بعد خمسين عاماً على إنشاء القسم العربي في الإذاعة البريطانية
حرب الخليج الثانية بداية عالم التكنولوجيا الإعلامية
سلوى جراح
في ربيع عام 1990 انتقل القسم العربي من مقره في الدور الرابع إلى الجناح الشمالي الغربي لتجديد مكاتب الموظفين. مع حلول الصيف احتل العراق الكويت وبدأت مرحلة الترقب لما سيحدث. اكتسبت برامجنا ثوباً جديداً في تغطية الأحداث، وصار الكومبيوتر الذي يوفر متابعة دقيقة لكل ما يحدث، سيد الموقف، وازداد زخم العمل. فحرب الخليج الثانية جاءت في وقت لم تكن فيه الفضائيات العربية الإخبارية قد رأت النور بعد، MBC بدأت العمل في لندن عام 1991 وقناة الجزيرة في الدوحة عام 1996. و في عام أربعة وتسعين توقف العمل في تلفزيون القسم العربي بعد عامين على تأسيسه بسبب الخلاف حول الرقابة التي طالب بها الشريك في التمويل آن ذاك، المملكة العربية السعودية. وانضم العديد ممن عملوا وتدربوا في تلفزيون البي بي سي الى القناة الجزبرة حديثة التأسيس.
كان المطلوب من كل مقدمي البرامج أن يساهموا في العمل في برنامج عالم المساء الذي أصبح يعتمد المقابلات والتقارير الإخبارية الحية. كنا حين ننتهي من عملنا في برامجنا نبدأ العمل في غرفة عالم المساء ، نساعد في الإعداد والمونتاج، وقراءة التقارير على الهواء. كان الزميل الراحل ماجد سرحان كثيراً ما يُعطى على الهواء خبراً عاجلاً بالإنكليزية فيقرأه بالعربية في ترجمة فورية دون أي تلكؤ.
في تلك الفترة كنت أعد وأقدم برنامج رأي المستمع الذي يجيب على اعتراضات وتساؤلات المستمعين حول برامجنا. قدمت البرنامج بقالب جديد على شكل حوار بين المستمع والبي بي سي، حوار فيه شيء من الخفة والكثير من المعلومات عن برامجنا وخططنا المستقبلية. في أحد الأيام أطل مدير القسم العربي سام يونغر، من باب مكتبي وقال باسماً ما الذي فعلته ؟ أخافني السؤال فقد كنت أتمرد أحياناً وأحاول تنفيذ ما أقتنع بجدواه في التعامل مع البرامج. حاول أن يخفي ابتسامته وهو يقول لم يعد قسم الرسائل قادراً على التعامل مع كم الرسائل التي تصل لبرنامج رأي المستمع . بعد أيام وصلتني رسالة تهنئة ومكافئة بخمسمئة جنيه.
حين عدنا إلى في الدور الرابع، وجدنا على كل مكتب جهاز كومبيوتر مع جهاز برينتر وبدأ عصر الكومبيوتر في العمل الإذاعي بكل تفاصيله. ولكن هل زادت التكنلوجيا الحديثة من مهارة الإذاعي؟ ربما سهلت القيام بأمور كانت تعتبر مستحيلة كإجراء مقابلات عبر الهاتف مع أي شخصية حول العالم من الاستوديو الذي تديره بنفسك، غرفة صغيرة، بنفس قدرات الاستديوهات الضخمة التي يديرها مهندس الصوت. هذا التطور التكنلوجي شجع القسم العربي على تقديم برنامج شهري يتيح للمستمعين الاتصال الهاتفي على الهواء بالبرنامج، لللمشاركة في الحوار والنقاش. لكن المهارات الحقيقية في إعداد البرامج واختيار المادة الممتعة والتعامل الذكي مع الموضوعات المختلفة، أمور لا علاقة لها بالتكنلوجيا الحديثة. فالتكنلوجيا لا تعلم الإذاعي صناعة البرامج الجيدة، قد تسهل عمله وعليه هو أن يصنع القيمة الحقيقية لما ينتج. بل يرى كثيرون أن الاعتماد على تكنلوجيا الإعلام، قلص من حجم مهارات كثيرة كان لابد أن تتوفر في الإعلامي الناجح، لعل أهمها الثقافة العامة، هذا المفتاح السحري لإعداد البرامج الجيدة. كلمات كثيراً ما رددتهاعلى فريق الشباب الذي دربته لإعداد برنامج حي أطلق عليه إسم شباب على الهواء . كانوا مجموعة من الشباب والشابات تملؤهم الرغبة في أن يتعلموا مهنة العمل الإذاعي. أمضيت معهم ثلاثة شهور من التدريب، أعطيتهم خلالها كل ما عندي، وأحببتهم وأحبوني. نجح البرنامج ولكنه لم يرض بعض المتزمتين في بوش هاوس. بعض هولاء الشباب الآن من نجوم تلفزيون البي بي سي ولازالوا يحفظون ليّ الود والاحترام، وحين أشاهدهم على الشاشة الصغيرة أشعر بفخر الأم بنجاح أبنائها.
