تأويل المكوّن الصوري

تأويل المكوّن الصوري

امال الطائي

ان ما يميز العمل الفني كتجربة ابداعية الغنى في التشكلات البصرية و عناصرها و التي بدورها يمكن ان تولد القراءة التأَويلية للمكون الصوري اذ تبدأ من فك شفرات النص البصري ، ان المتلقي يحاول الامساك بالشفرات الخاصة بالمكون الصوري للمنجز الفني او النص البصري ، وذلك لمحاولة فهم علاماته ، وهي العلامات نفسها التي قام الفنان بتحويلها من شفرات متخيلة الى شفرات صورية ،ان هذه العملية تتكون من مرحلتين، المرحلة الأَولى صناعة الصورة من قبل الفنان ،والمرحلة الثانية قراءة الصورة و المنجز الفني من قبل المتلقي.

و المنجز الفني هو في الاساس ما ترسمه العناصر البصرية و الوسيط المادي عبر تشكيلها و تطويعها لتولد علامات متخيلة الى علامات مجسدة ،تشكل تكوينات مكونه الصوري على سطح اللوحة او المنجز الفني مهما كان نوعه او جنسه وبالتالي تكسب جانبين (جانب دلالي وجانب مجازي، والمجاز هو الذي يقع عليه التأَويل)( ).

 والمجاز هنا يقابل تكون الصورة الذهنية، هذه الخبرة التي اكتسبها الانسان حالما بدأ بادراك عالمه وطوره ، وبدأ ونظر للشيء الواحد من عدة زوايا وعدة وجهات لكي يعطيه عدداً من الافكار والمعاني تمتد مع امتداد الثقافة الخاصة بالانسان في عملية التأويل والتأَويلية هنا هي بحد ذاتها المعارف والتقنيات التي تسمح بانطاق العلامات، وقراءة افكارها واكتشاف معانيها المتعددة.

تحويل العلاقات

وأَول استنطاق للنص باعتباره علامة متحولة يتم على يد القارئ الأَول الفنان ،ويقوم بتحويل العلامات الى مكون صوري تتحول العلامة فيه، من حالة الى حالة ،من اكتساب وظيفي الى اكتساب وظيفي آخر ان ان التغير في نسب الحرفية السيميائية في واقعه ،هو تغير في تمفصلات الشفرات القديمة ، وتوليد شفرات جديدة، وخلق مستويات جديدة من الافكار والعلامات تؤدي بدورها الى انتاج دلالي جديد يولد معاني جديدة لتولد خطاب جديد موجه الى القاريء الثاني، ليحثه على ممارسة عملية التلقي والتأَويل انه يبدأ بادراك الاشياء وطرح الاسئلة ويبحث عن الاجوبة ويفكك ويركب ويعمل بحسب ما تمليه عليه خبراته الخاصة ،ليكون في النهاية راسم لطريق التأَويل الذي يسلكه.

