تسابق على إسقاط الرموز
سعد العبيدي
غارة على القوة البحرية سبق النهابون في وقعها المنتفضون تدوم ساعة زمن ثقيل، يصبح الجامع في محلة الجمهورية خلالها مهيئا ليكون قيادة للمنتفضين، يتحرك وسطه الفسيح علي، ذاك المجاهد القادم من أهوار الناصرية خصيصا لاحداث فعل الانتفاض، يحمل جهازاً لاسلكياً لم يسكت عن المناداة، يصدر أوامر قتال كأنه واقف على الحافات الامامية لساحة الحرب، أمامه بالتحديد منبر خطاب يتوسطه رجل يقترب طول قامته من المترين، بشرته بيضاء صافية لم تمسها أشعة الشمس البنفسجية من قبل، تضفي عليه العمامة السوداء قدرا من الوقار، يأمر، ينصح، يوجه، ينهر أحيانا، وجمع الحضور يصـــغي بامعان.
تسقط القوة البحرية قبل بلوغ المنتفضين ثكنتها العامرة بالأشياء.
تختفي من أبنيتها كل الأشياء.
تصبح بعد غزو عشوائي محموم أرضا صالحة لرعي الأغنام.
صورة ينقلها كريم، يُسمع تفاصيلها كاملة بنبرة احتجاج الى السيد المتربع أعلى المنبر، يؤكد هدفهم القادم سيكون مديرية أمن البصرة (اذا ما سقطت والمخابرات، فان السلطة في البصرة تكون بحكم المنتهية، وستكون المدينة العظيمة محررة باذن الله). يتلقى وزميله اشادة من السيد ومن المجاهد علي معا، فيها مباركة لجهودهم وتنويه صريح بأنهم نعم المجاهدين، ثم يلتفت الى علي، طالبا أرسال ثلاثة مجاهدين يعاونون كريم وزميله في مهمتهم الجهادية القادمة، مع قاذفة صواريخ (اربي جي 7) ستكون مفيدة في الهجوم على المباني الحصينة.
ينزل من على المنبر يتابع السيارات الثلاثة المتجهة الى بناية المديرية العامة للأمن وهي ممتلئة بثلاثين شابا غالبيتهم لم يمسك بندقية من قبل… عدد لم يُشبعْ رغبة كريم في تحقيق النصر السريع ولم يفِ بالمطلوب، يشك هو وسالم بكفايته لاسقاط المديرية بالوقت المطلوب.
يسأل سالم صديقه العائد توا من جبهة القتال عن رأيه بالعدد ومدى كفايته للهجوم على البناية الخاصة بالامن؟.
– أنا مثلك أشك بكفايته، لكني أعتقد بأمكانية الاستفادة من الجمهور المنفعل مع أول خطوة نجاح نحققها في الاقتحام.
السير باتجاه الامن تبطؤه عوائق المارة المنتشرين بالشوارع والنهابة المحتشدين أفواجاً بانتظار خطوة اقتحام جديدة، يستثمرون فيها جهد الفوز بغنائم أكثر.
دقائق لا تزيد عن العشرين تصل السيارات الثلاثة بحمولتها من الشباب المنتفض الى بناية الامن، يترجل الجميع قريبا من بوابتها الرئيسية.
يشرع كريم بتقسيم المتطوعين الى مجموعتين:
المجموعة الاولى مع رامي القاذفة، طلب أن تكون معه، قريبة منه.
المجموعة الثانية مع حامل الرشاشة الخفيفة ستكون بإمرة سالم.
اطلاق نار خفيف من داخل البناية، يجعل بعض أفراد المجموعتين يتراكضون بعدة اتجاهات، والبعض الآخر القليل ممن خبر الخدمة العسكرية، يهرول صوب السياج في محاولة لاتخاذه ساترا يجنبه الاصابة.
لا يأبه كريم لما حصل فقد خبر خلال خدمته العسكرية كثيرا من المواقف المشابهة وتعودت اذنيه سماع الرمي القريب كما انه يتوقع هكذا ردود فعل قتالية. يبدأ باصدار أوامر القتال:
– تراجعوا الى الخلف، خذوا وضع الرمي، صوبوا على الشبابيك العلوية.
– سالم، ألتفْ بمجموعتك من خلف البناية، أبدأوا الرمي على الشبابيك الظاهرة.
– أنت ترجل من خلف مقود السيارة، سأقودها بنفسي.
– كيف؟، أنا معكم.
– لا وقت للنقاش، ستفهم لاحقا، ترجل بسرعة.
– كاظم، أصعد بقاذفتك الى أعلى بدن السيارة، وجه أول صاروخ الى باب البناية الداخلية، حال نجاحنا باقتحام الباب الخارجية.
يصعد مسرعا خلف المقود، يتحرك باعلى تعجيل لمحركها المتهالك، يصدم الباب التي تنفتح صاغرة، يقترب أكثر، ينطلق اول صاروخ من القاذفة، يهدم الباب الداخلية، فاتحاً ثغرة في الجدار الكائن خلفها بقطر يزيد عن المترين.
يترجل كريم من خلف المقود، ينادي الزملاء بأن يدخلوا.
– عليكم الاستفادة سريعا من قوة الصدمة التي أحدثها الصاروخ.
