تضمين المعالجات داخل المتن – اضواء – يوسف عبود جويعد

دراسة نقدية في رواية أولاد حمدان

تضمين المعالجات داخل المتن – اضواء – يوسف عبود جويعد

في أحيان كثيرة يعمد الروائي في تضمين معالجاته الفنية،وحرفته ومهارته داخل متن النص برغم واقعية الطرح،إذ إن ذلك من السمات المهمة التي تجعل فضاء السرد عالما موحداً ينعكس بانسيابية طبيعية غير مصطنعة،ليسحب المتلقي بخيط هادئ ليدخل في متن النص السردي للرواية،ويتابع بكل اهتمام،وفي رواية ( اولاد حمدان ) للروائي راسم عبد القادر نجد هذا النسق الفني مضمراً داخل النص دون إقحام أو مباشرة أوخروج، فقد وظف معالجته الفنية ضمن البناء العام للرواية، حتى ظهرت للعيان أنها جزء لايتجزأ من السياق،واستطاع أيضاً تحريك أدوات السرد بوتيرة موحدة،الشكل،المضمون،الزمان،المكان،وكذلك النمو الزمني العمري لشخوص الرواية..

منذ السطور الأولى للرواية التي هي من الحجم الكبير وعدد صفحاتها ثلاثمئة واربع وثمانون صفحة،وقد يتبادر إلى ذهن المتلقي أن السياق الفني لبناء وهيكلة الرواية كلاسيكي قديم،إلا أن التعمق في مضمونها يكشف لنا بأنها استندت على الحداثة في الطرح،لأنها صيغت بلغة متناغمة تنسجم مع الحركة السردية لأحداثهاوحكايتها، وإنها متماسكة وغير مترهلة ومتصلة ومترابطة بفصولها،وإن الروائي استطاع أن يدخل التعابير السيمائية لوجوه شخوص الرواية عند المحاورة أي إنه يعكس انطباع تلك المحاورة ومدى تأثيرها من خلال الانتقال إلى الوجوه وعكس ردود الفعل عنها،ولم يترك تلك المحاورة مجردة خالية من التأثيرات الحسية المتفاعلة مع الحدث، مما يجعلها تنحا منحى دراميا يضفي إليها هالة من الهيمنة الحسية التي تعزز وتمتن قوة المتابعة،وهي صيغة مضمرة داخل النص،نحسها عند متابعتها،إذ إن هذا النسق المضمر داخل حركة السرد يتطلب جهداً مضنياً وصبراً،وهذه ميزة تنفرد هذه الرواية بصياغتها،كما إن الروائي أخذ بنظر الاعتبار كبر مساحة الرواية، وقد يكون ذلك سبباً في خلق حالة من الملل لدى المتلقي،وهنا جاء دوره مرة أخرى لكي يتلاعب بأحاسيسه ومشاعره من خلال جعل الحركة السردية للأحداث مليئة بالمفاجآت المبهرة والمدهشة التي تقتل هذا الملل، وتجعل المتلقي مواظباً في متابعة الأحداث،بل إنه يتعمق في أحداثها كلما توغل فيها، وهي تدعوه إلى السباحة لسبر أغوار أحداث عائلة حمدان،التي هي تمثل الوطن في كل متناقضاته،إذ إن الرسالة الفكرية الموجهة في نسقها المضمر،ورمزيتها تؤكد أن عائلة حمدان صورة مصغرة للوطن،فما إن يلفظ حمدان أنفاسه الأخيرة حتى تتفتح الدنيا لدى العائلة، ليكتشفوا أن وراء موت أبيهم سرا دفيناً يجب كشفه،وقد عزم صباح أحد افراد العائلة أن يقوم بهذه المهمة،وعليه أن يعرف سبب إصابة والده بالشلل ثم الموت؟ وأين ذهبت ثروته؟ وهكذا نرحل مع صباح برغم رفض أخيه أحمد وأمه وأخته أسماء ومحاولة إقناعه بالعدول عن رأيه،إلا أنه ينطلق في مسيرته،ومن خلال البحث والتحري يعرف أن والده كان يتردد على مكتب للاستيراد والتصدير،وهو مكتب وهمي يخفي وراءه عملية سرقة النفط من البلاد،وتدور أحداث كبيرة وشائقة،ليلقى القبض عليه مع صديقه بتهمة محاولة قتل أحد التجار،وتحتد الأحداث وتحتدم وتتماسك وتكبر،إلا أن عملية الانسيابية السردية لم تفلت زمامها،بل بقي الراوي العليم يقود الأحداث السردية بكل براعة،ومن هذا الموقف تبدأ لعبة ضخ الأحداث وإدخال عنصر الدهشة والمفاجأة،وما إن يدخل القاضي للنطق بالحكم حتى يقطع الروائي هذا الفصل، لينتقل إلى فصل آخر، وبهذا أراد أن يبقي التساؤل مفتوحاً وأن نتابع حركة السرد لنصل إلى القاضي مرة أخرى بعد عدة فصول وهو ينطق بحكم الإعدام شنقاً حتى الموت على أحد أولاد حمدان وهو صباح،وهكذا حيكت الأحداث وتواترت وانشدّ السرد أكثر وبدأت رمزية الثيمة تتوضح أكثر،وصار ظاهراً للعيان أن الوطن يُسرَق،وأن السراق لهم نفوذهم وسلطتهم،ونتعاطف مع صباح،لنعرف كيف يستطيع الخلاص من حبل المشنقة،فقد استنجد بأخيه أحمد لإنقاذه،وأحمد استعان بابن عمته عمار للوصول إلى حل يخرج صباح من حبل المشنقة،وهنا تظهر الثيمة أكثر لنعرف أن الوطن الذي يزداد فيه الفساد والسرقة والرشوة،تسهل مهمة إنقاذ أي متهم، حتى وإن كان مداناً بالإعدام،وبهذا استطاع أحمد إنقاذ أخيه،ثم ينقل لنا الروائي من خلال السارد العليم ماحدث للبلاد بعد التغيير ودخول الأمريكان من سلب ونهب وأهوال كبيرة عصفت بالبلاد لتجرف البنى التحتية من جذورها وتقلبها رأساً على عقب،ثم تكبر مساحة أحداث الفضاء السردي،لننتقل إلى حياة أفراد عائلة حمدان،وتكون مع حركة السرد والمفاجأة والانبهار مرة أخرى،حيث نكتشف وفاة الأم بعد النطق بإعدام صباح،ثم ننتقل إلى حياة أسماء وعلاقتها مع ابن عمتها عمار وفشل تلك العلاقة ودخول شخوص إلى عالم الرواية كلما تطلب الأمر ذلك،مثل جاسم الــــذي استغل فراغ الــــدولة من الســــيطرة ونهــــب وسرق وأصبح غنـــــياً وحاول أن يتـــــزوج أســــماء التي ترفضه إلا أنـــــه نجــــح من الزواج بها بمكره وخـــــداعه ودخـــوله عــــنوة لاغتصابها،والأمر اللافت للانتباه إن الراوي العليم يقوم بمهمة سرد الأحداث بطبيعتها دون أن نجد تدخلاً أو خروجاً أو مباشرة كما نرى ذلك في أغلب الروايات التي كتبت،إذ إن السارد العليم يتدخل في أحداث الرواية ويدلي بدلوه فيه،لأن الروائي لم يكن يبغي من عرض حياة عائلة حمدان كصورة مجردة منفردة خالية من التأويلات والرمزية،بل إنه أراد من خلالها أن يعكس الحياة البغيضة التي عاشها الشعب خلال الحقبة الزمنية التي مررنا بها،وقد أفرد دوراً مهماً للحزب الشيوعي في أحداث الرواية،وما فتأ يذكر بالتفكك الكبير الذي حدث داخل بناء الوطن،إن أحداث الرواية كبيرة ومتشعبة، وفيها من التفاصيل الكثير الذي لايمكن حصرها،إذ إنني لست بصدد عرض أحداث الروايـة،بل إنني بصدد عرض البناء المتقن لشخوص الرواية،وكذلك الرسالة الموجهة من خلال الثيمة التي تتوضح بشــــــكل تـــدريجي حتى تكتمل.

 وكذلك البناء المتماسك المتين،ومقدرة الرواية في السيطرة على العالم المروي بكل ثقة،ولغة السرد الهادئة التي ما إن تغور بأعماقها حتى تكتشف أنك أمام راوٍ خبر الحياة وعرف خباياها،فانعكــــست تلك الخبرة على فضاء هذا العالم الذي نعيشه مع عائلة حمدان،إذ إن الأمر لم ينتهِ بشخصية صباح إلى هذا الحد،حيث يلقى القبض عليه مرة أخرى ويعدم فعلاً،وهنالك فصول في الرواية لشخصية حسين وإلهام اللذين استغلهم ملازم سيف ليكونا خبيـــــراً سرياً له،وأمور كثيرة جدا هي من صلب أحداث الرواية، وبهذا وبعد الانتهاء من الرواية نعرف أنـــها تحوي الوطـــــن بكل متناقضاته وإنها وثيـــقة مهمة يجب أن يكون لها مكانها فـــي الــــروايات العراقــــية الحديـــثة لأن اولاد حمدان هم الوطن.