بين دهاليز الذات والقارئ

بين دهاليز الذات والقارئ
مفاهيم مشوّشة واستشهادات من أفواه المجانين
حسين سرمك حسن
كرّر االدكتور عبد الحسين شعبان ــ وسمة التكرار من السمات السلبية الواضحة في حواراته الكثيرة في أكثر من حوار أجري معه الفقرة التالية أو قريبا منها في الصياغة، ولكن متطابقة معها في المضمون
يمكنني القول لا يمكن اختصار الماركسية بماركس، وينبغي قراءة الماركسية بمنهج جدلي، أي بمنهج ماركس لا بتعاليمه فتلك تصلح له ولعصره، وعلينا اكتشاف قوانيننا. كان ألتوسير يردد إن فهم التاريخ هو في قراءة الوعي بضده، وتلك أزمة المنهج التي يمكن بواسطته قراءة الواقع بضده، كما أن الفكر يُعرف بضده. في زيارة ميشيل فوكو لألتوسير في مصحته العقلية بسانت آن في ضواحي باريس سأله هل ما زلت ماركسياً؟ أجابه ألتوسير ومن تكون أنت بغيرها؟ لكن ماركس هو الذي نبذ فكرة التأطير بردّه هذا على برودون ص 9 1 .
ومن الواضح أن العبارة وتكرير معناها يعني بأن عبد الحسين شعبان مقتنع بقول ألتوسير بأنه ماركسي وبأنه مؤمن بأن الماركسية منهج لا يكون الباحث مقتدراً في أدوات بحثه من دونه، ومن دون التمسّك الراسخ به حدّ أن يمتزج بوجوده ويشكله، كما أنه أي عبد الحسين مقتنع بأن الموقف الذي كان فيه ألتوسير، والظروف الإجتماعية والعقلية التي يمر بها كانت ظروفاً منطقية، وأن ألتوسير كان يقول ذلك الرأي بكامل قواه العقلية والذهنية، ولذلك أخذ قول ألتوسير حجّةً، وبنى عليه استنتاجه.
المشكلة أن الأستاذ عبد الحسين شعبان لم يقل للقاريء اين كان ألتوسير بالضبط؟ ولماذا؟ وهل كان في حال يمكن أن يعتمد باحث مثله أي مثل عبد الحسين على كلامه؟ ثم أن يدعو القرّاء إلى الإعتماد على كلامه حتى لو كان ذلك من الجانب السلبي؟
في مستشفى المجانين
لقد قال لنا عبد الحسين شعبان إن ألتوسير كان في مصحته العقلية وهي صياغة قد تكون قريبة من تعبير في منتجعه مثلاً.. والمصحة العقلية في حقيقتها هي ما نسمّيه في التداول العامي مستشفى المجانين ، وهي التسمية التي كانت متداولة لقرون قبل أن تحصل الثورة الأولى من بين ثلاث ثورات في تاريخ الطب النفسي حيث اعتبر المجانين كما كانوا يُسمّون حتى من قبل الاطباء، مرضى عقليين لا تتلبسهم الأرواح الشريرة، ولا يحتاجون للجلد والتعذيب والتجويع والحبس، بل للعلاج الطبي بالعطف والرعاية والتحليل والعقاقير، مثل المرضى الآخرين المصابين بالأمراض العضوية مثلا. كان ألتوسير راقداً في مستشفى للأمراض العقلية. فهل نأخذ المقولات والأطروحات الفكرية من فم المجانين المرضى العقليين على طريقة المثل الشائع خذ الحكمة من فم المجانين ؟
ألتوسير القاتل
لقد وضعتُ صفة راقداً في تعليقي على حالة ألتوسير في الفقرة السابقة بين قوسين.
لماذا؟
لأن الوصف الصحيح هو أن ألتوسير لم يكن راقداً باختياره كما قد يفهم القاريء من هذه الكلمة، بل كان محجوزاً.. نعم.. كان ألتوسير محجوزاً بالقوّة، وبأمر قضائي.
لماذا؟
لأنه قام بقتل زوجته هيلين ريتمان التي عاش معها طول حياته حيث ارتبط بها في عام 1946، وكانت تكبره بثماني سنوات. خنقها بيديه ليلاً، ثم أخبر طبيب الجامعة التي كان يدرّس ويسكن فيها، هو وزوجته، منذ عقود بأنه قد قتل زوجته، فرتب له الأطباء خلاصاً من جريمة القتل تدور حوله الشبهات حتى هذا اليوم، وقاموا بتحويله مباشرة إلى مستشفى الأمراض العقلية، في حين أن القاعدة المتعارف عليها في مثل هذه القضايا الجنائية، هي أن يُلقى القبض على القاتل أو يسلم نفسه، ويودع في السجن، ثم يقوم القاضي بطلب عرضه على لجنة طبية نفسية متخصصة إذا اقتنع القاضي بأن هذا القاتل مريض نفسياً فعلياً. لقد قفز الأطباء فوق هذه القواعد القانونية المعروفة في كل العالم و رتّبوا لألتوسير الفيلسوف حلّاً تهادن عليه حتى القضاة في موقف تدور حوله علامات الإستفهام، كما قلت، وكما اعترض الكثير من الصحفيين والكتّاب، منها مقالة شهيرة للكاتبة الفرنسية كلود ساروت . وسوف تكون لنا مع هذه الملابسات وقفة طويلة مستقلة لخطورة الحادثة، ليس كجريمة قتل من مفكر ماركسي شهير، ولكن لاستكشاف أعماق معضلة فكرية كبرى أخرى سوف نشير إليها في حينه.