يتقدم افراد مجموعته، يتكدسون قريبا منه. ينادي بأعلى صوته أن يبتعدوا عن المكان الذي هو فيه، أن يتفرقوا فرادا خلف الجدار.
يعاود المدافعون عن البناية رميهم المكشوف من برج الحراسة الجنوبي باصرار ينم عن عدم الرغبة بالتسليم، يشاغلهم بالرشاش الذي معه، ويعاود إصدار الاوامر الى كاظم لأن يضرب مبنى البرج، بسرعة.
ينهدم البرج، بعد الاصابة المباشرة، فأصبحت الساحة الممتدة أمامه آمنه.
ينادي على المتبقين القريبين في أن يتهيأوا للاقتحام، لابد من القيام به الآن.
المعركة شرسة، يتحصن من في الداخل جيدا، يؤكدون اصرارهم على مواصلة القتال بأمل ضعيف في النجاة، وفي المقابل يصر من في الخارج على الاقتحام بمعنويات عالية، وخبرة قتال ضعيفة او معدومة، لغالبية المجموعتين.
صاروخ ثالث يوجهه كاظم الى الطابق العلوي يثير الارتباك في صفوف المدافعين، يوقف الرمي لاكثر من دقيقة، يستثمرها كريم في دخول البناية، يرمي رمانة يدوية هجومية، يتبعه افراد المجموعة، يتلقى القريب منه رصاصة في رأسه من ضابطٍ كان متخفيا بشكل جيد في غرفة الاستعلامات، يرد عليه كريم بسرعة، يرديه قتيلا في الحال.
يجلب الرمي الشديد انتباه الجمهور الذي احتشد بالمئات خارج سياج البناية، غالبيتهم من ذوي المفقودين على أيدي رجال الأمن، وجدوا في الهجوم فرصة للتفتيش عن ذويهم في سجن المديرية او في دفاترها السرية، أملٌ ضعيف، لكنه ممكن.
يحاول البعض الدخول، لم يستطع كريم منعهم، لاندفاع غير محكوم بقدرات السيطرة في نفوسهم او لهستيرية عادة ما تصيب البعض في اللحظات الاولى للانتصار، يندفعون جميعا بقوة اجسامهم.
تعم الفوضى هذا المكان، يشتت الرمي الكثيف صفوف الداخلين، يضعهم خارج البناية مصابين بالهلع الشديد، يستمر كريم في تنقله تحت الرمي من غرفة الى أخرى، يحضر سالم للمعاونة بعد تثبيت خمسة زملاء لمراقبة الجانب الخلفي.
تشتد المقاومة في جانب السجن، تحشد كل البنادق باتجاهها، يخرج اثنان بملابسهم المدنية مضرجين بالدماء، يُقتلان في الحال، لا مجال للاسر، ولا تأجيل في عملية القتل فشهوته بلغت أعلى المستويات، يصاحبها اصرار من كلا الطرفين على حسم الموقف بقوة الرغبة في القتل لمجرد القتل أو للانتقام.
يدرك رجال الامن النتيجة مسبقا، يصرون على القتال أملا في تغيير الموقف ووصول نجدات من قوات عسكرية، لا يمتلكون اي اتصال معها، ولا يعرفون شيئا عن ثكنات لها، دخل بعضها الجمهور الغاضب انتقاماً من خسارتها الشنيعة في الحرب الخليجية الثانية، وطمعاً في اسلحتها ومعداتها التي استبيحت بكل أقتدار.
يعي رجال الانتفاضة تفاصيل الواقع، يصرون من جانبهم على الحسم ايضاً، فمديرية الامن رمز معروف للظلم والبؤس والشقاء، وعمود قوي يستند عليه النظام، ينتهي بانتهائها اقتحاماً باسلحة المنتفضين.
نصف ساعة من القتال الداخلي العنيف، ينهى عشرين رجلاً أمنياً كانوا متحصنين، وخمسة شهداء من المهاجمين، وسبعة جرحى بينهم سالم أول المنتفضين.
يتوقف القتال بعد هذه الخسارة.
يصعد كاظم مع قاذفته الى أعلى البناية، يكبر (الله وأكبر، سقط الطاغوت… أنتهى وكر الشياطين… الله وأكبر).
مئات المتجمهرين المتربصين، يقصدون البناية ركضا كأنهم في سباق للمارثون، يدخلون الباب المفتوحة والشبابيك المهشمة ركضا. أوراق المديرية واضابيرها، وحواسيبها واسلحتها، ومعدات التجسس فيها لم تصمد امامهم عشر دقائق، باتت البناية بعدها بقايا هيكل تلتهمه النيران.
يشعر كريم بالارتياح، تنتهي مهمة عسيرة فكر بها قبل ساعة من الان، لا يعرف الخطوة القادمة.
أخبارٌ تناقلها الموجودون تؤكد انتهاء فاعلية المخابرات الجنوبية، وكذلك منظومة الاستخبارت.
يدخل الجمهور المنتفض بناياتها جميعا، يفعل بها مثلما فعل بالامن وباقي المقرات والثكنات المستباحة.
المقرات الحزبية انتهت بالكامل. يتنفس المنتفضون الصعداء.
تنفتح أسارير النهابون.
يتعطل التفكير بالخطوة التالية.
يعود كريم الى بيت الحاجة رضية مقتنعا بما فعله أنتقاما لموت صديق العمر وليد.