برداً وسلاماً ياعراق

برداً وسلاماً ياعراق ماركريت خاميس كنت أراقبها وهي تتحرك بحيوية ..كم هي منشغلة ! طفلة عراقية صغيرة تعيش في بلد اوربي ولم تعرف وطنها الا من خلال ذكريات قليلة تبدو مثل الحلم !!لكن كل هذا لا يمنع من أنها تتباهى بعراقيتها وتصّر على أن أسمها ( مريم) وليس (مريام ) كما يحاول البعض نطقه بلكنة أجنبية!! تحركت بسرعة وحماسة وهي تحمل بين يديها خارطة طبعتها للتو بآلة الطبع وبلمحة بصر!!أنها خارطة الوطن ..خارطة العراق. رحت استرق السمع وهي تحكي لاخواتها بثقة وتُؤشر على الخارطة ..هذه هي مدينتنا ..هنا كنا نسكن في بغداد.. وهنا كان منزلنا الى الجنوب !!لقد كان بيتنا ابيضاً .. ونوافذه زرقاء وتطل على حديقة واسعة تتوسطها نخلة عالية!وحين أحتجت الاخت الصغرى مشككة بكلام مريم ..راحت الصغيرة تقسم وهي تردد .. والله كلامي صحيح ..لقد أخبرتني أمي بذلك ..كما أن جدتي حكت لي حكاية الوطن أكثر من مرّة لذلك أحفظها عن ظهر قلب !! انتبهت الجدة ..بل جفلت وكأن القلب قفز من مكانه وراحت تردد في سرّها (حكاية الوطن) هل أصبح الوطن حكاية نرويها ماقبل النوم !وهل اصبح الوطن حلما لا يمكن أن نتلمسه الا عبر روايات وحكايات نرويها كلما سدّت الغربّة كل ابواب الامل امامنا . ماهي الا لحظات حتى لجأت الصغيرة الى الجدّة تشهدّها على صحة ماتقوله عن البيت والدار !!هيا جدتي أحكي الحكاية من جديد لتسمع (نور) أنها لا تصدق أن بيتنا كان وسط المدينة ..وكانت هناك سوقاً نمشى اليها خطوات قليلة ..وكانت شجرتنا تحمل كل عام رطباً كثيراً نوزعه على الجيران. أحتارت هذه العراقية واحست بالالم ..كيف أن الوطن قد أصبح مجرد حكاية نرويها ولا نستطيع أن نثبت صحة الانتماء اليه وهويته الا عبر خرائط وخطوط حمر وخضر ونحن نؤشر على المدن والقرى والشوارع في الوطن الغالي. واصرّت الحفيدة المثابرة ..هيا جدّتي احكي ل(نور)ماحكيت لي !!وهنا ردت الجدّة بألم ..ماذا احكي ؟!حبيبتي انها ليست حكاية ..انها حقيقة وفي يوم من الايام سنعود كلنا وسوف تعرفون كل شئ بل تعيشون كل شئ دون حكاية أو خرائط !! لم تفهم الصغيرة سبب أعتراض الجدّة ..فهي لم تقل شيئاً موجعاً..واستمرت بذكاء تستدرج جدّتها للكلام !! جدّتي لقد سمعت في الاخبار أ، الثوار حرروا الموصل وأشرت على الخريطة هاهي الموصل ..وتكريت وهم في طريقهم الى بغداد ليحرروها ومن ثم سيخلي المجرمون بيتنا الجميل الذي استولوا عليه ..نعم سننظفه من جديد ونزرع حديقته ونقلم أغصان نخلته الجميلة ! أذعنت الجدّة لافكارالصغيرات وهنّ يجتمعن حول خريطة الوطن!! وراحت هذه العراقية المحبة تطوف بافكارها في رحلة جميلة تزور الوطن..ويتنادى من بعيد صوت فؤاد سالم الذي استسلم للموت وهو يردد بوجع (بصرتنا ماعذبت محب ..احنا العشق عذبنا !!)وبغدادنا هي دار للسلام كانت وستبقى.. والحدباء ماأحلاك ..في الموصل اطوف بذاكرتي في شوارعها القديمة الجميلة واسلّم على (دورة الساعة ) وأتساءل هل فعلاً فك الثوار قيودك وتحررت من عقد الظلم والجهل ؟!! اسير في الدوّاسة ودندان ..ومن حيّ الطيران اسلّم على الزهور والحي العربي .. واسرع الخطى الى باب الطوب والسرجخانة!! نعم انتقل من الجانب الايمن الى الايسر..واسمع اللكنة الموصلية تستقر بدلال في اعماق روحي وتلتصق بلساني اغنية تراثية ( ده قومي ياعمتو ..