تداعيات سقوط نظام الأسد

تداعيات سقوط نظام الأسد
جورج فريدمان
ترجمة ــ سناء عبدالله
لقد دخلنا في مرحلة تحقيق الأهداف النهائية في سوريا. غير أن هذا لا يعني بأننا وصلنا الى نهاية الأزمة بأي شكل من الأشكال، لكنه يعني بأن الشروط اللازمة لسقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد قد توفرت. كنا قد قلنا في السابق إنه طالما بقيت المؤسستان العسكرية والأمنية سليمة وفاعلة، فإن بوسع النظام أن يقاوم لفترة أطول. ورغم أن هاتين المؤسستين تواصلان تأدية مهامها، فان أيا منهما لا يبدو سليما كما كان عليه الحال من قبل، حيث باتت سيطرتهما على المناطق الرئيسية مثل دمشق وحلب موضع شك، في وقت باتت فيه قدرة الاعتماد على العاملين فيهما غير مؤكدة في ضوء الانشقاقات التي شهدتها المؤسستان. كنا قد اعتقدنا في السابق بأن هناك فرصا معقولة لنجاة نظام الأسد بشكل كامل من هذه الأزمة. غير أن هذه القناعة لم تعد قائمة حاليا. فمن وجهة نظرنا، وبعد انشقاق الطيار السوري بتاريخ 21 حزيران الماضي وما اعقبه من انشقاق أفراد في أسرة طلاس، بدأت عناصر مؤثرة في النظام تعيد حساباتها بشأن فرص النظام بالبقاء وراحت تحسب لمصلحتها الشخصية.
لم يتفكك النظام ولكنه بدأ يتهاوى.
ان التخمينات الدائرة بشأن مكان تواجد الأسد والقتال العنيف الدائر في دمشق هي بالواقع جزء من مشاكل النظام. كما أن الشائعات، ان كانت صادقة أم عكس ذلك، من شأنها أن تخلق أجواء انعدام اليقين وهو الأمر الذي يصعب على النظام تحمله في الوقت الحاضر. وتبقى النتائج غير معروفة في الوقت الحاضر. فمن جهة، هناك امكانية بأن يظهر نظام جديد يستطيع فرض سيطرته على البلاد. غير أن سوريا تواجه احتمال الانهيار والسقوط في حالة شبيهة بحالة لبنان حيث تتجزأ الى اقاليم تحكمها فصائل مختلفة دون وجود حكومة مركزية فاعلة.
الاستراتيجية الروسية والصينية
من جانبها، تبدو الصورة الجيوسياسية أكثر وضوحا من صورة الأوضاع الداخلية في سوريا. ومهما سيحدث، فليس من المرجح أن يتمكن الأسد من العودة الى ممارسة سلطته التي لم ينازعه فيها أحد. لقد عارضت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبقية البلدان الأوروبية نظامه، بينما حظي النظام بدعم من روسيا والصين وايران، ولكل أسبابه الخاصة. كما عارضت روسيا نداءات الغرب بالتدخل في سوريا، حيث استندت تلك المعارضة على مخاوف تتعلق بحقوق الانسان، والخوف من أن يكون التدخل المقترح مجرد ذريعة لبسط النفود الغربي في المنطقة واستخدامه ضد روسيا في وقت لاحق. الصينيون، من جانبهم، قدموا الدعم للسوريين، لأسباب يتعلق بعض منها بالعوامل التي أوضحناها أعلاه. ولقد حاولت كل من روسيا والصين تجنب شرعنة الضغوط الغربية استنادا الى اعتبارات تتصل بدواعي حقوق الانسان، وهي اعتبارات واجهها هذان البلدان في وقت سابق. يضاف الى ذلك أن كلا من روسيا والصين أرادتا دفع الولايات المتحدة الى صب جل اهتمامها على الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص وليس على الأوضاع في بلديهما. ولم يمانع هذان البلدان من أن تتورط الولايات المتحدة بتدخل عسكري، غير أن أمريكا