اليقظة بعد النعاس

اليقظة بعد النعاس

 

 

معتصم السنوي

 

 

يأسف الإمام محمد عبده أن يجد هذه الصفة سمة الناس في بلاده. وقد أضاف إلى أسفه هذا عبارة وضعها بين قوسين يقول فيها (إننا نخجل من تسجيل ذلك في الجرائد، ولكن أية فائدة في أخفاء عيب فينا عرفه الغير عنا)..! وأحسب أن (الإمام) لم يكن يتجه بهذا الوصف إلى العاملين بسواعدهم في فلاحة الأرض، أو العمال الذين يكسبون رزقهم بشق الأنفس لتأمين (الخبز) لأطفالهم، أو لصغار الموظفين الذي يضربون الأخماس في الأسداس من أجل تكيفهم رواتبهم لنهاية الشهر..! الذين هم في الأغلب لا يجدون من وقتهم فراغاً لهذا (الترف)، بل كان يتجه بالوصف إلى (الفئة الثرثارة من المثقفين  المترفين)، ممن كانوا – وما يزالون- يوهمون الناس بأنهم أصحاب (رشادة وريادة. ويضيف (الإمام) في مقالته المنشورة في جريدة الأهرام حيث كانت (الأهرام) في عامها الأول- وهو عام (1876) ويعد من أنفع ما ذكره في مقالاته: أن الأحاديث الشائعة في المجالس العامة والخاصة، دليل قوي على (حقائق النفوس)، ولذلك يتعقب تلك الأحاديث ليرى من أي نوع كانت..؟ فإذا هي دالة على أن حضارة العصر في طريق، وهؤلاء (المتحدثون) في طريق آخر، وأوضح لنا ذلك بأن عقد شيئاً من المقارنة بين ما يشغلنا البلدان العربية وشعوبها ويشغل أبناء الأمم التي تقدمت، وفي يقيني أن ما قد وجده (الإمام) في يومه، يجد مثله المتعقب لأحاديث اليوم في مجالسنا العامة والخاصة بل وعلى مستوى الحكومات..! كتب الشيخ محمد عبده وكتب ثم كتب في سلطان (المظهرية) في حياتنا.. في فقر الرأي الذي أفظع من فقر المال، في صنوف العبث وسوء التناول، في البذخ المجنون، في الخرافة البشعة المسيطرة على عقول الناس، وفي هذا نفسه ما يزال يكتب الكاتبون، فماذا نحن صانعون ليتغير منا ما نريد أن نغيره؟. نعم ماذا نحن صانعون؟ لعل سؤالاً كهذا قد نشأ (للإمام) وهو يحاول (الإصلاح بمداد قلمه) فلم يأخذه اليأس أول الأمر، بل اتجه بالأمة نحو أولئك الذين يريدون تغيير الشعب بين يوم وليلة، قائلاً لهم ما معناه (أنهم ربما ظنوا أن إصلاح بأسرها هو أمر سهل سهولة العبارات التي يلقونها على الناس ليفهموها أو سهل سهولة الكتب بين أيديهم، جاءوا بها من البلاد المتقدمة وظنوا أن قراءتها وعرض مادتها على الناس كافٍ وحده لإستحداث الإصلاح المنشود..! – أنهم- وهذه العبارة (للإمام) في ذلك يظنون أن أفكارهم العالية إذا برزت من عقولهم إلى حيز الكُتب والدفاتر، ووضعت أصولاً وقواعد لسير الأمة بتمامها، ينقلب بها حال الأمة من (أسفل درك في الشقاء إلى أعلى درج في السعادة)، أنهم – في رأيه- لابد أن يراعوا قابلية الأذهان لما يعرض عليها من أفكار، واستعدادات الطباع للأنقياد إلى نصائحهم، وضرب (الإمام) مثلاً لهؤلاء الذين يحاولون الإصلاح بادئين بدرجة الكمال الحضاري فقال: هل يسهل على صاحب الفكر الرفيع أن يودع في عقل الطفل الرضيع، أو الصبي قبل رشده، وقبل أن يتعلم شيئاً من مبادئ العلوم تلك الأفكار العالية.؟ ثم مضى (الإمام) في الحديث ليؤكد لدعاة الإصلاح في زمنه، ممن (يريدون القفز بالشعب إلى حضارة العصر في خطوة واحدة)، ليؤكد لهم ضرورة (التدرج) بالناس نحو الهدف شيئاً فشيئاً، فيبدأون بتعلم الناس القراءة والكتابة، ثم مبادئ الفنون السهلة التحصيل، ثم يتدرجون بهم، الخ فالذي تمكن من عقول الناس أزماناً كما يقول – لا يفارقها إلا في أزمان، على أنه محال على الناس أن يغيروا ما بهم من تخلف ليحلقوا بحضارة العصر، ما لم يبدأ الأمر بإقتناع حقيقي عندهم، إذا لا يكفي أن تنقل إليهم (المظهر الخارجي للحضارة) دون أن يستند في باطن نفوسهم، إلى المبادئ التي ترتكز عليها ذلك المظهر..! وعن الرجل الكبير في الشرق، ويقصد (الحكام والملوك) يقول (الإمام) ما معناه: أن الرجل الكبير لا يستطيع شيئاً إلا إذا كان ما بالأمة هو نعاس فقط ويحتاج إلى من يوقظه، وأما ما فوق ذلك فهو (لا يحيي الموتى ولا يسمع من في القبور)، ثم يأخذ بالمقارنة بين كبار الرجال في الغرب وكبار الرجال في الشرق، ليقول أنهم هناك يفلحون لأن لهم شعوباً تسمع وتعي، وأما هنا فالطريق بين الطرفين مسدود، وهذا يعود حسب رأي إلى فقدان (الثقة) وأهتزاز المبادئ والقيم والتهرب من واجبات وحقوق تفرضها القوانين الطبيعية والوضعية لمواكبة مسيرة الحياة نحو التقدم ليشمل الخير الجميع دون استثناء..!