الناصرية والإشتراكية وتومان البصري – نعيم عبد مهلهل

آلن ديلون وعطر الأهوار

الناصرية والإشتراكية وتومان البصري – نعيم عبد مهلهل

في مدينة البصرة ، الواقعة جنوب القلب العراقي في محاذاة الحدود الميثولوجية لكواكب عطار وزحل ونبتون ، كان يعيش زنجي اتى به اجداده الذين سكنوا المكان بعد ان اعلنوا توبتهم عن ثورة اشعلوها في العصر العباسي الثاني تسمى ثورة الزنج ، هذا الزنجي المتأفرقة ملامحه في كل شيء عدا روحه وشرايين دمه ففيها يسري بمحبة ماء شط العرب ، وحتى النخيل في التنومة لايطرب الى نغم ناي إلا أنغام نايه .

كان يسمى تومان البصري ، وهو ثاني مسمى أحببته وقد التصقت به المدينة لقبا والأول كان السندباد البصري .تومان هذا حل ضيفا على شارعنا في الناصرية في حفل ختان اتى فيه معزوما لواحد من معارفه ، فكانت الحفلة في الشارع ، وكنت صبيا وقتها حين اسحرني العزف ورقص الرجل الذي التصقت دشداشته بجسده فبدى رقصه ممتعا وعجيزته خلفه تهتز مثل ذيل طاووس كبير الحجم ، وكان يعزف ما يختاره هو . وعندما اصر احدهم وكان مفوض أمن ويخشاه الجالسون أن يعزف ما يتمناه هو انفجر تومان في وجهه قائلا : لسنا عبيدكم ايها التيوس .مرت الحادثة بسلام لأن المفوض كان اميا ولم يفقه معنى كلمة تيوس . أتذكر هذه الحادثة وقد كثر التيوس في حياتنا ، وبالرغم من اننا احرار ابناء احرار في ثقافتنا وسلوكنا واحلامنا وتظاهراتنا وفقرنا وخبزنا وعلاقاتنا الغرامية إلا انهم يصرون على أن نكون نحن العبيد ازاء هياكلهم الورقية لشعورهم أنهم بثراء الراتب واساطيل السيارات والشركات وشراء العقارات والمناصب وتأسيس المولات وشركات الانتاج والابراج العالية وشراء اللوحات الغالية الثمن والاحجار الكريمة وفساتين دور عروض الازياء والسفر الى باريس وروما وبرلين ولندن متى شاؤوا ، بعقال او جبة او افندية أو بشورت قصير أو نقاب .

نعم في داخلهم يعيش التباين وينظرون الينا بأبتسامات ماكرة على اننا اصدقائهم وهم يعلمون جيدا أن الصداقة لن تكون واجبة وحقيقية بين انسان يملك  500 مليون دولار وآخر لايملك ثمن جهاز تكييف يقيه لهيب تموز ولايستطيع ان يشتري لابنه قميصا من قمصان نادي برشلونه يحمل الرقم عشرة الذي يحمله ميسي. تلك المفارقة بين فلان الثري والمسؤول ورجل الاعمال والشيخ والامير والملك والنائب البرلماني ، وبين الفقير الموظف وعامل الاجور اليومية وعتال الميناء واطفال المناديل الصحية في تقاطع الطرقات هي من تبقي استعادة غضب ثورة سبارتكوس وزنوج البصرة والقرامطة قائمة ـ وربما تنفجر فيها حوصلة التأريخ وتحدث فوضى تلك العبارة التي اشعلتها كلمة سبارتكوس الروماني ذات يوم :لن نكون سائسي خيول لوجوهكم الكئيبة يا سنتورات روما .وكما قالها تومان البصري لمفوض الامس :تحت لسنا عبيدكم ايها التيوس.!

