بوش هاوس مكان للإبداع

بوش هاوس مكان للإبداع
زائر غريب عاملناه بحذر اسمه الكومبيوتر
سلوى جراح
في السبعينيات، كان الزائر لبوش هاوس يدخل المبنى من المدخل الرئيسيى في الدور الأول، ثم يصعد سلالم حجرية عريضة إلى الدور الثاني حيث مكتب الاستقبال، لينتظر حضور شخص مسؤول من القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية، ليرافقه إلى الدور الرابع في المبنى المركزي في بوش هاوس حيث تنتشر غرف صغيرة للموظفين العاملين في الأخبار والبرامج الإخبارية، و أُخرى للبرامج غير السياسية التي كانت تتنوع بين الموسيقى والثقافة. مع بداية الثمانينيات وتصاعد أعمال العنف من الجيش الجمهوري الإيرلندي السري، انتقل مكتب الاستقبال إلى الدور الأول وأصبح على العاملين في بوش هاوس تعليق هُويات انتسابهم للمكان على ملابسهم. أما الضيوف فلا يدخلون المكان ما لم تكن أسماؤهم على قائمة ضيوف اليوم، ويمنحون هُوية زائر.
أول من تعرّفت عليهم في بوش هاوس في صيف عام 1977، كان سيدة عراقية على درجة عالية من الثقافة والمهارة الإذاعية هي أولجا جويدة رحمها الله. أحبتني منذ اللقاء الأول وبدأت بيننا صداقة تطورت مع الايام، وتعلمت منها الكثير عن الحياة والعمل. بعد إجراء الامتحان للحصول على الوظيفة، مات الفيس برسلي. شاهدت مظاهر الحزن عليه على شاشة التلفزيون. طلبت مني أولجا جويدة أن اكتب لها مادة وأسجلها بصوتي لتقدمها في برنامجها اليومي نصف ساعة مع أولجا جويدة . كتبتُ عن رومانسية العرب وحزنهم عندما توفي عبد الحليم حافظ وكيف تشابهت مع الحزن في الغرب على موت ألفيس برسلي. أعجبها الموضوع، وبدأتُ أعمل في العديد من البرامج كمشاركة خارجية ، أُعد مادة وأشارك في البرنامج بقراءتها. كانت مرحلة اكتساب التجارب الأولى في العمل مع هيئة الإذاعة البريطانية.
تقاليد تختفي
في تلك السنين كانت كل المواد الإذاعية ما عدا الأخبار وبرامج الساعة، تكتب على ورق أبيض، بقلم حبر أسود غامق، يحمل شعار البي بي سي، ثم تقوم سكرتيرة البرنامج بتصوير نسخ ورقية من المادة المكتوبة بعدد الأصوات المشاركة في البرنامج، ليذهب الجميع مع مُعد البرنامج ومقدمهُ إلى الاستوديو لعمل بروفة تحضرها سكرتيرة البرنامج لتضبط ساعة توقيت للتأكد من أن البرنامج سيكون بالتوقيت الصحيح. ثم يبدأ التسجيل، بعدها يقوم المخرج، بمساعدة مهندس الصوت، بعملية مونتاج للبرنامج للتخلص من الهفوات والأخطاء، ليصبح البرنامج جاهزاً للبث. لكن هذه التقاليد سرعان ما اختفت من بوش هاوس فلم تعد السكرتيرة تحضر البروفة، ولم يعد الوقت الذي يمنح لتسجيل البرامج يكفي أصلاً لعمل بروفة في الاستوديو، وصار معد البرنامج مسؤلاً عن مونتاج برامجه. وكثيراً ما تحسَّر العاملون المخضرمون على ما كانوا يسمونه أيام العز لكن الأيام في بوش هاوس كانت مازالت تخبئ الكثير.
في السبعينيات كانت المواد التي يُعدها كتاب المقالات الإذاعية المتخصصون بالإنكليزية في السياسية والأدب والعلوم، الأحاديث كما كانت تسمى، تطبع على ورق أبيض وزهري وأخضر، للتمييز بين محتواها، وتوزع على مكاتب الموظفين من قبل سيدة إنكليزية مسنة تدور بعربة خشبية عصر كل يوم. ويقوم كل معد باختيار ما يناسب برنامجه لترجمته وإعداده. مع بداية الثمانينيات تسلل إلى مبنى القسم العربي جهاز جديد اسمه الكومبيوتر، احتل غرفة صغيرة لوحده ليوفر للعاملين ما كانت تدور به العربة الخشبية مع فارق مهم أنه يغطي الأحداث ويتابع تطورها. كنا نذهب للكومبيوتر نستلهمه مواد تصلح لبرامجنا بعد أن نراجع على شاشة صغيرة قائمة بما يخبئه لنا هذا الزائر الجديد. وبعد طباعة بضعة رموز عصّية، تخرج من الجهاز العجيب أوراق متصلة ببعضها تفصل بين صفحاتها نقاط تُسّهل عملية قطعها. ولم تسلم غرفة أخبار القسم العربي من الزائر الجديد فاختفى منها الأنبوب المثبت على الجدار الذي تصل منه الأخبار بالإنكليزية مطبوعة على ورقة من غرفة الأخبار الرئيسية ليقوم المترجم المختص بترجمتها، ثم يحملها قارئ النشرة إلى استوديو البث الحي في الدور السابع، ويجلس أمام طاولة صغيرة تعلوها ساعة كبيرة جداً فيها عقرب أحمر للثواني ينذر بدقات بيغ بين التي تبدأ قبل عشرين ثانية من تمام الساعة.