ان عملية القراءة هنا بحد ذاتها اشبه “بتوليفة موسيقية فهي تحدد انجاز، أَو بداية فعل علامات النص الدلالية وتعتبر هذه الصفة الاخيرة الأَهم ،لأَنها شرط الانتصار على المسافة الثقافية، واتحاد التأَويل النصي مع تأَويل الذات، وسمة الانجاز هذه الخاصة بالتأَويل تكشف بالواقع عن الطابع الحاسم في القراءة، بأَنها تتمم الخطاب مهما كان نوعه»( ).لأنه يتكون من علامات وتعتمد قراءة هذه العلامات على نوع علاقتها بما تمثله من جهة، ومن جهة اخرى على الثقافة والخبرة الخاصة بالمتلقي، فالعلاقات الداخلية للعلامات هي العلاقات التي تبنيها الشفرات وكلما كانت العلاقة أَقوى وأَعمق كلما كانت أَغنى في القراءة، وكانت طاقتها الحركية الديناميكية التي تحرك وتحول العلامة أَكثر قوة ،وتحدد هذه العلامة والقوة للعلامة عند (بورس) بثلاثة عناصر ماثولاً يقوم بالتمثيل (الأَول)، وموضوعاً للتمثيل (الثاني)، ومؤولاً يضمن صحة العلاقة بين الماثول والموضوع (الثالث). ولا يمكن وجود أي سيرورة سيميائية الا من خلال وجود هذه العناصر الثلاثة.والتأَويل في آلية اشتغاله هو عملية قراءات متعددة والوصول الى معاني متعددة للعلامة أَوللعلامات، وفي هذه القراءة تقرأ العلامات والعلامات التابعة لها للوصول الى معاني متعددة من نفس هذه العلامات. ان تأَويل خطاب، معناه الوصول الى شرح كيف ان هذه الوحدات الخطابية تحيل في ذاتها على اشياء مختلفة. انها قوة حركة العلامة وتأسيس فضاءات جديدة داخل الفضاء الفني على سطح اللوحة او المكون الصوري فالعلامة هنا تلغي الحدود المكانية والزمانية الواقعية لتحرر نفسها وتبدأ باعطاء المعاني المختلفة .يشير (ليفي شتراوس) الى الدال المتحرك (ويرى ان هذا النوع من الدالات يشبه رمزاً في علم الجبر، لا تلازمه قيمة واحدة انما يمكنه ان يمثل أي شيء. ويقول (رولان بارت) عن الاشارات غير اللسانية على وجه الخصوص، انها مفتوحة على التفسير الى درجة انها تشكل (سلسلة متحركة من المدلولات))( ).

يبحث المتلقي عن المدلولات والأَفعال في المكون الصوري فهو الذي يقودنا الى متابعة المتغيرات التي تحصل في المكون الصوري و من تعدد الأَفعال تتعدد المعاني، أَو بامكان الفعل الواحد أَن ينتج أَكثر من فكرة أَو معنى ،من خلالَ قوة وعمق وأمكانيةَ تحول شفرته المكونة له .ويعطي (جاك دريدا) الدال قوة ديناميكية وفلسفية، يتم من خلال تحويل المدلول والمعنى اذا كان مغيباً أَو حاضراً هو جوهر العمل الفني ،فهناك خطاب مرسل بقصدية ويحمل معنى خاص به موجه الى المتلقي.

أَن المكون الصوري  يتكون من عدد من الرسائل ،ومحتوى هذه الرسائل هي العلامات والعملية التي تقع هنا على عاتق المتلقي ،أَن يلاحق الارسالية ليقوم بفك شفراتها ومن ثم تأَويلها عند إتمام فهم الارسالية تبدأ عملية التأَويل عن طريق الربط ،بين وجود العلامة والى ما يشير الى هذا الوجود من اختلاف في المعاني .

اننا نقوم بهذه العملية لكي نتحقق من الرؤى المتعددة التي أَصبحت في تفكيرنا ،وهذا ما يؤكده (هيرش) (لا توجد هناك قاعدة للقيام بتخمينات حسنة، لكن توجد منهجيات لاثبات هذه التخمينات)( ) كي نتجنب الوقوع في التفسيرات والتخمينات الخاطئة ،أَو ما يطلق عليه»الضوضاء (الفيزيائي أَو الثقافي) الذي من شأنه ان يغير ويقود الى اللبس والفهم الخاطيء. ولكي نتجنب عملية التأَويل الخاطيء يجب ايضا الأَخذ بالاعتبار ، الاختيار الدقيق للشفرات وتمفصلاتها في عملية التحول والحركة للعلامة

