النجار
طارق علي شريف
في ظنه قد تخلص من صفعة أو صفعتين على خديه، واستدل على ذلك، حركة يديّ والده بانطلاقتهما إلى الأمام دلالة على غضبه وعدم رضاه عنه، فانفجر كالرعد صائحاً
ــ قم. قم. لا بارك الله فيك.. اذهب ولا تجيء.
سمع صوته وانتبه إليه جاره بائع صابون ـ حلب ـ شكري، واستفسر منه، بطريقة فضولية
ــ ماذا حصل يا حاج. خير إن شاء الله…
لوح مؤشراً نحو ابنه حميد . منزعجاً
ــ عاق.. لا يصلح للحياة.. فيه بذرة شيطان..
استرشد موضحاً موقفه من حملة والده المتكررة عليه في خلال هذه الأيام من الأسبوع المنصرم.. وابعد عن ذهنه فكرة الإساءة والتنصل من تبعات مضت وأنكر حدوثها. ولكن ما لم يتوقعه إطلاقاً هو أن يغضب ويكره أبوه وجوده. وسيتعين عليه فصاعداً البحث عن عمل أو مهنة تلاءم قدراته المهنية.. ويتخلص من كابوس عمله في دكان أبوه..
اعتمد على تصرف مسؤول من أبوه في سرعة انتشاله من الوحدة التي أوقع فيها نفسه، فهو أدرك بعد فوات الأوان، كثرة أخطائه حين باع ضميره للشيطان، وخان الوديعة والوصية، واقسم أن يسلك سلوك الأوفياء والأخيار..ولقد وجد نفسه وحيداً أمام خيار ارتضاه له أبوه رغماً عنه، والبسه ثوب الرجولة دون علم منه.
قاده كخروف مولود حديثاً منقطعاً عن القطيع، وسلمه بيد النجار سيد طه . وأشار عليه
ــ ليتني استطيع خدمتك.. اتركه بيمينك أمانة.
اسر في إذن الحاج علي . قولاً جعله ينتفض ويشد على يده ويقول له بابتسامة عريضة
ــ ليكن.. ليس في الإمكان أسوأ ما كان.
فقال سيد طه متهكماً
ــ كل شيء ممكن.
فقال الحاج باسماً
ــ لا داعي للتشاؤم فاني اكره من يضعه في قاموسه.
قال بعطف
ــ سأحاول، ولكنني لست واثقاً من النتيجة..
أمر السيد أن يذهب حميد إلى زاوية الدكان ويعمل على تنظيف طاولة العمل ويعزل أدوات النجارة، والتمعت عيناه ببريق أمل وقال
ــ لعله يفتح لنا صفحة جديدة؟
فقال الحاج بحزم
ــ نعم صفحة جديدة؟
قالها وغادر المكان وفي طريقه سلم على حارس بوابة مركز شرطة باب لكش، ووجد في قلبه ارتياحاً شاملاً وشعوراً بالتحرر، وقطف ثمار جهد أظناه في سبيل إصلاح ابنه العاق.. ومن علامات الرضا تجاهه اضمحلال كراهيته، والتوجه إلى الله أن يصلحه ويرشده صواب عمله الحالي بسبيل السير حثيثاً في طريق التغيير.
وفي أول تجربة خاضها حميد معتمداً على بعض ما يمتلكه من دهاء معروف عنه، استمر يعقد صداقات مع العمال الأربعة الذين يعملون في ورشة السيد، محاولاً استمالتهم وكسب ثقتهم به. إذ لم يجد وسيلة إلا وأشركهم فيها، داعياً إلى خدمة معلمهم بطريقة أو أخرى تلزم الأخير إلى اتخاذ موقف مرضي تجاههم، ينعكس إيجابا لإغراض العمل.
ولأول مرة فكر حميد بالزواج، ولما لم يبلغ من العمر ستة عشرة عاماً وأصبح شغله الشاغل، وقرر أن ينجح فيه، بعد أن أثير موضوع الفشل مع أبيه في دكانه الضيقة، عدة مرات.. وأشار على نفسه إن يتقدم خطوات مسرعة في هذا الجانب، وعبر سلسلة من التكهنات والأحاديث ارتبط اسمه على لسان بعض صغار المحلة، ووصل بأحد العمال إن يوصله بالثعلب، ويتندر عليه بالقول همساً
ــ أنت تحمل كل المعاني النادرة،وصلت السلم وأرجو الصعود ببطء.