حين ذهبنا إلى معرض دمشق الدولي عام ثلاثة وتسعين، اختار القسم العربي أن يكون جناح البي بي سي، الباص اللندني الشهير ذا الطابقين، زاره مئات المستمعين وقدمنا يوم افتتاح المعرض حلقة خاصة من البرنامج المفتوح استضفنا خلالها نجوم الفكر والفن في سوريا. ثم طلب وزير الإعلام أن تستمر سلوى جراح في تقديم ساعة من البرنامج المفتوح على مدى أسبوع، للحديث عن سوريا من خلال مبدعيها. أمضيت أياماً حلوة في دمشق واستمتعت بتقديم البرنامج. فالعمل في إذاعة موجهة يعني أن جمهورك بعيد عنك، لذلك فإن زيارة العالم العربي كانت متعة حقيقية، خاصة الجولات التي تأخذني لأكثر من بلد عربي. كانت كلمة شكر أو إعجاب يقولها مستمع، تعادل عندي كل الجهد الذي أبذله في عملي، وحين تأتي من مستمع من الشخصيات الثقافية والفنية المهمة، تتحول إلى شهادة تقدير. لم أنس أبداً زيارتي للكاتب الصحفي الشهير أحمد بهاء الدين في مكتبه في صحيفة الأهرام في القاهرة لإجراء مقابلة. يومها ترك الكرسي الوثير وراء مكتبه وجلس أمامي، وهو يقول مرحباً أنا من جمهوغك يا سلوى . كان رحمه الله يلفظ الراء بلدغة محببة. أحسست أني أمتلك العالم فهذا الجالس أمامي هو أحمد بهاء الدين الذي تابعت مقالاته بشغف في مجلة صباح الخير، في سني الصبا. عاد يقول إنه يستمع لبرنامج موزايك. رغم السعادة التي غمرتني أحسست بعبئ المسؤولية، التي علي أن أتحملها.
البرنامج الذي أحدث ضجة كبرى حين أذيع عام أربعة وتسعين، أخذني في جولة إلى خمس دول عربية تونس والمغرب ومصر والأردن والبحرين، لإجراء مقابلات مع أطباء ومتخصصين في الدراسات النفسية والاجتماعية لمشاكل الجنس، إضافة للناس العاديين من مختلف الأعمار، وضرب رقماً قياسياً في عدد الرسائل التي وصلته. برنامج عن الجنس بصراحة كان أول برنامج بالغة العربية يتحدث بصراحة عن موضوع شائك، كالجنس، ويخوض في كل جوانبه النفسية والاجتماعية والصحية. حين ذهبت لمعرض الكتاب في القاهرة، في ذلك العام وجدت اهتماماً من مستمعينا بالبرنامج. قال لي كثيرون إنه قدم حلولاً للعديد من مشاكلهم الاسرية. توافدوا كالمعتاد على جناح البي بي سي وتحدثوا مع الفريق المشارك في معرض الكتاب حول ما نقدم من برامج، ولم يفوتهم أن يحملونا تحياتهم لمن لم يحضر من الزملاء والزميلات، بل وترك البعض منهم باقات الورد في الفندق الذي نقيم فيه.
مع منتصف التسعينيات تراكمت المتغيرات على بوش هاوس. صار البرنامج الحي سيد الموقف، برنامج رغم جماليته ومتعته، لا يتيح الوقت الكافي للإعداد مثل البرنامج المسجل. فوقت الإعداد يبدأ من لحظة حضور إجتماع المحررين في العاشرة صباحاً حتى لحظة ظهور البرنامج على الهواء في الثانية بعد الظهر. أربع ساعات لعمل كل شيء من البحث في الموضوعات المطروحة إلى كتابة النص وإجراء المقابلات واستلام التقارير من المراسلين واختيار الموسيقى. مع الأيام صارت لحظات التأمل نادرة وزادت سياسة ما كنت أسميه سلق البيض . رغم ذلك بقيت بعض البرامج التي تتطلب التأني والتفكير والإعداد المتقن. موزايك، البرنامج الذي يستعرض أسبوعيات الثقافة والفنون كان متنفسي الوحيد. حضرت لأعوام متتالية مهرجان المسرح العالمي في مدينة أدنبرة، ومهرجان الموسيقى العربية في القاهرة و حاولت أن أنقل متعة المسرح والموسيقى للمستمعين. لكن الخناق كان يضيق مع الأيام.
AZP09