لم تحقق لهما هذه الأمنية. بيدّ أن اللعبة الروسية والصينية كانت أكثر دهاءً مما تقدم. لقد سلط هذان البلدان الضوء على ايران. وكما أسلفنا، فاذا ما تمكن نظام الاسد من البقاء على الحياة وأصبح معزولا عن الغرب، سيصبح هذا النظام معتمدا بشكل رئيسي على ايران، بوصفه راعيا رئيسيا له. وكانت ايران قد قامت بتزويد سوريا بالمدربين، والقوات الخاصة، والمعدات، والأموال، للحفاظ على النظام. وهكذا شكلت تطورات الأحداث في سوريا فرصة كبيرة لايران. فالأخيرة تحتل موقعا مؤثرا في العراق، فهي لا تسيطر عليه تماما لكنها تمارس نفوذا قويا فيه. وفي حالة تمكن نظام الأسد من البقاء وحصوله على الدعم الايراني كمصدر لبقائه حياً، سوف تصبح حينها سوريا أكثر اعتمادا على ايران من العراق. ان ذلك من شأنه أن يعزز الموقف الايراني في العراق، ولكنه سيساهم في تحقيق أمر أهم من ذلك يتمثل في خلق منطقة نفوذ ايرانية تمتد من غرب أفغانستان الى لبنان، حيث يعد حزب الله حليفا لايران. لقد أدرك الروس والصينيون بوضوح أنه في حالة وقوع الافتراض المذكور آنفا، عندها ستقتضي المصالح القومية للولايات المتحدة العمل على تقويض منطقة النفوذ الايرانية تلك، وسيستدعي ذلك منها تكريس موارد هائلة لتحقيق هدفها. وكانت كل من روسيا والصين قد استفادتا كثيرا من حقبة ما بعد الحادي عشر من أيلول، عندما كانت الولايات المتحدة مهووسة بالعالم الاسلامي ولم يكن لديها الرغبة أو الموارد الكافية لتكريسها لروسيا والصين. وفي وقت تلوح فيه في الأفق بوادر نهاية للحرب في افغانستان، يبدو أن فترة الاسترخاء هذه قد أشرفت على نهايتها. لقد كانت عملية تجيير الهيمنة الايرانية على المنطقة كفيلة بجلب انتباه الولايات المتحدة، وهي استراتيجية غير مكلفة وذات مردودات عالية.
في هذا السياق، وفرت الصين بشكل رئيسي الغطاء السياسي لتلك الاستراتيجية، حيث منحت الروس فرصة عدم الاضطرار الى العمل دبلوماسيا بشكل انفرادي. ويذكر أن هذين البلدين لم يخصصا أية موارد مالية تذكر للنزاع في سوريا لكنهما واصلا معارضة فرض العقوبات الاقتصادية على ايران ووفرا فرصا تجارية لايران. أما الروس فقد قدموا دعما ماديا وسياسيا لنظام الأسد. ويبدو أن الروس بدأوا منذ مدة يتحسبون لوصول النظام السوري الى نهايته. وفي الوقت الذي واصلت فيه روسيا امداد السوريين بالعتاد والمعدات الأخرى، فقد تراجعت عن تسليم طائرات الهليكوبتر الى سوريا. كما باءت بالفشل العديد من المحاولات لتسليم طائرات الهليكوبتر تلك عندما سحبت الجهة البريطانية المسؤولة عن تأمين سفينة شحن الطائرات تغطيتها للتأمين. وكان ذلك هو السبب الذي دفع بالروس الى التخلي عن تسليم الطائرات، لكنه كان من الواضح أيضا بأن الروس كان بوسعهم أن يوفروا من جانبهم ترتيبات التأمين التجاري على السفينة. لكنهم تراجعوا عن دعم الأسد، اذ تشير مصادرهم الاستخبارية بأن هناك مشكلة في دمشق. لقد وصلت الأوضاع بالروس خلال الأيام القليلة الماضية الى الحد الذي دفعوا فيه سفيرهم في باريس الى القول بأن الوقت قد حان للأسد للتخلي عن السلطة، وبعدها، وبطبيعة الحال، نفى الأخير أنه أدلى بمثل هكذا تصريح.
