النهر الأسود
طراااااق.. بَصَقني البيت – وصفقتُ الباب ورائي – عندما مادت الأرض به فكاد يتقوّض، وصكّ طبلتيّ دويّ الانفجار وأصداؤه، إذ تملّكني فزع عـــارم، فاتجهتُ رأســـــاً الى النهر الأســــود المتدفق من جحيم الأرض الى خلجــــــان السمـــــاء..
سيول البشر تنحدر من الأزقــــــة والفروُع باتجاه عمود الدخان.. أيـــــــــن؟!.. لا أدري.. كنت استحمّ فخرجتُ راكضـــــاً.. تصوَّر، نسيتُ ارتداء ملابسي، لولا ان نبّهتني زوجتي عندما صرخَتْ!.. انسكبَ الماء من الطاسَــــــــة حين تزلزلتْ المنضدة.. تهشّم الزجاج عليّ وعجّت الغرفة بالتراب الهابط من السقف.. أحدهم قال انه أقصى القرية عندما جنحت به السيارة باتجاه المزابِـــــــل.. وهل اعتدلَتْ؟.. السيارة؟.. طبعاً.. وهل المزابِل تعتَدل؟!!..
لدى كشك مأكولات ألف عافيـــــــة، حيث يتجمّع الرجال لتقصّي الشائعات، امرأة تثرثر بهلع وتمسك بكفّ صبي مراهـــــق، وجوقة من الرجال ينصتون بآذانهم وأعينهم وأفواههم و…وعينا المراهق تلاحقان ببلاهـــــــة حركة ذراعا المرأة لأجل الإيضـــــــاح، وأعين الرجال المتحجّرة..
اصطدم بي أحدهم، مسحت وجهـــــــه وعويناته الطبيّــــــة و.. أين كنت؟.. من طأطـــــأ لَسَّـــــــلامُ عليكُم.. نشّفت دمعي وتوقفتُ عن تقشير البصل عندما تذكرتُ ان ميموناً خارج البيت منذ الظهيرة. ركضتُ باتجاه التل، كان ثمة صياحاً ينبثق من كل مكان.. حشد بشري يهرع باتجاهي، تحسستُ جسدي فتأكدتُ اني لستُ في حلم عندمـــــــا اجتازني الحشد البشري دون ان يأبه بوجودي، وعندها اصطدم بي أحدهم، مسحت وجهه وعويناته الطبية واحتضنته حالما تأكدتُ انه ميمــــــون.. أين كنت؟.. هل أصابك مكروه؟!.. بُق بُق بُق.. وخفسَتْ الوجنتان لحرارة القُبَل!.. ماذا هناك؟.. كأني أكلّم الحائــــــط!.. شعرتُ ان عمود الدخـــــــان يتباعد فإذا بميمون يجرّني من يدي.. ” ماذا حصــل؟” قلتُ لميمون ونحن نركض..
آه.. لا اقوى على التحدّث. انه مريــــــع.. مريــــــع.. أبصرتُ رجـــــلاً يركض باتجاه اللاعبين لما تجمّعوا حول الكــــــأس، كان يركض ويتلفّت، شعرتُ به خائفاً من شيء ما، كنتُ أقف على مبعدة لكن نظّارتي تجعلني جـــــــد قريب.. دسّ جسده بينهم.. قلتُ انه سيسرق الكـــــــأس وما هي إلا ثانية أو أقل حتى تطايـــــــر اللاعبين في الفضاء وتمزّقوا.. تمزّزّزّقوووووا.. رأيتني أطير معهم في عالم صــــــامت.. صـــــــامت.. لكني تأكدتُ اني لستُ معهم حــالما نزعتُ النظّارة.. لم أسمع صراخهم، لم أسمع دحرجــــــة الكأس عندما هبط تحت قدميّ، لم أسمع أيّ شيء..
أما العظــــــام ومِزَق اللحم فغطّت ساحــــــة الملعب، وصار التراب أحمرا، وعبق المكان برائحة الشــــــواء البشري، والدخـــــان، والدم.. أيدي، أعين، أرجُــــــل، رؤوس، أسمـــــال، وألبسة مبللة تكســـــــو الأرض.. كنتُ أركض بكل الجهات ليس للهرب، وانمـــــــا.. لا أدري.. أحسستُ انني أزحف على خيط رفيع يفصلُ الحياة عن الموت. قد أكون مخطئــــــاً.. هويت من مكان سحيق، فرحتُ أتقلّب مثل العلكــــــة في فم العاهرة عندما يئستُ من بلوغ قرار. قد أكون مخطئاً أيضـــــاً.. لا أدري..
وحين طأطأت المرأة، وكمَّمَتْ فمها بكفّها، ولعنَتْ الصبي، و”أووف مِنَّك!”، اتجهتُ الى النهر الأســـــوَد. هدوء محترز يخيّم على المنطقة والناس تكتّلوا حول النهر الأسود.. رجال الشرطة يفرضون طوقـــــاً.. اقشعرّ بدني بإبصار المذبحة.. لم استطع المكوث أكثر، وقد اخترقَتْ سيّدة مسنّة جدار الشرطة، وانكبَّتْ على رأس مدمى تُقَبّله وتركض به بين الحشــــــود.. هربتُ باكيــــــاً ومن وراء الدموع أبصرت على مبعدة إبريقــــــاً فاحمـــــــاً.. اقتربتُ منه بحذر لأنني سمعتُ سيارة الشرطة تحذّر مُزمجرة ، وكشّ شعري لأنني أبصرتُ كفّاً بشرية مقطوعة تقبض عليه بقوّة!.. تلمَّستهُ بأصابع مرتعشـــة، مسحتُ السُخـــــــام، فإذا به ينطلي عن بريق ذهبي.. انتهيتُ من مسحه وخبّأتهُ تحت سترتي، وانطلقتُ بـــــه ثم دسسته بيَد السيدة المُسنّة، فابتسَمَتْ.. ابتسمَتْ.. ثم ضحِكَت بهستيريـــــا..
وأردَف حردان وما زلنا نقتعد على التل المُكَرَّش بالغرقى:
– آه .. ما هذا بحق السماء؟!
– لو سرق الكأس.. لَمَا.. لَو فكَّرَ.. لَمَا..
– وهل… تُفــــ..
تلعثمَ حردان وانعقد لسانه عندما رأينا نهراً أسوَد يتدفق من وسط القرية – خمَّنّا انه لدى كشك مأكولات ألف عافيـــــة! – باتجاه خلجـــــــان السماء.. بُـــــــف.. فتزلزَلتْ طبلاتنـــــا بدويّ الانفجـــار..
– ما الذي كنت تنوي قوله؟
– وهل المزابِـــــــل …؟!
وتلعثم حردان مرة أخرى..!
تعريف النهر الأسود : قيحٌ من الدمار تلفظُهُ القلوب الضاجّة بالحقد .. عمود من الظلام يسند خيمة السماء ، أو هو المطر يعود على شكل دخان ، يعدم الأرض قذارتها ويعود .. ما كان ليعود لولا القذارة المتأصّلة ، لولا المزابل..!!!
حمــد الرملي- صلاح الدين