من تعدد الدلالات و اشتغالاتها يخلق المنجز الفني مستويات عدة من المعاني ،هي في واقع حالها تجسيد لقراءة الفنان التأَويلية للمكون الصوري للنص عن طريق القراءة الاولى لما قام بتشكيله على سطح اللوحة و ما يريد ان يقوله كحالة تعبرير مقرورة عند الجميع و بالاخص الفنان ،ان عملية إثراء التأَويل هنا تبنى على أَساس عملية اثراء الشفرات والدلالات في المكون الصوري ، لخلق تجليات ذات ابعاد جمالية لرسائل مقصودة يتم عبرها اتمام عملية القراءة التأَويلية، وهذه خبرة تتنامى عند المتلقي عبر التعامل مع المكون الصوري وعملية قراءة شفراته، وهذه عملية تطور تقنية تخص فهم الانسان وادراكه للعلامات التي تحيطه وتشكل عالمه الخارجي ، ان تفسير الشخصية والاهداف المحددة والنوايا والارتجال بالتأكيد هي خطوط يبدأ برسمها الفنان ويبدأ بتطويرها وهذا ينقلنا الى مستوى جديد من فعل العلامة ، اذ ان لكل علامة فعلها الخاص بها الذي يعطيها قوة من حيث ظهورها، وامكانية تعدد معانيها ،وطاقة الامتداد داخل الحقل السيميائي ،لتشكل تمييزها عن باقي العلامات (ان العلامة باعتبارها كيانا ممتداً في نفسه أَولا، وفي الفضاء ثانياً، فما دام كل عنصر قابل لان يتحول الى نقطة ارتكاز تتجسد فيها الوقائع التدليلية فان النسق العلامي يتحول الى آلة ضبط ذاتية نتيجة ،لرقابة داخلية تتحكم في مجموع الدلالات الناتجة عن حركة دلالية ما)( ).

صورة متخيلة

وهذا ما ينطبق على عناصر المكون الصوري وحركة الصورة المتخيلة وفعلها الداخلي والخارجي  ، وهذا ما قاد (بورس) الى التمييز بين الفعل الخاص للعلامة مجسداً في واقعة قد تؤول على وفق ما تخصنا به التجربة المشتركة ومن افعال العلامات، وتجمعها، واختلاف تركيبها يتشكل العالم الخارجي  ، ان المتلقي هنا بحاجة ماسة الى ان يفهم كيفية نقش ،وتضمين المدلول، وكيف يمكن ادراكه ،ومعرفته .

والغاية هنا من المعرفة (معرفة الاسرار) المعرفة العميقة لاختراق السطح والدخول الى العمق ،لاكتشاف السري والمخفي تحت الطبقات المتعددة ان ما هو مخفي ليس معناه انه لا يوجد ،ان ما يظل تحت السطح هو وحده يظل مجهولاً ،الى ان يتم اكتشاف اسراره ،وعلى هذا الاساس فان الحقيقة ستكون هي ما لم يدرك أَو ما تم ادراكه بطريقة غامضة.

 لكي نستطيع الكشف عن أَسرار ومعاني أي خطاب وجب البحث عما هو أَبعد من السطح ،الى ان نصل الى اعماق اسرار الخطاب التي يحملها في طياته من الناحية الفعلية العملية نجد ان هناك شكلاً خاصاً يقود مشاهديه الى كيفية ترجمة مدلولاته ،والى نوعية الاستراتيجيات التفسيرية التي تستخدم في فهم مدركاته ،وبذلك يخلق من المشاهد المفسر لما يقدم امامه القراءة هنا تعتمد على منطقة مشتركة ومنطقة خاصة، المنطقة المشتركة هي المكون المادي للصورة وكيفية قراءة تشكيلات مكوناته وعلاماته وحل شفراته، والمنطقة الخاصة هي الوصول للمعاني العميقة من خلال تشغيل مخيلة كل شخص في تفكيك وتركيب الشفرات بما يلائم ثقافته وخبراته الخاصة، والوصول الى أَكبر عدد ممكن من المعاني بشرط الحفاظ على الروابط بين العلامة وما تشير اليه، وهذه العملية تعتمد على التغير الناجح للشفرات وعلاقاتها ان التغير في الشفرات يقوم بتغير العلامات، لنميز بعضها عن بعض ونعطي كل علامة ،هويتها، وخصوصيتها وبنفس الوقت نقوم بوضع هذه العلامات في الخزين الذهني ،ونعمل على استدعائها لكي نقوم بعملية مزاوجة، وربط، وتركيب، وتفكيك وبعدها تبدأ عملية تأسيس المكون الصوري، بجمع كتله ليكون بيئة صالحة لامتداد فعل العلامات.

ان البحث عن الحقيقة هي احدى مميزات الطبيعة البشرية ،وسواء كانت هذه الحقيقة مرئية أَو متخيلة فهذا هو الحال في مشاهدة المنجز الفني و المكون الصوري ،البحث عن معنى او فكرة ما ، أَو مجموعـة افكار و معاني.

مشاركة