أول موجز للأخبار
حين استلمت وظيفتي في هيئة الإذاعة البريطانية كان من المتعارف عليه أن يبدأ الموظف الجديد بالعمل في قراءة نشرة الاخبار. وُضعتُ تحت إشراف الزميلة مديحه المدفعي. كان علي أن أتابع ما تفعل وأحاول أن أتعلم. بعد يومين قالت لي ستقرأين الموجز وسأخرج أنا من الاستوديو وقد أذهب إلى الصيدلية القريبة وعليك أن تقدمي ربطات الوصل بين البرامج . دقتْ بيغ بين، قلت هنا لندن. الرابعة تماماً بتوقيت غرينتش. موجز الأخبار تقرأه سلوى جراح بعد بضع جمل أحسست بأني غير قادرة على التنفس. حاولت جاهدة إتمام مهمتي الصعبة، القراءة على الهواء. انتهى الموجز بسلام. عادت مديحة ضاحكة. قالت إنها سمعتني وإني جاهزة لقراءة نشرة كاملة، ربع ساعة. مع الأيام استعدت أنفاسي وقرأت النشرات وتمتعت بفكرة أن الملايين حول العالم العربي ينتظرون معرفة ما يحدث في العالم مني أنا.
مدير قسم الأخبار، روني آيك، كان رجلاً في خمسينيات عمره، عمل في الجيش البريطاني لسنوات لذلك يسمي مكتبه البانكر غرفة العمليات العسكرية. كان يؤمن بأن الموظف الذي يعمل معه يجب أن يكون سعيداً راضياً، تماماً كما كان نابليون بونابارت يؤمن بأن الجندي الجائع لا يستطيع أن يحارب. كم وقف معي في المواقف الصعبة حين كان يصاب أحد أولادي بوعكة صحية أو حين كنت أواجه ظروفاً طارئة. كان يقول لي بكل بساطة عودي للعمل حين تكونين مستعدة له . وحين أعود بعد بضعة أيام لا يحتسب غيابي من إجازتي السنوية ويكلفني ببضع مهام إضافية وتنتهي الصفقة بيني وبينه. لذلك كنت دائماً مستعدة لنجدته في حالات الطوارئ. لكن سنين عملي في غرفة الأخبار كانت قصيرة نسبياً بعد أن قررت الإدارة نقلي لعمل وتقديم البرامج الثقافية.
كان العمل يتطلب إعداد الحلقات الأسبوعية من كتابة النص وإعداد المواد وتقديم البرنامج. كان كل من يقدم برنامجاً من برامج هيئة الإذاعة البريطانية كاتباً ومعداً ومخرجاً ومذيعاً. أول برنامج قدمته كان برنامجاً يحضى باحترام المستمعين، ويسميه المسؤولونflag Ship السفينة حاملة العلم وهو تعبير يدل على الأهمية، لكل سؤال جواب . يبعث المستمعون بأسئلة عن شخصيات تاريخية واحداث ومعلومات عامة ونُحيل السؤال للمتخصصين الذين يجيبون عنه. وكان المتعارف عليه أن يقول مقدم البرنامج على سبيل المثال المستمع فلان الفلاني يسأل، من هو الملك هنري الثامن وما هو سر شهرته؟ فكّرت في طريقة جديدة للتقديم فصرت أقول وكأني أمتحن المستمع واحد من أشهر ملوك إنكلترا في القرن الخامس عشر، فصل الكنيسة الانكليزية عن روما وتزوج ست مرات وأصبحت ابنته من أشهر الملكات، هو هنري الثامن الذي يحدثنا عنه الدكتور كذا وكذا تلبية لرغبة مستمعنا فلان الفلاني . نجح البرنامج في ثوبه الجديد وزاد عدد الرسائل، التي كانت مقياساً لنجاح أي برنامج، وصمت الكثيرون الذين قالوا كيف يُترك برنامج مهم كهذا في يد فتاة صغيرة قليلة الخبرة. مع تتابع الأيام والبرامج لم أعد فتاة صغيرة، ولا قليلة الخبرة.
AZP09

مشاركة