قال حميد وقد صطدم، واعتبر هذا القول من باب الطعن
ــ لم أتمنى لك الهبوط، ولكن السرعة بالطيبة..
فقال رضوان بخجل
ــ المعذرة، فأنت تبدو لي قوياً.
وعقب خليل بضجر
ــ ولكنك تمتلك.. وصية..
ــ سأتوصل إلى حل ربما لسنوات، وأتدبر أمري في مسالة الحياة القادمة.. ومضى إلى ركن الورشة، فتبعه الآخرين على الفور، وتألم السيد من المشهد الذي أوقع حميد نفسه في الفخ وسار فيه على عجل، وأشفق على جيله الذي ينتسب إليه منذ عام 1889م واعتبر جيل حميد والفارق بينهما 79 عام من السنوات الغير بعيدة. وجاءت الأيام لتثبت للسيد خطل أفكاره وممارسات سنوات حياته الهادئة، ووضح لديه قيام عاصفة عاتية تجتاحه، وجعل حميد يشير إليها بإصبعه مهدداً وقد غلبت انفعالاته وأحجمته عن الاسترسال والنطق، فصاح متحدياً
ــ من الأفضل لك أن تستند إلى قانون العمال وهو بهذا يردد مطاليبه والعمال بمعيته حول ساعات العمل العشر التي فرضها عليهم. ولكن السيد اجتاز الأزمة، وضحك ضحكة باردة آلمته، وفند مزاعم حميد ونصحه بعدم الخروج عن المألوف وإلا سيشكوه إلى أبيه. وسيطرده غير أسف عليه، وسأله
ــ حميد، تكلم. من ادخل في دماغ العمال، الفتنة، فتنه
ساعات العمل؟
فقال بإصرار
ــ أنت كثير المخاوف..
فهتف السيد بيأس
ــ لا يجوز أن تنظر إلى هذه الأمور، بمنظارك حتى تفلس.
ــ ولكنني مصمم لوحدي..
فانزعج السيد وقال
ــ لك.. بل من حقك أن لا تصارحني بما في قلبك.
ــ أني أتعلم كما تعلم..
ــ أنت بعد خمسة أعوام؟ أنا مطمئن إلى مستقبلك..
ــ لم اسمع هذا القول من قبل. في نيتك طردي..
ــ يجب والحالة هذه، أن تتعلم من مرارة السنين.. وأثار حميد إلى صدره فقال
ــ إذن فأنت جاد؟
فقال السيد
ــ أراهن على انك ستتزوج في نهاية العام القادم.
ــ هذا يتطلب مني إتـمام خدمـتي العسكريـة.. وربمـا بـعد سنتان أو ثلاثة.. يعني عندما يصل عمري إلى 23 عام أو أكثر.. بين اليقظة والحلم تسارعت قدميه في يوم ماطر واجتازت حمام باب لكش للرجال، مستغلاً ذهاب وغياب السيد فترة طويلة، في مستودع بيع الأخشاب في سكلة . الميدان، وصارح العم خليل بائع الأغنام أنه يعتزم بعد الانتهاء من بناء دكاكينه الثلاثة، أن يؤجرها ويعمل على أنشاء أول ورشة موبيليا ويستقل نهائياً، عن معلمه، ويتوكل على الله ويتزوج بامرأة تطرق قلبه بقوة. تعهد بينه وبين الله، أن لا يعتمد على معلمه في مساعدته، في حال عمله الجديد، واستقلاله التام، رغم زياراته المتكررة له. فكان يلجا الى سوق الجملة ويشتري مبتغاه، من مواد النجارة بالتقسيط من الاخ فرج.. ولم يلتفت إلى استهزاء، السيد وكثرة هزله بهدوء. مضت 25 عاماً على حميد، تفرد خلالها في العمل وتزوج وأصبح جاراً للسيد يقابله ويشاطره مقومات المهنة.. ولكنه لن ينسى أبداً مساهماته في تحريض العمال عليه، وتسال كيف زارته أحلام مضطربة، على حد قوله، زادته كآبة ومرض. ولم يحاسب نفسه بعيداً عن الناس، قريباً من الله.
AZP09