إذن، فإن عبد الحسين قد أخذ حكمةً وأطروحةً، مهما كان نوعها، ومهما كان موقفه منها، من فم مريض نفسي يعاني من نوبة انهيار عقلي ذهانية » جنونية أولاً، وكان متهماً بجريمة قتل ارتكبها خلال نوبة انهياره هذه، حيث خنق زوجته المسكينة، المثقفة والمناضلة الشيوعية الفرنسية المعروفة خصوصا في مقاومة الإحتلال النازي ثانياً.
ألتوسير مريض نفسيا
منذ عام 1940
وهناك مسألة اخرى لم يشر إليها عبد الحسين، وتتعلق بـ رقود ألتوسير، أو احتجازه وهو الأدق والأصح، حيث قد يعتقد القاريء بأن هذا الإنهيار النفسي جاء مفاجئا وبصورة غير متوقعة جعلته يقترف في أثنائها جريمته المروّعة بقتل زوجته. هذه المسألة الخطيرة جدا، هي أن المرض النفسي أصاب ألتوسير منذ عام 1940 م.. أكرّر منذ عام 1940 م، أي منذ أن كان عمر هذا المفكر 22 عاما مولود في 16 أكتوبر 1918 . وبين هذين العامين عام الإصابة بالمرض النفسي وهو عام 1940، وعام الجريمة وهو عام 1980، أصيب ألتوسير بـ 15 نوبة اكتئابية هوسيّة عاصفة أدخل على إثرها إلى المستشفى، وعولج في بعضها بالصدمات الكهربائية 2 . أي أن ألتوسير وضع كل أطروحاته الفكرية، وأسّس منهجه وتعاليمه، ومنها ما استشهد به عبد الحسين، وهو مريض نفسياً، بمرض عقلي خطير هو ذهان الإكتئاب الهوسي manic depressive psychosis . ويمكن للسادة القرّاء العودة إلى اي موقع أو كتاب عن الطب النفسي لمعرفة خطورة هذا المرض على عقل المصاب به خصوصا.
كان ألتوسير مريضا طول حياته منذ أن كان عمره 22 عاما ، وحتى وفاته بنوبة قلبية في 22 أكتوبر 1990 .
وعندما أقول إنه مرض خطير فكل أطباء الطب النفسي، وفي جميع أنحاء العالم يعرفون أن المريض النفسي حينما يصل إلى مرحلة العلاج بالصدمات الكهربائية أو التخليج الكهربائي electroconvulsive therapy ، فمعنى ذلك أنه قد وصل مرحلة خطيرة من المرض في أغلب الأحوال، وفي مقدمتها أنه قد يكون خطرا على نفسه التفكير في الإنتحار أو خطراً على الآخرين بالسلوك العدواني العنيف الذي قد يوصل إلى القتل كما حصل لألتوسير .
كيف ضلل عبد الحسين شعبان القارئ؟
لكن هل من واجب عبد الحسين شعبان أن يذكر هذه المعلومات للقاريء؟
الجواب هو
نعم.
إذا كان لا يريد أن يضلّل القاريء. فعندما تنقل لي قولا لشخص وتقول لي إنه طرحه في قاعة الدرس، يختلف عن أن تقول لي إنه كان مسجونا بتهمة جريمة القتل، ومحجوزا في مستشفى للمجانين، فهذه العوامل تؤثر على استقبال القاريء للمقولة التي ستنقلها إليه من ناحية المصداقية أولاً، ومن ناحية التماسك المعرفي ثانياً، ومن ناحية مصداقيتك أنت كباحث ثالثاً.
فإذا اعترض أحد السادة القرّاء، وقال إن عبد الحسين قد لا يكون مطلعا على هذا الأمر، فمعنى ذلك أن الباحث عبد الحسين يقوم بتضليل نفسه من دون أن يعلم أو بعلمه.
أولاً من دون أن يعلم، إذا كان قد قرأ هذه المعلومة في مقال صحفي وبصورة سريعة، واقتطع منه عبارة ألتوسير هذه لكي تتماشى مع رأيه في رفض الجمود المذهبي. لكن عبد الحسين كان يعلم.
