النزعة القومية ــ البعثية

النزعة القومية ــ البعثية
ادريس جنداري
اذا كان التيار القومي العربي قد فكر وناضل من أجل بناء الوحدة العربية؛ فانه تصور هذه الوحدة من منظور علماني فصل الدين عن الدولة ؛ وهذا يعطينا صورة حقيقية عن العلاقة بين العروبة والاسلام ضمن هذا المشروع؛ خصوصا وأن العلمانية قد اتخذت بعدا ايديولوجيا؛ في علاقة بالتصور الماركسي للدين من جهة؛ وكذلك في علاقة بالتصور العلمانوي الفرنسي»الأتاتوركي من جهة أخرى.
في حديثه عن علاقة الدين بالدولة في الخطاب السياسي العربي؛ يؤكد الأستاذ محمد عابد الجابري؛ أن الخطاب الليبرالي العربي انطلق من شعار فصل السلطة الروحية عن السلطة المدنية في دولة الغد؛ دولة النهضة لينتهي به الأمر الى البحث في دولة الأمس؛ بهدف اعادة ترتيب العلاقة بين العروبة والاسلام في التاريخ العربي. 8 ويفسر الأستاذ الجابري هذه العلاقة بقوله على أن قضية العلاقة بين العروبة والاسلام لم تطرح فجأة ولا جاءت متأخرة بهذا الشكل .. بل يمكن القول انها كانت الوجه السياسي المباشر لقضية العلاقة بين الدين والدولة؛ كما طرحت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن تحت حكم الامبراطورية العثمانية. 9
ان تحليل الأستاذ الجابري؛ في الحقيقة؛ يدفعنا الى اعادة النظر في مجموعة من القضايا التي كان المشروع القومي يتعامل معها باعتبارها مسلمات؛ سواء تعلق الأمر بقضية العلمانية؛ أوبقضية العلاقة بين العروبة والاسلام. فنحن نتحدث عن مشروع؛ قام على أساس رد الفعل؛ من دون أن يكون نتيجة بناء فكري رصين أوقراءة سياسية عميقة للواقع العربي؛ وهذا ما يفسر موقف الأستاذ الجابري من العلمانية في الثقافة العربية؛ لأنه لم يكتف بالضجيج الذي أثير حول المفهوم؛ ولكنه تجاوز ذلك الى البحث في علاقته بالتوجهات الايديولوجية السائدة.
لقد كان التيار القومي؛ بجناحيه الليبرالي واليساري؛ يفكر في العلمانية؛ من منظور فك ارتباط العروبة بالاسلام؛ وهذا ليس موقفا فكريا مؤسسا؛ بل هوموقف سياسي؛ تحكمت فيه نزعة استقلالية؛ في علاقة بالامبراطورية العثمانية؛ وذلك بهدف تشكيل كيان عربي مستقل.
ولعل هذا الاتجاه هونفسه الذي تحكم في باحث سياسي كبير مثل فرانسوا بورغا الذي يؤكد أن العروبة؛ بدأت تبتعد شيئا فشيئا عن اطارها المرجعي الديني؛ ويرجع ذلك؛ في نظره الى مجموعة من العوامل ــ استخدامها في التعبئة ضد السيطرة الدينية» العثمانية
ــ مشاركة الصفوة المسيحية فيها.
ــ ارتفاع العروبة الى مستوى خطاب الدولة مع الناصرية وكذلك بعد وصول حزب البعث السوري الى السلطة. 10
ان مجموع هذه العوامل؛ هي التي يمكنها أن تفسر العلاقة المتوترة التي أقامها التيار القومي؛ بين العروبة والاسلام؛ وهي عوامل سياسية؛ بالدرجة الأولى؛ يغيب عنها أي حس فكري؛ واذا نظرنا الى خطورة النتائج؛ يمكننا أن نفهم جيدا كيف تم التقرير في قضايا حضارية جد حساسة؛ باعتماد نزعة ايديولوجية متهافتة؛ تقوم على أساس البريكولاج مع غياب أي حس استراتيجي. وهذا ما أن يفسر طبيعة هذه القرارات السياسية الفجة والمتسرعة؛ والتي تحولت؛ باعتماد الضغط العسكري؛ الى نظرية فكرية يروج لها كبار دهاقنة أحزاب البعث. لقد تغافل القوميون العرب؛ في صراعهم ضد الامبراطورية العثمانية؛ الامتداد الحضاري العميق الذي ربط العروبة بالاسلام؛ على امتداد أربعة عشر قرنا؛ ولذلك فقد كانوا يهددون الأمن الروحي والفكري والاجتماعي والسياسي… للشعوب العربية»الاسلامية؛ حينما حاولوا فصلها عن جذورها الحضارية التي تمدها بالحياة؛ وكأن أوربا؛ باعتبارها النموذج الذي سعى هؤلاء الى استنساخه في العالم العربي؛ يمكنها أن تنفصل يوما عن امتدادها الحضاري المسيحي؛ بدعوى القومية والعلمانية. لقد صيغت الهوية العربية؛ على امتداد قرون؛ من خلال التداخل والامتزاج بين العروبة والاسلام؛ وغياب هذا الوعي عن الحراك الفكري والسياسي القومي؛ هوالذي أفشل جميع المشاريع الفكرية والسياسة.
