر ضمن هذه الكتابة.

 

.

 

 

والتي ستفضي حتما الى الكثير من المقاربات التي يهجس بها الوعي النقدي دائما، وطبيعة مايستدعيه من اليات، ومن رؤى تدخل في السياق التوصيفي لهذه الاشتغالات، وفي سياق تعالقاتها مع مرجعيات السؤال الحداثي الصادم، اذ بات هذا السؤال موجها، اكثر مما هو عتبة لمعطيات كثيرا ماتكررت في المجرى النقدي.. وحين ادرك النقد الحاجة الملحة لمستويات اخرى من القراءة والتلقي، ولرؤى اخرى تندفع باتجاه اشهار اطروحاتها المنهجية المتعالية، فانه وضع اجراءاته ازاء مجموعة من المفارقات التي لايمكن ان يستوعبها نسق محدد، مثلما وضع نفسه ازاء اسئلة جديدة مولدة ومثيرة انطلقت من التماهي مع مفاهيم اشكالية ذات بعد فلسفي، تلك التي تقوم فكرة(الموت الرمزي) بدءا من نيتشه وفوكو ورولان بارت وصولا للحديث عن(موت الرواية) عند لسلي فيدلر بوصفها تعبيرا عن التخارج والتضاد والمفارقة في اشكال الكتابة وفي مأزق وعيها..

 

المشغل الميتاسردي جزء من اشتغالات الضد الكتابي، ومحاولة لاستعادة فعالية(الانا)الكاتبة بوصفها انا ظاهراتية مشاكسة وقصدية، اذ يكون الناقد هو القارىء الفاعل، وهو الباحث عن مستويات اخرى في سياق الكتابة، والتعاطي مع التقعيدات النظرية من منطلق تعزيزها لمفهوم التجديد والتغاير، بوصفه نزوعا دافعا لمجرى القراءة، ولتبرير وجود مقاربة اشتغالية مابين الفسلفة والسرد، او بين علم الظواهر بوصفه التأويلي وبين النص…

 

الكتاب الجديد للناقد فاضل ثامر(المبنى الميتا- سردي في الرواية) والصادر عن دار المدى للثقافة والنشر يضع مشروعه النقدي في سياق التعرّف على التحولات الاسلوبية التي بدأت تعصف بالسرديات، وباشكال قراءاتها المتعددة، فالكتاب ينطلق من البعد التوصيفي ل(الميتاسرد) الذي هو (جزء من انفجار الميتا وتناسلها الذي شمل جميع العلوم والمعارف الاجتماعية والفكرية)ص7 اي انفتاحه على سلسلة من التغايرات التي تعاطت مفهوميا مع المصطلح، ومع اجراءاته، مثلما تعاطت قرائيا مع بواعثه بوصفه انشغالا بكشف مستويات بنايئة للنص السردي، ولانوية التحكم الروائي للكاتب، ولقصديته في اجتراح(لعبة كتابية صرف)ص8

 

العتبة التاريخية لقراءة مصطلح الميتاسرد تمثل المدخل الاشكالي لكشف المحمولات اللسانية والدلالية لهذا المصطلح(في الترجمة التي يثيرها)ص16 وفي توليداته التي دفعته لان يكون(عنصرا تكوينيا في بناء الكلمات في اللسانيات والنظرية الادبية والذي يترجم بماوراء اللغة او اللغة الواصفة او الشارحة)ص16

 

واحسب ان هذا المستوى من القراءة يتطلب رؤية منهجية واضحة، مثلما يتطلب منظورا علميا لتوظيفات المصطلح في السياق، وفي الوظيفة، وفي ابراز المستوى الاجناسي الذي قد يحيل الى تعالقات سيرذاتية او الى كشوفات ايديولوجية او تاريخية، اذ يكون هذا المصطلح قرينا بادراك قصدي لما تقوم به الذات الكاتبة التي نجد فيها(الروائي او القاص منهمكا بشكل واع وقصدي بكتابة مخطوطة اوسيرة او نص سردي اخر داخل نصه الروائي او القصصي)ص14

 

انشغال الناقد بهذا المنظور يمثل استشرافا لما يمكن ان تكون قراءته النقدية، ولطبيعة ماتتقصده من كشوفات، ومن معطيات ينتهك فيها الطبيعة الخطية للقراءات النمطية، وباتجاه ان تكون القراءة مولدة لنص اخر مجاور، يرتبط باحالات مصطلح الميتا الى عوالم ومستويات اخرى، والتي تعيد قراءة وفحص التاريخ، او المسكوت عنه في هذا التاريخ. ومن هنا يكتسب هذا الكتاب اهميته في النقدية، اذ هو يلامس منطقة ملتبسة في المشغل النقدي العربي، ويكشف عن مجموعة من التوصلات العلمية واللسانية التي اثرت لغته النقدية من جانب، واسهمت كذلك في التعريف(بموضوعات ماوراء المنطق وماوراء الرياضيات قبل ان يلتقي بتعبير ماوراء الرواية في كتاب وليم غاس/ التخييل وشخوص الحياة/ الصادر العام 1970) ص24

 

اجراءات الناقد وهوية الكتاب..