كيف؟
لأنه ذكر أن ألتوسير كان راقداً في مصحة عقلية، وهذا أمر خطير وملفت للنظر، وليس مثل أن يذكر لنا أن ألتوسير كان في مشفى لإجراء عملية استئصال الزائدة الدودية. إن هذه المعلومة خطيرة جدا، وكان لزاماً على عبد الحسين أن يذكر ظروف رقود ألتوسير في مستشفى المجانين، لكي لا ينخدع القاريء ايضاً ويتصوّر أن ألتوسير قد طرح هذا الرأي بكامل قواه العقلية. فإذا كان عبد الحسين يعلم بظروف جنون ألتوسير ومرضه منذ عام 1940 ومعالجته بالصدمات الكهربائية الخطيرة، لأن آخر الدواء الكي كما تقول العرب، ولم يذكر هذه المعلومات كما حصل، فإنه يساهم في تضليل القاريء. نعم، وبشكل صريح يساهم في تضليل القاريء، لأن القاريء أمانة بين يدي المثقف المتخصص وخصوصاً العضوي حسب وصف غرامشي الشهير، المسؤول أمام الله وضميره وعقل القاريء. لكن هل نستطيع إيجاد تيرير لسلوك عبد الحسين شعبان هذا؟
أنموذج المثقف العربي السريع القراءات وانطباعيّها
إن مشكلة قسم كبير من الكتاب العراقيين، والكتّاب العرب الكبرى، هو أنهم يلتقطون مقولات وأطروحات لفلاسفة وكتّاب غربيين، ويعزلونها عن كاتبها من ناحية، وعن وظروف طرحها وإنتاجها من ناحية ثانية مكملة، وفق أطروحة موت المؤلف التي تخلّى عنها حتى صانعها رولان بارت ، ومع ذلك استمر الكثير من الكتّاب العرب يهوّسون بها. مثلا تجدهم يهوّسون لأطروحات جاك دريدا ويفصلونها عن يهوديّته.. وجاك دريدا نفسه ويا للعجب يعلن أنه لا يمكن أن يفصل فكره عن إثنيته اليهودية أو جرحه اليهودي كما يسمّيه. وحين تحلل مؤلفات دريدا تجد أن أغلب أطروحاته ترتبط بشكل أو بآخر بأصله اليهودي من جانب، وبمعضلة التباس هويّته الجزائرية الفرنسية الأمريكية العالمية المركّبة من جانب آخر.
ويحصل هذا الأمر مع ألتوسير، وفق مقترب آخر، يتمثل جانبه الأول في كونه مريضاً نفسيا طول حياته ، وقاتلا في ختامها، ويتمثل جانبه الثاني في أنه لم يكن ماركسياً مخلصاً فكرياً أبدا، بل كان محرّفاً ومناقضا للماركسية في أغلب أطروحاتها الأساسية ولأسس منهجها المركزي. أي أن الكتّاب العرب يقعون في تضليل مضاف ؛ تضليل لأنفسهم وللقاريء، يتمثل في وهم أن ألتوسير من المفكرين الماركسيين الكاثوليكيين الذين يمكن اعتماد مقولاتهم نفياً وإثباتاً في مجال الفكر الماركسي. ولكن واقع الحال التحليلي العميق المستند إلى القراءة بلغة المؤلف الفرنسية أو إلى ترجمة دقيقة باللغة الإنكليزية، وليس الإنطباعي السريع الذي وقع فيه عبد الحسين، يقول عكس ذلك. خصوصا القراءات التي يجمّعها بعض الكتاب العرب أو يترجمونها بسرعة.
لكن ما هي علاقة هذا الكلام بما قاله عبد الحسين شعيان؟
الجواب هو
إن عبد شعبان مطروح في ساحة الثقافة العراقية والعربية كواحد من أبرز الدعاة إلى رفض الإلتزام العقائدي الجامد بالفكر الماركسي، والتحرّر من الدوغمائية الإيديولوجية. فهو، ومنذ سنوات، وفي كل حواراته ومقالاته يدعو إلى الإلتزام بروح المنهج الماركسي، وعدم التمسك بالأطروحات الماركسية كنص مقدّس.
وهنا نقف أمام مفارقة عجيبة فقد اعتبر عبد الحسين قول ألتوسير لميشيل فوكو ومن تكون أنت بغيرها؟ تطرفا من ألتوسير في التمسّك بأطروحات ماركس. وهي عملية تضليل غير مقصودة جديدة ومزدوجة للذات وللقاريء.
فقد قوّض ألتوسير أهم أسس الماركسية، ولم يبق من روح منهجها سوى أطروحات شكّلت غطاءً أوهم الكثيرين من الكتاب السريعي التأثر والسطحيين في بناء الأحكام، بأن ألتوسسير مخلص لماركس وللفكر الماركسي، أو أنه في أسوأ الأحوال مطوّر ومجتهد ولكن تحت خيمة الماركسية. وهذا خطأ شنييع جداً. ولنتوقّف الآن عند بعض الأمثلة الجوهرية التي سنحاول تبسيطها قدر الإمكان بالنظر إلى صعوبة الأطروحات الفلسفية بحد ذاتها من ناحية، وتعقيدات أطروحات واسلوب ألتوسير أيضاً من ناحية ثانية
لنسال أولاً ألا تؤمن الماركسية في مركز منهجها المادي التاريخي بوجود حتمية تاريخية تحكم المسار التطوّري لحركة التاريخ؟
AZP09