بشأن الشعر (1)

بشأن الشعر (1)
ليست هناك نظرية للشعر كل شاعر يحمل نظريته معه والشعراء الذين حاولوا ان ينظروا في الشعر خسروا شعرهم ولم يربحوا النظرية.
والشعر في تصوري مخطط ثوري يضعه وينفذه انسان غاضب ويريد من ورائه تغيير صورة الكون ولا قيمة لشعر لا يحدث ارتجاجا في قشرة الكرة الارضية ولا يحدث شرخا في خريطة الدنيا وخريطة الانسان والخروج على القانون هو قدر القصيدة الجيدة وليس ثمة قصيدة ذات مستوى لا تتناقض مع عصرها ولا تتصادم معه.
وفي العصر العربي الراهن تمس الحاجة الى شعراء هستيريين واقتحاميين وتصادميين يتجاوزون اشارت المرور الحمر ويضعون القنابل الموقوتة تحت عجلات القطار العتيق الذي يركبه ابو جهل وحاشيته … ونسوانه … وقططه … وكلابه وكل قصيدة بصرف النظر عمن كتبها وفي اي عصر هي محاولة لاعادة هندسة النفس الانسانية واعادة صياغة العالم.
مطلوب من الشعر ان لا (يتعقلن) ولا يقع في دبق الشعارات اي دبق الايديولوجيات او دبق الكاميرات والمهرجانات مطلوب منه ان لا يتزوج ولا يتخرج ولا يلبس قبعة الاكاديميين لان كل القبعات هي اصغر من رأس الشاعر الشعر هو اغتصاب العالم بالكلمات القصيدة الجيدة لابد ان تغتصب شيئا ما ان (تلخبط) خارطة الاشياء.
المتنبي كان مغتصبا لعصره
وابو نؤاس كان مغتصبا لعصره
وعروة بن الورد كان مغتصبا لعصره
وديك الجن الحمصي كان مغتصبا لعصره
وكذلك رامبو وبودلير وفيرلين ولوركا وبابلونيرودا
وعلى يد هؤلاء جميعا كتب تاريخ الشعر.
اما الشعراء المطيعون والدراويش والانضباطيون كساعات اوميغا فقد يحصلون على شهادة حسن السلوك من مختار حاراتهم وقد يحصلون على وظيفة في قسم الارشيف في احدى الوزارات ولكنهم لن يضعوا رجلهم ابدا في بلاط الشعر.
وظيفة القصيدة هي وظيفة تحريضية بالدرجة الاولى لا وظيفة توفيقية وظيفة القصيدة هي خلخلة العلاقات القائمة بين الانسان والكون لا تثبيتها والمصالحة معها.
وازمة الشاعر العربي الحديث انه اضاع عنوان الجمهور فهو يقف في قارة والناس يقفون في قارة ثانية وبينهما بحار من التعالي والصلافة وعقد العظمة.
وبدلا من ان ثقافة الشاعر وسيلة للتفاهم والاقتراب اصبحت قلعة من الغرور لا يدخلها احد وبوابة من الاسلاك الشائكة لا يجرؤ احد على الاقتراب منها.
لماذا تكون البساطة عدوانا على التاريخ؟ بل لماذا تكون طفولة القصيدة سببا من اسباب ادانتها هل تتعارض الطفولة مع البلاغة وهل التعتيم هو الشرط الاساس لتأكيد ثقافة الشاعر وغنى عوالمه الجوانية وبكلمة اخرى هل غموض الرؤيا وغموض الوسيلة وغموض طريقة العرض هي معيار اهمية الشعر واهمية الشاعر؟
ان (ازراباوند) وهو ابو مدرسة الشعر الحر وبطريركها كان ينادي بعودة الشعر الى معالجة الاشياء مباشرة وفي رفض استخدام اية كلمة لا تضيف شيئا الى بناء القصيدة وكان يقول دائما اننا نتألم من استخدام اللغة بغية اخفاء الفكر وكان علم البيان هو الشيء الوحيد الذي تمنى ازراباوند لو انه قادر على ان يطلق عليه النار.
