توقيع
فاتح عبد السلام
كانت هناك تجربة في النقل بالعراق في نهاية السبعينات من القرن الماضي حققت نجاحاً كبيراً قبل أن يتم اهمالها وتلاشيها مع الزمن . وكان الناس يطلقون عليها الاسم الدارج ( باصات المنشأة). وهي حافلات مكيفة كبيرة الحجم مصممة للرحلات الطويلة التي تستغرق ما يقرب من خمس ساعات بين بغداد ومعظم المدن العراقية الرئيسة البعيدة ومنها البصرة والموصل وكركوك والعمارة والنجف وكربلاء والناصرية وسواها، وكانت بأسعار مناسبة وتخضع لمراقبة مكاتب مرتبطة بمديرية عامة في وزارة النقل ، حتى انّ الراكب كان يحصل على بطاقة خاصة للصعود قبل أن يحل التدافع والركض وراء الحافلات المتعبة للنقل من العاصمة لبعض مدن العراق .
مرّت سنوات طويلة وتعاقبت وزارات كثيرة للنقل والمواصلات ولايزال هذا القطاع من النقل متروكاً من دون رعاية من الوزارة، وكأنّه من شأن القطاع الخاص حصراً الذي يعاني من عدم التنظيم وضعف المراقبة والامكانات وانخفاض الجودة وارتفاع الاسعار وتقلبها بحسب الأمزجة أحياناً .
التجربة التي انتعشت في بداية الثمانينات من القرن الماضي كانت تحاكي تجارب متقدمة وناجحة في دول العالم ومنها دول في الجوار الاقليمي ، ولكن ظروف الحروب وانعدام التخصيصات المالية لقطاع النقل أصاب التجربة بالموت التدريجي حتى لفظت أنفاسها ، في حين انّ الاموال الآن متوافرة من موازنات ضخمة لم يعرف العراق مثيلاً لها في تاريخه ، ويمكن أن تعاد التجربة على نحو عصري أفضل
بعد اعادة دراستها بشكل علمي ناضج شرط أن توفر لها سبل الادامة والصيانة ليتم انتشال المواطن من هذه المهانة اليومية التي يعاني منها عند القيام بالسفر من مدينته الى العاصمة. المواصلات بأنواعها كافة علامة من علامات تقدم المجتمعات ونجاح الادارات الحكومية في برامجها ، فالمواصلات الناجحة تزيد انتاجية الانسان وتوفر وقته وتدفعه الى العمل والحياة بصورة منظمة وهادفة وأمينة ،لاسيما مع توافر عمليات الحجز عبر الانترنت والافادة من كل دقيقة متاحة لتقديم الخدمات الاسرع والأوفر والأنظف. هل يمكن أن يتحقق ذلك في بلدنا أم أننا سنبقى نعجز عن محاكاة تجارب نجحت في العراق قبل خمسين سنة، في حين انّ العالم يتطلع لتجارب غير مسبوقة تتجاوز معطيات بدايات التقدم الباهر في هذا القرن ؟.
رئيس التحرير – الطبعة الدولية