بقايا شاب
كان صباحا شتائيا باردا تناثر ضبابه بكثافة على نوافذ المقهى ‘ جلس هناك بلا حراك ‘ لمحها تقترب بخطوات متثاقلة ‘ دخلت وعلى محياها اضطراب وقلق ‘ نظرات ثاقبة ‘ تلقي بنظرها على أركان المقهى ‘ رأته يجلس في أقصاها ‘ وقعت عيناها عليه ‘ حولتها عنه ثم استسلم هو للامر أخيرا ‘ تطلع إليها بعيون جائعة ‘ تود أن تلتهم كل شيء يخصها ‘
القت عليه التحية وجلست ‘ تلعثم لسانها وبدا عليها شيئا من الذهول ‘ تنظر من النافذة بصعوبة بسبب الضباب الكثيف ‘ التفتت نحوه ثم قالت :
سامحني ‘ فقد فرض علي والدي الزواج
من ابن عمي
لحظات من الصمت المطبق ‘ تسترجع ذكرياتها معه ‘ الظروف كانت أقوى منك ومني
تطلع إليها بدهشة ‘ كان الخبر كالصاعقة التي ضربت بعقله وجسمه ‘ تشتت ‘ لا يعرف ماذا يفعل او يجيب ‘ وقطع لحظات الصمت المميتة وقال بصوت واهن :
اجل ‘ اخترتي شخصا آخر غيري ‘ انا اموت ‘ احكمت علي بالإعدام من هذه اللحظة ‘ انا اسير مواجعنا ‘ حطمتي أحلامنا بيدك ‘ كيف تجرأت على ذلك؟!
قالت متوسلة :
أرجوك ‘ تفهم لم يكن الأمر بيدي صدقني ‘ أبي من فرض علي ذلك الزواج
بكثير من الحسرات صرخت :
أطلق سراحي ‘ حررني منك ‘ من خيباتك ‘ اريد ان اشفى ‘ لا أنكر انك تحبني وانا أيضا لكن إلى متى نستمر بهذا الحب ‘
دموع واشتياق وندم
ضرب بقبضة يده الطاولة ‘ لفت انتباه الجالسين من حولهم ‘ أخذوا يحدقون اليهم ‘ مرتقبين ‘ متلهفين لحدوث القادم وكأن عاصفة ستحدث ‘ نسي الزمان والمكان وتغضن وجهه ‘ اضطربت هي حيث لم تألفه على هذا النحو من قبل ..
قال بغضب : إذآ ماذا أفعل ‘ قولي ماذا ‘ والدك يرفضني ‘ حاولت معه الكثير كما تعرفين ‘
اغرورقت عيناها بالدموع واصابه شيء منها وهدأ من روعه قائلا بلهجة منكسرة :
لا استطيع نسيانك ولم أتخيل نفسي مع فتاة أخرى غيرك ‘ صدقيني ‘ اتمنى ان أصاب بفقدان الذاكرة
وعصف به الحزن والألم :
ستتركينني : بقايا شاب محطم .. ينتظر ساعاته الأخيرة ليودع هذا العالم البائس
توسلت إليه :
كف عن قول ذلك ‘ انت تقلقني بحديثك ‘ تحطم مقاومتي
انتصبت واقفة ‘ أعلنت رحيلها الأبدي
قالت مودعة له :
أتركني ارحل ولا تفكر بي بعد اليوم
خرجت مسرعة وخرج هو مرتعد بعد ان لملم ما تبقى منهم على الطاولة من دموع وذكريات .
لن يفكر بها بعد اليوم ‘ لن تبلل وسادته دموعا ‘ حبا واشتياقا لها ‘ اختاروا لها طريقها بعيدا عنه ‘ منحوها لشخص آخر غيره ‘ احبا بعض وهما طفلان وكبرا معا ‘
طلب يدها لزواج عدة مرات لكن اباها ذلك الرجل القاسي القلب يرفضه وهي مسلوبة الإرادة تدافع بمرارة عن حبها وتمنت يومئذ لو كانت رجلا له حرية اتخاذ القرار وإطلاق أفكاره دون خوف من مجتمعها ‘
دخلت عليه امه العجوز وجلست بالقرب منه على حافة الفراش ‘ تواسيه ‘ تنتشله من التفكير الممزق لاعصابه
ونظرت إلى تعاسته بحزن ثم قالت :
لا تحزن بعد اليوم ‘ فعلت الكثير من اجلها وهي كذلك ولا امل بعد اليوم فقد أصبحت زوجة لغيرك ‘
قال بصوت لا يكاد يسمع :
لكن يا امي انا احبها وهي كذلك تحبني ولم تسعد مع شخص آخر غيري
تنهد قائلا : صدقيني انا اعرف ذلك ‘ انا موطن ميلادها ومماتها .
نفض غبار الذكريات عن عقله واسترخى على سريره بعد ان خرجت امه وتمنت له ليلة طيبة عــاد إليه شبح سلوى ‘ ترمقه بنظرات حزينة ‘ يائسة ‘ نظرتها كالسهام ‘ تغرز في جسده وهو يهوى صريعا ‘ حائرا ‘ كيف ينقذ نفسه من عشقها الجنوني ‘ اقتربي
اشتقت لك ‘ دعينا نتبادل القبل كما كنا نفعل من قبل ‘
قبل ان يحكم على مصيرك الإعدام ‘ قبل ان يكشف كنزك رجلا آخر غيري ‘ قبل ان افقد معنى حياتي
صرخ باكيا ثم تلاشى صوته وغط في نوم عميق ..
سرور العلي – بغداد