 

اجراءات الناقد الوظيفية انطلقت اساسا من العتبة العنوانية للكتاب، اذ وضعنا المؤلف امام مجال استكشافي للعديد من الروايات العراقية والعربية، والتي يتقصد فيها الروائي نسج مستويات سردية تقوم على فكرة التشابك بين السياق الروائي التتابعي، وبين القطع الذي تديره بوعي الذات الكاتبة، عبر نوع من القصدية الظاهراتية القائمة على تفكيك السياق السردي، وهو مايعني الانكشاف على اعادة قراءة مفهومية ووظيفية للتخييل، والمخيلة والسردية والهوية السردية، فضلا عن قراءة التحقق الذي تمثله البنية السردية في التاريخ والواقع، ومايمكن ان يمثله الوعي الذاتي عبر(لغة سردية حديثة تتيح للقارىء الدخول الى الفضاءات الدلالية التي يفتحها النص المهجن)ص39

 

رواية امين معلوف(صخرة طانيوس) تستدعي فعالية القراءة الموازية، اي قراءة التاريخ عبر السرد، من خلال اسطرته، وهذا الاستدعاء يشحن المبنى السردي في الرواية بكشوفات تضىء ماهو اسطوري، او حتى ما هو وثائقي، لان الروائي يعمد الى ايجاد علائق سرية، والى سياق فني للاحداث والمرويات، وهو مايعني دفع الناقد للمزيد من الاضاءات والاستقصاءات، من خلال انسنة الاسطورة، او اعطائها عمقا له علاقة بفعالية الشخصيات والزمن والمكان بوصفها العناصر الاساسية في الرواية، وبما يجعل مرجعيات الميتا سرد تقوم على هذه القصدية المؤنسنة والمفارقة، والتي تشكل اطارا لبنية سردية(تستند على مجموعة من الشهادات والشفاهية والمدونة وهي غير بعيدة عن نهاية الرواية)ص49

 

وانفتاح الناقد الى التعاطي مع فكرة المخطوطة في المبنى الروائي، يعني قصديته في اعطاء الميتاسرد حضورا لاغناء فعالية السرد، ولاستعادة حضورها عبر وجود سرد موازي تشكله المخطوطة، واحسب ان روايات مثل(اعترافات كاتم الصوت)لمؤنس الرزاز، و(تيمور الحزين)لاحمد خلف، و(سابع ايام الخلق) لعبد الخالق الركابي وغيرها، تسبغ على معطى البنية السردية توصيفا بنائيا تجديديا من جانب، وتكشف كذلك عن قدرة الروائي في توظيف البنية المجاورة التي تتيحها المخطوطة للكشف عن الانساق المضمرة التي يحاول الافصاح عنها، لكن عبر مرجعيات تعبيرية مجاورة.

 

كما ان اعتماد السرد الغرائبي والتحقيق الصحفي والسيرة والتناوب والمدونة الرقمية في الكتابة الروائية يتمثل الى توسيع مديات الاشتغال السردي، فكتابات سليم مطر ورجاء الصانع وعلي بدر مثلا تضع فعالية القراءة النقدية امام وعي ماهو مجاور في السياق الروائي، اذ تمثل تلك الاعتمادات عناصر تكميل للمبنى السردي، ولاضفاء مسحة تجديدية تتجاوز الصوغ الكرنولوجي الخطي للاحداث، ووجود هذه العناصر يتيح المجال لاضافات اسلوبية وتعبيرية تنتهك تاريخية الرواية وراويها العليم او الكلي، باتجاه الانفتاح على رواة داخليين او اصوات اخرى تملك مناطق تبئير مجاورة، لكنها قادرة ايضا على استكناه ماهو خفي وسردي في الرسالة الاتصالية للرواية..

 

لقد قادنا الناقد فاضل ثامر في كتابه الى فضاء واسع من القراءات، والى عوالم تنكشف فيها الرواية على مستويات مفارقة في التوصيف السردي، لاسيما مايتعلق بهوية الخطاب الروائي، وطبيعته الاجناسية، وربما اسئلته الصادمة المتعلقة بالنوع والدلالة، وهو مايعني الانفتاح على مجموعة من التقنيات والاليات التي تضع الكتابة الروائية امام موجهات ضاغطة، تلك التي تتعلق ب( بنية الاطار والمتون والملحقات) وهي حمولات من الصعب ابدالها، الاّ عبر ايجاد اطر مضادة ومتون مجاورة، وملحقات توسع من مدى المجرى السردي في الرواية.. كما ان تموضع هذا التجاورات داخل المبنى السردي يتجاوز الى المتن السردي ايضا، لاسيما في يتعلق بمرويات الاحداث والوقائع، وكذلك اعتماد اللغة في الموروث الشفاهي وفي لغة السرد الحديث، اذ يعطى هذا الاعتماد المفارق نوعا من(الملمح التجريبي) في تقنية القص الروائي، وفي اصطناع اطر للتجاور الحذر، لكنه الكاشف والصادم، لاسيما لما تثيره تلك الروايات من اسئلة تتعلق باحداث تاريخية وحكايات معروفة، لكنها مسحوبة للحاضر بقصدية واعية، لانها تتعلق بازمة محنة الانسان لوجوده وحريته.