بغداد .. والصور

بغداد .. والصور

بوابات غير تقليدية

دخلنا من بوابة مطار بغداد ، الدخول منها يعني الدخول إلى التأريخ ، الحضارة ، الحداثة بكل تفاصيلها وملحقاتها، بوابة المطار ليست كباقي بوابات المطارات ، ليس فيها الواح زجاجية تباغتك عند الإقتراب منها بالانفراج ، بل هي مجموعة اشعاعات تعمل بترخيص الدخول عن طريق فحص البصمات البصرية، من يحاول اختراقها يحترق فوراً من دون أدنى مجاملة ، التجاول في بغداد يقتضي الاستعانة بجهاز أسمه (bG Guide) جهاز خاص صممه مهندسون عراقيون للتعرف على العاصمة العراقية ولا يوجد غيره في مدينة اخرى ، فيه قسم مخصص لبغداد العباسية ، وهو تصميم استل من خلال ماجمع عن بغداد من كتب التاريخ وبالاستعانة بمؤرخين تم بناؤه بشكله العباسي ، في هذا الحي يمنع منعاً باتا بناء أي تصميم حديث مغاير لما عليه النسق العباسي ، الدليل (bG Guide) فيه كل ما يخص بغداد بعظمتها قديما وحديثا ، حتى السجون يمكنك زيارتها وتحديد مواقعها من خلاله .. على ذكر السجون لقد تحولت الى مشاريع انتاج بعد ان انخفض معدل الجريمة ، كنت اسير برفقة جدي الشخص الذي يحمل كل الصفات العراقية الخالصة ، طريقة كلامة ، طريقة مفاوضته ، عصبيته ،اعتراضه الدائم المبرر في أحيان وغير المبرر في أغلب الاحيان, هو وأنا مندهشان لما نراه رغم تسجيله لاعتراضات مستمرة ، لا توجد صور لاشخاص ، كل ما نراه صوراً كثيرة لأطفال ما يميز وجوههم الابتسامة ، المباني كلها على طراز معماري واحد لا ينتظم باشكال مكعبة ، بل لم أجد شكلا محددا له ، كنت اتساءل طوال الوقت كيف يمكن بناء هذه الشواهق بهذه الطريقة ، اكتشفت بمرور الوقت أنها مبانٍ متحركة ، قد استعمل المهندسون العراقيون فيها تقنية تسمى ((Building mobile غريبة هذه المدينة بكل ما نراه أو نسمعه ، جدي أراد أن يحدث أحد الاشخاص عن الرصافة القديمة ويبرز له ثقافته بطريقته المعهودة التي يضطهد بها الاشخاص قليلو المعرفة، لكنه احتفظ بمعلوماته عندما فاجأه الشخص بمعلومات ووثائق أدق من معلومات جدي بالف مرة استخرجها من (Historian of the City) وهو جهاز صغير كل ما عرفته أنه استخرجه من جيبه وصار ينزف المعلومات،مع هذا لم أر شرطياً أو موكباً لمسؤول يبتلع الطريق والناس معاً ؟؟ كان هذا السؤال أكثر ما يستفزني، أكثر ما يحرك بداخلي الرغبة في معرفة انتماءات الناس وولاءاتهم ، السؤال كان يحمل الف سؤال ويتناسل منه ألف فضول مع كل فضول تولد عشرات الاستفهامات الضاغطة، أتراها كل بوابات العراق صارمة مثل بواية المطار ؟؟ هل بوابة الحدود تحمل الخصائص الجينية نفسها لبوابة المطار ؟؟ جدي كان يشاطرني متوالية الاسئلة ، الزمن له ايقاع مختلف ، له من السرعة ما يصعب قياسه بإمكاناتي التقليدية فهو يتحول بطريقة ما الى طاقة انتاج وعمل، اللحظة تفني اللحظة لتفنى هي وتشيد لحظة أخرى بديلة ، والعاصمة مع كل لحظة تولد مرة أخرى دون مخاض ، الزمن في بغداد راجع الى الامام ، هكذا قال الشاب الذي سالته عن سر هذا التقديم ، كيف يرجع الى الامام؟!، يبدو ان للزمن (طرازاً ) مميزاً يأخذ اسلوباً مختلفاً في بغداد ، الصفر رقم خارج نظام الاعداد في زاوية الانتاج، بسبب الكم النوعي للزمن باعتبار المنجز ، حتى اختلفت التوقيتات، الساعة اصبحت وفق الايقاع الجديد تكتنز بانتاج شهر، وما زلت اشاهد وادخل البوابات في بغداد ، باب تلو باب، وكل باب لها خصائصها النوعية، انهينا يومنا بعد اندهاش يحتاج سنين لاستيعابه ، انتهت رحلتنا في بغداد ، جدي يصر على مغادرتها من بوابة المطار ، بيد أن القانون في بغداد يمنع الخروج من باب الدخول ، بوابه الخروج عند الحدود لا تحمل صرامة بوابة الدخول ، أنها بوابة تقليدية جدا ، فيها من الانين عندما تفتحها بقدر قدمها وماضويتها، لا تعمل الكترونيا بل بالجهد العضلي ، نغادر بغداد من بوابة الخروج ، اثناء خروجنا لاحظنا بعض الصور وهي تمارس ذات الفعل الذي كانت تمارسه ايام مجدها وقد احتفل بها الغبار وبقايا منتجات الصحراء حتى قاعاتها، ولم تعد لها أهمية تذكر ، يبتسم جدي ويقول لي (ألم أقل لك في يوم ما أنها ليست سوى محض صور ؟!).

غسان نجم – البصرة

مشاركة