ان الفكر القومي؛ بجناحيه اليساري والليبرالي؛ وهو يخطط للعلمانية في الثقافة العربية؛ كان يكتفي باستنساخ النموذج الفرنسي المسيحي على شاكلة أتاتورك في تركيا؛ ولذلك فانه نظر الى العلاقة بين العروبة والاسلام؛ كمدخل لاستمرارية نموذج الدولة الدينية؛ ولتحقيق الرهان العلماني يجب الفصل بين المكونين. وهذا ما يقره الأستاذ الجابري؛ حينما يقول انها العلمانية؛ التي تطل برأسها عاليا من خلال حرص الخطاب القومي على فك الارتباط تاريخيا؛ بين العروبة والاسلام . 11
ولذلك؛ يمكن أن نعتبر أن التيار القومي قد وقع في خطأ منهجي مزدوج ــ من جهة؛ في علاقة بمفهوم العلمانية ذاته؛ الذي لم يتجاوز تلك الشحنة النفسية العدائية ضد المكون الديني؛ باعتباره أفيون الشعوب من منظور ماركسي مذهبي؛ أوباعتباره ترسيخا لسلطة رجال الدين الاكليروس من منظور فرنسي. وهذا ما يطلق عليه الأستاذ محمد أركون العلمانوية la cisme باعتبارها تجربة ارتبطت بالثورة على الاكليروس؛ الذين كانوا يوظفون سلطة الكنيسة لفرض هيمنتهم على الدولة والمجتمع؛ ولذلك كان رد الفعل ضد الدين عنيفا؛ بحيث تم تهميشه في الحياة المدنية؛ وهذا النموذج هوالذي اعتمده أتاتورك في تركيا؛ وحاول الفكر القومي استنساخه في العالم العربي. ولذلك ينطبق عليه ما قاله الأستاذ أركون في حق النموذج التركي ان تجربة تركيا العلمانوية قد ذهبت بعيدا في جرأتها؛ لكنها لم تكن في الواقع الا كاريكاتيرا للعلمنة؛ رافقته بعض التطرفات؛ كما حدث في فرنسا سابقا؛ لكن الشعب التركي لم يستجب لهذه التجربة التي دوخته؛ مما يفسر العودة الدينية العنيفة 12 ــ ومن جهة أخرى؛ في علاقة الثقافة العربية بالدين الاسلامي؛ وهي العلاقة التي شكلت لقرون الهوية العربية»الاسلامية. والخطأ المنهجي الفادح الذي وقع فيه القوميون؛ هومحاولتهم تفكيك هذه الهوية المنسجمة؛ وفصلها الى ما هوعربي وما هواسلامي؛ وكأن كل جماعة اجتماعية بامكانها أن تصوغ رؤيتها للعالم ونموذجها الفكري le paradigme على مقاسها الخاص؛ حيث تدمج ما تريد وتقصي ما لا تريد. وهذا ان دل على شيء فانما يؤكد؛ أن الايديولوجية أخطر أفيون على الشعوب؛ يمكنها أن تبني الحقائق بطريقتها الخاصة؛ حتى ولوكان هذا البناء لا يستجيب لأبسط مقومات التنظيم الهندسي. وبالنظر الى هذا التهافت المنهجي؛ الذي وقع فيه الفكر القومي؛ فان كل ما أنتج من خطاب فكري وكل ما وقع من ممارسة سياسية؛ في علاقة بقضية الانفصال بين العروبة والاسلام؛ يعتبر جزءا من هذا التصور المنهجي الفاسد؛ وذلك لأن المكونين معا؛ ظلا لقرون بمثابة ركنين مؤسسين للهوية العربية الاسلامية؛ ولم ينفصلا رغم قوة المؤامرات التي حيكت منذ قرون وما زالت الى حدود اليوم. لقد وضع الأستاذ محمد عابد الجابري أصبعه على مكمن الجرح؛ حينما تنبه الى الخلل الذي اعترى المشروع القومي العربي؛ بطموحاته الليبرالية واليسارية؛ سواء في علاقة برهان العلمانية أوفي علاقة برهان العدالة الاجتماعية؛ وذلك لأن هذا المشروع لم يكن على تمام الوعي بالعلاقة المتشابكة بين العروبة والاسلام؛ ومن ثم فانه كان يبحث عن حتفه من دون وعي منه؛ حينما فكر في اقصاء الاسلام؛ كمكون أساسي من مكونات الهوية العربية؛ باعتماد تأويل ايديولوجي متهافت لمفهوم العلمانية؛ في علاقة بالأدبيات الماركسية المصكوكة؛ أوفي علاقة بتصور الثورة الفرنسية؛ الذي لا يمكن تعميمه على جميع الشعوب والأمم.
على سبيل الختام
اننا ونحن نسعى الى مقاربة اشكالية العلاقة بين العروبة والاسلام؛ من المنظورين القومي»البعثي والاسلامي»الحركي؛ لم نكن نسعى لزرع بذور الشقاق بين التيارين؛ لأننا على وعي تام بطبيعة العوامل الذاتية والموضوعية التي خلقت هذا التوتر. ولكن؛ كنا نراهن؛ بقوة؛ على الدينامكية الجديدة التي خلقها الربيع الديمقراطي العربي؛ والتي بامكانها أن تدفع التيارين معا الى مراجعة تصوراتهما؛ بخصوص العلاقة بين العروبة والاسلام في مشروعيهما؛ وذلك من منظور تصالحي؛ في منأى عن أي نوع من التفكير ــ عبر رد الفعل؛ كنموذج ايديولوجي مهلهل لا يمكنه أن يقاوم حركية الفكر والتاريخ.
لقد آن الأوان اليوم؛ لكي يتحول التيار الاسلامي الى خدمة أجندة في صالح وطنه وأمته؛ من منظور استراتيجي واضح المعالم؛ لأن الشعوب العربية التي قادته الى السلطة؛ في انتخابات حرة ون