ده قومي ياخالتو ..هذا العزيز المدلل غدا ليلة حنتو)!!!الله ماأجملها..نعم الموصل مازالت تغني وتخبرنا أن ( سُعادة ماماتت عيني دلال ) نعم لنغني ..الموصل لن تموت وكذلك بابـــــــل والانبار واربيل . !! آه ياقلب ..كيف تتحمل كل هذا الوجع وكل هذا الالم وانت تتوق لان تقبّل تراب الوطن فيما المجرمون هاهناك وعصابات الموت تدنس ارضك الطاهرة ..نعم اشرار الارض يريدون تقسيمك بل تمزيقك..ولكن هيهات ..ستبقى قلوب وارواح العراقيين وسواعدهم القوية بوصلة الوطن الموحد وبوصلة للنصر القريب ان شاء الله .. نعم لن يفرح مروجيّ التقسيم !!سيكون العراق موحداً كما كان منذ بدء التاريخ .. حين كنا صغاراً لم نكن لنسأل أين نحن على الخارطة ..المهم اننا كنا نعيش على ارض الوطن ..لم يكن مهما ان كنا في الجنوب او في الشمال أو نسكن الوسط فكل مكان هو وطن!! لم نحمل يوما خارطة نؤشر عليها أين مكاننا؟!كانت كل المدن والبلدات والقرى ملك لنا ..كل عراقي كان يشعر انه يملك مدن العراق ونهريّه وارضه الخصبة وحتى أرضه البور !!لم تكن في يومٍ تفرقنا مدينة أو لهجة أو قومية او مذهب أو طائفة ..مع أربيل والسليمانية ودهوك كنا نحتفل بعيد نوروز..وفي نينوى كان نيسان يرتدي ملابسه الملونة الزاهية ونحن نشارك في مهرجان الربيع ..ونعرج منها الى القوش وتلكيف وتللسقف..ومن النجف الى كربلاء نسير في مواكب الزيارة نستذكر بحزن وبالكثير من الوقار من منْ فدى عراقيتنا.. وفي طريقنا الى البصرة نقف أمام( جيكور) ونسمع ضحكاتها وهي تردد هاهوصوت السياب أنطلق من هنا..ثم نستقر على ضفاف شط العرب في نزهة مع العوائل الامنة بجزيرة السندباد !!لم نكن نحتاج الى خارطة ونحن نقطع المسافات على ارض الوطن من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه ..وكان لنا مع بابل ومهرجانها السنوي اياما للحب والفرح والفخر .. كنا نقف عند بوابة عشتار ونذكّر العالم أجمعه بحضارة بابل واشور!! وفي سامراء كانت تحط حافلات السفر وهي تحمل طلاباً صغار وهم يكتشفون ( سرى من رأى) ويتسلقون ( الملوية)التي بدت لقلوبهم الصغيرة معجزة تطبع بقوة الحب في ذاكرتهم !! وفي بعقوبة كنا نجمع البرتقال لنتباهى ببساتين العراق العامرة.. و في كركوك كانت النار الازلية تشهد كم من النعم أخص بها الله عراقنا..وفي الناصرية نقرأالتاريخ الجميل للفن والشعر والاغاني..!وفي ميسان يوقفنا بيت من ال(دارمي)يرحب بنا..وفي الديوانية نطلّع العالم على أمجاد القادسية . !! لم يخطر على بال ايّ أنسان عراقي انه سيأتي يوماً ويشهد بأم عينيه محاولات غادرة وخبيثة لتقسيم الوطن وتقطيع أوصاله الى أجزاء مشلولة..كيف تقسّم ذكرياتنا ومحبتنا وصلات أهلنا ..كيف يبنون حدوداً من النار والقسوة بين قرانا ومدننا ..لمن امنح قلبي كاملا ..وهم يحاولون تقسيمه مابين بغداد والموصل ..مابين الانبار والبصرة ..مابين واسط ودهوك والفلوجة ..بل أنهم يذبحون قلب الوطن ليوزعوه موتاً أسوداً على كل شبر من ارض بلادي . . أنا واثقة كما العراقيين جميعاً أن سواعد الاحرار وعقول المفكرين المخلصين ستكون سداً منيعاً أمام محاولات تقسيم الوطن . . ياالهي ..انه دعاء العراقيين الصــابرين ..لتكن نار الطــائفية التي يشعلها الاعداء ..لتكن برداً وسلاما على أهل العراق..دمت سالماً ياوطني موحداً الى ابد الابدين ..

مشاركة