صفعة استراتيجية إلى إيران
في الوقت الذي سحبت فيه روسيا دعمها، فقد بدت ايران في الوقت الحاضر مكشوفة الجناح الى حد بعيد. ولقد ساد اعتقاد لفترة طويلة بأن صعود ايران في المنطقة أمر حتمي، ولا سيما بروزها كقوة مهيمنة في منطقة الجزيرة العربية. في هذا السياق، يعد اضمحلال دور الأسد بمثابة صفعة استراتيجية للايرانيين من جانبين. أولا، من الواضح أن منطقة النفوذ التي كانوا في صدد تكوينها لن تتحقق. ثانيا، سوف تتحول ايران بسرعة كبيرة من قوة صاعدة الى قوة تدافع عن نفسها. من جانب آخر، يعد العراق المكان الذي سيكون فيه هذا التراجع أكثر وضوحا. ويشكل العراق واحدا من المصالح القومية الرئيسية في المنطقة بالنسبة لايران. وفي ضوء الحرب التي خاضتها ايران في عقد الثمانينات ضد العراق لمدة ثمان سنوات، يعلق الايرانيون أهمية كبرى على مصالحهم في هذا البلد، والتي تشمل ضمان بقاء العراق محايدا، على الأقل، بل يفضلون أن يكون مؤيدا لايران. وفيما كانت ايران تتجه نحو الصعود، شعر السياسيون العراقيون بأن عليهم أن يجاملوا ايران. لكن، وفي ضوء نفس الطريقة التي أعاد فيها الجنرالات السوريون حساباتهم، يتعين على السياسيين العراقيين أن يفعلوا الأمر نفسه. ومع العقوبات الاقتصادية المفروضة على ايران، وبغض النظر عن فاعليتها، ومع تفكك قوة الموقف الايراني حيال سوريا، فأن الوضع النفسي في العراق قد يكون متغيرا.
ويتطابق هذا الوضع تماما مع الرغبة في تعزيز المصالح التركية في العراق. ففي الأيام القليلة الماضية، أعلنت تركيا عن وضع الخطط اللازمة لمد خط أنابيب في العراق يصل حقول النفط في الجنوب بشمال البلاد، في وقت تزداد فيه كثافة النشاط الاقتصادي التركي في العراق. وتعد تركيا الدولة الوحيدة في المنطقة القادرة على تحدي القدرات العسكرية الايرانية. وتستخدم تركيا قوتها في التعامل مع الأكراد في العراق. لكن في حالة مد خط أنابيب النفط، سيتعين على تركيا أن تكفل تأدية هذه الأنابيب مهامها، اما عسكريا أو سياسيا. ولا ترغب تركيا بالتورط عسكريا في العراق، لكنها ترغب بامتلاك نفوذ سياسي يكفل لها الحفاظ على مصالحها. وهكذا، فبينما تتراجع قدرات ايران، فان للأتراك مصلحة، ان لم يكن في احتلال المكانة الايرانية، فان مصلحتهم تكمن في استكمال الدور الايراني. لقد بات الضغط على ايران في الوقت الحالي شديدا، وسيكون من المهم رؤية التداعيات السياسية لمثل هكذا ضغط. ولقد كان هناك اجماع على الاستراتيجية المتبعة حيال سوريا، ولكن مع فشل هذه الاستراتيجية، فأن الاجماع يتفكك. وسيكون لهذا الأمر تداعيات في داخل ايران، وقد تكون هناك اجراءات تتجاوز مسألة العقوبات الاقتصادية، وسيكون من الصعب على الحكومات أن تتراجع في سياساتها.
تداعيات أخرى
من وجهة النظر الأمريكية، فان تراجع نفوذ نظام الأسد سيمهد الطريق أمام تحقيق فرصتين. أولا، يبدو أن السياسية الأمريكية التي تقضي بعدم التدخل عسكريا بصورة مباشرة مع تقديم الدعم السياسي المتواصل، وبدرجة أقل، ممارسة الضغوط الاقتصادية، قد حققت نجاحا في الحالة السورية. وعلى نحو أدق، حتى ان لم تكن هذه السياسة فاعلة، فإنها ستبدو كذلك، الأمر الذي سيعزز قدرة الولايات المتحدة في التأثير على البلدان الأخرى دون ضرورة التدخل المباشر. ثانيا، من شأن الأوضاع الراهنة أن تفتح الباب على مصراعيه على تحقيق توازن حقيقي للقوى في المنطقة مما لن يتطلب معه تدخل أمريكي دائم. ان واحدا من تداعيات هذه الأحداث في سوريا هو أن على تركيا أن تعيد النظر في سياساتها تجاه البلدان الواقعة في محيطها. وفي حالة العراق، فان لتركيا مصلحة في القضاء على مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين اتخذوا من المناطق المجاورة ملجأً لهم، والدفاع عن النفط وغيرها من المصالح