ان الشعر في تصوري عملية انقلابية يخطط لها وينفذها انسان غاضب ويريد من ورائها تغيير صورة الكون.
ولا قيمة لشعر لا يحدث ارتجاجا في قشرة الكرة الارضية ولا يحدث تغييرا في خريطة الدنيا وخريطة الانسان.
اني لا افهم الشعر الا من وجهة كونه حركة، حركة مستمرة في سكون اللغة وفي سكون الكتب وفي سكون العلاقات التاريخية بين الاشياء.
ان انقطاع الخيط بين شعراء الكلمات المتقاطعة والجمهور ملأهم بمركبات النقص فراحوا يتهمون هذا الجمهور بالغباء والسطحية والامية والمراهقة ويزعمون ان العصر متخلف عن شعرهم وان عدم فهم القصيدة هو مقياس عظمتها وان العلة ليست فيهم بل في الجمهور.
ويقولون ايضا فيما يقولونه ان قصائدهم ذات صيغة مستقبلية وانها اذا لم تأخذ مكانها الطبيعي الان فسوف تأخذ بعد عشرات او مئات السنين.
ان هذا المنطق هو منطق الثعلب الذي لا يستطيع ان يطال العنقود فالشعر الذي لا يصلح لهذا العصر لا يصلح لكل العصور والقصيدة التي لا تستطيع ان تخاطب زمانها لا تستطيع ان تخاطب زمان غيرها.
ولان المتنبي كان هو في ضمير عصره استطاع ان يسافر الى كل العصور ويشاركنا حتى اليوم طعامنا وغرف نومنا واحاديثنا ولان ابا نؤاس كان جزءا من حانات بغداد و البصرة اصبح جزءا من تاريخ السكر وتاريخ الكؤوس.
ولان طاغور كان قطعة من روح الهند صار قطعة من روح العالم ولان لوركا ذبح تحت شجرة زيتون وهو يغني للحرية في اسبانيا ضل شعره محفورا على كل اشجار الزيتون في العالم.
اما الهاربون من عصرهم ومن زمنهم بحثا عن ازمنة اخرى وكواكب اخرى وكائنات اخرى فسوف يبقون دائما معلقين في الفراغ بدون جنسية معلومة.
لا قيمة لفن لا يحدث ارتجاجا في قشرة الكرة الارضية ولا قيمة لقصيدة لا تشعل الحرائق في وجدان العالم وفي المرحجلة التاريخية التي نعيشها لا قيمة لشعر يحترف التبخير والخوف والتستر والتقية.
يكون الشعر كشفا واضاءة وتعرية للزيف او لا يكون وكل قصيدة معاصرة تجامل وتنافق وتتستر على رداءة التمثيلية وتفاهة الممثلين تتحول الى ممسحة على اقدام سيف الدولة.
ان عضوية نادي الشعر لم تعد كما كانت في الثلاثينات وقفا على من يعرفون قواعد العروض ويحملون بطاقة توصية من (الخليل بن احمد الفراهيدي) ويحسنون النظر ضمن حدود (المدرج) الموسيقي الذي رتبة وبوبه ان المنظور الشعري قد تغير تماما والمقاييس الهندسية التي كنا نعتمدها لتفريق الشعر عن النثر لم تعد مقاييس صحيحة ولا مقبولة في هذا العصر فقصيدة مكتوبة على البحر الكامل او الوافر او البسيط n ومستوفية كل المواصفات العروضية وكل القواعد التقنية المطلوبة قد تسقط سقوطا شعريا مفجعا امام قصيدة من قصائد النثر تقنعك من اللحظة الاولى بحضورها الشعري.
6. بروس وكسلر
عبد الحميد الجبّاري – بغداد
/6/2012 Issue 4236 – Date 27 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4236 التاريخ 27»6»2012
AZPPPL

مشاركة