الاقتصادية. وتشهد الاستراتيجية التركية تحولا اذ انتقلت من حالة تجنب جميع أنواع المواجهات الى حالة تجنب تقديم التزامات عسكرية كبيرة مع مراعاة مصالحها السياسية. وفي نهاية المطاف، فان هذه السياسة تعني بأن تركيا سوف تمضي باتجاه تحقيق توازن مع ايران قدر تعلق الأمر بمصالحها في العراق. ان من شأن هذا التوازن تخفيف العبء الواقع على كاهل الولايات المتحدة بشأن احتواء ايران. وفيما لا تزال الولايات المتحدة تعتبر منطقة النفوذ الايرانية أكبر مصدر يهدد المصالح الأمريكية والاقليمية، أكثر مما يشكله البرنامج النووي الايراني، فان سقوط الأسد يحل مشكلة كبيرة، كما أنه يضاعف الشعور بالضعف لدى ايران. على صعيد موازي، وفي ضوء الاعتقاد السائد بأن الايرانيين ليسوا قريبين من تحقيق هدفهم في الحصول على سلاح نووي قادر على الوصول الى أهدافه، فمن المرجح أن يصل الايرانيون الى مرحلة يشعرون فيها بأن عليهم التخفيف من حدة مواقفهم السياسية. في هذا السياق، ستكون اسرائيل من بين الخاسرين الرئيسيين، بعد أن كانت قد توصلت الى تفاهم واضح مع نظام الأسد، اذ رأت في حينه أنه في حال تمكن نظام الأسد من كبح جماح حزب الله، فان اسرائيل لم تكن لتمانع من هيمنة سوريا على لبنان. بيدّ أن هذا التفاهم زال بعد أن قامت الولايات المتحدة بالقضاء على النفوذ السوري في لبنان سنة 2006. وكان الاسرائيليون قد فضلوا الاسد على السنة، الى أن أدركوا بأن الايرانيين سيهيمنون على سوريا. الى ذلك، فان احتمال عدم وصول نظام اسلامي الى دمشق، أو الدخول في حالة انعدام الاستقرار على الطريقة اللبنانية، وهو الأمر المرجح، لا يمكن أن يرضي الاسرائيليين. ولا يزال الاسرائيليون يواجهون تهديدات جهادية في منطقة سيناء. كما ان فكرة مواجهة اسرائيل لمشاكل مماثلة في سوريا، حيث تكون الجليل هي الجهة الأخرى من الحدود وليس النجف، لا بد أن تصيب الاسرائيليين بالهلع.
غير أن أكبر الخاسرين اطلاقا هم روسيا والصين. فروسيا، مثل ايران، عانت الكثير من الاخفاقات في سياستها الخارجية الأمر الذي سيكون له تداعيات نفسية. لقد تسببت الأوضاع في سوريا في وقف قوة الاندفاع التي كانت روسيا قد سعت في بنائها. ولكن الأهم من هذا، فقد علق الروس والصينيون الآمال على أن تواصل الولايات المتحدة تسليطها ضوءا ثانويا على مصالحهما فيما تضع كل اهتمامها على منطقة الشرق الأوسط. ان زوال نفوذ نظام الأسد وما سيترتب عن ذلك من دينامية في المنطقة سيزيد من فرص فك ارتباط الولايات المتحدة عن المنطقة. ولن تكون هذه هي النتيجة التي يرغب برؤيتها الروس والصينيون، لكن في نهاية المطاف، فان هاتين الدولتين لم تمتلكان القدرة على تحقيق النتائج التي أرادوها في سوريا. وتكمن استراتيجية القوة المهيمنة في تشجيع حصول توازن للقوى يكون قادرا على احتواء الأخطاء دون الحاجة الى التدخل بشكل مباشر. لقد كانت هذه بالحقيقة الاستراتيجية التي وضعها البريطانيون، ولكن الولايات المتحدة لم تتمكن من تنفيذ هذه الاستراتيجية بشكل جيد. في هذا السياق، تشهد الاستراتيجية الأمريكية في الوقت الحاضر حالة نضوج وذلك بعد الحروب الجهادية التي شهدتها المنطقة، مما يسمح بانطلاق دينامية ذاتية في المنطقة، تكون فيها فكرة التدخل المباشر خيارا أخيرا. ويبدو أن الأحداث في سوريا تدور ببساطة حول قدرة نظام الأسد على البقاء. غير أن هذه الأحداث تكتسب أهمية أكبر قدر تعلق الأمر بتحجيم امكانيات القوة الايرانية، مما يخلق توازنا اقليميا للقوى يحرر الولايات المتحدة من التزاماتها ليتيح لها فرصة التركيز على القضايا العالمية، بما في ذلك روسيا والصين.
دورية ستراتفور الاستراتيجية
/7/2012 Issue 4264 – Date 31 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4264 التاريخ 31»7»2012
AZP07