سيد متأنق

ارتباك العلاقة بين السيد المتأنق الذي يقول لشعبه عبر شاشة التلفاز ان البدلة التي يرتديها الان ثمنها 3 الاف دولار كما فعلها أحد النواب ذات يوم في لقاء رمضاني في احدى القنوات  ، وبين مواطن هده الجوع والبطالة ويشتري بدلته من بالات سوق قريب من نصب الحرية تم تفجيره بانتحاريين ارهابيين قبل اسبوعين ، وتلك مفارقة ان تباع اللكنات قريبا من النصب الذي اراد فيه جواد سليم أن يقول للشعب ان الثورة تقتل الجوع قبل اي شيء اخر.

هذا الارتباك يضعنا عند حدود استعادة شكل الربيع العربي مرة اخرى ، الذي يبدو انه ليس ربيعا للجياع بالرغم من ازالة دكتاتوريات عتيدة بل هو ربيع لانعاش طفيلين جدد وتكفيرين قساة وجهلة كما في داعش والقاعدة وغيرها .

تلك الاستعادة تحتاج الى فقه وثورة فكرية وديالكتيك يعيد للتأريخ صيرورة اخرى مستفيدين من فشل الثورة البلشفية الاولى في 1905 .ولكنهم استفادوا منها في ثورة اكتوبر 2017.

واي كانت نتائج ثورة اكتوبر إلا انها درس لأيقاظ الوعي واعادة تلك النغمة السحرية الثائرة في صوت ناي تومان البصري .

رواية ذكريات

يقول بورخيس :رواية الذكريات لابد ان تكون مثيرة في كل الأحوال .

وحتى تروي عليك أن تجد مدخلا بعيدا تأتي اليه لمقدمة الرواية ، عندما كانت تسكنك وجوه السينما ، فلربما يكون وجه انثى مدخلا لها حتى عندما تظهر في ذلك الفيلم عاشقة وتمارس الغرام مع اسطوري آخر يدعى آلن ديلون.

ولهذا يرقد الآن مدخلا لواحد من روايات الأمس التي لم تكتمل بسبب دعوتك للجندية في حرب ظلت لسنوات لا تأتي بشخوص روايتها غير اؤلئك الذي يركبون قطارات النعوش الى السماء.

تجمعنا نحن ثلاثة معلمين في عطلة الجمعة وتواعدنا لمشاهدة فيلم تقع احداثه في الريف الفرنسي اثناء الحرب العالمية الثانية نسيت أسمه وابطاله ثلاث من عمالقة السينما الفرنسية والايطالية آلن ديلون وسيمون سونريه واورنيلا موتي..

ألهبنا الفيلم بدهشة السحر بين جمال الممثلة الايطالية موتي وسحر ذكورة اجمل ممثل انتجته السينما العالمية الفرنسي الن ديلون الذي يوم اطلق في اسواق الموضة والمكياج عطرا فرنسيا للرجال بأسمه وكنت انا من بين الثلاثة الذي شاهدوا الفيلم الاقرب الى باريس واشتريته وفاء لذكرى معلمين كانا معي في تلك المدرسة الواقعة في قلب الاهوار وأحدهما يعتقد أن من صور يوسف الجميلة والمتكررة في كل قرن ، الن ديلون يمثلها في القرن العشرين مع الاختلاف ان يوسف كان نبيا وان ديلون كان ممثلا سينمائياً ثم توقف عن هذا التشبيه احتراما الى رأي اشبه بالفتوى اطلقه قارئ المجلس العاشوري الذي كان يجيء كل عام ليقيم حزن محرم في قريتنا عندما سأله المعلم عن شرعية هذا التشبيه.

فقال الشيخ :هذا التشبيهُ حرام ثم حرام .

وبالرغم هذا ابقينا اعجابنا بجمال آلن ديلون ورحنا نحضرْ جميع افلامه ومنها تلك التي مثلها مع رومي شنايدر الممثلة النمساوية التي اقامت معه علاقة عاطفية طويلة وكذلك الممثلة كاترين دينوف وارسولا اندرسن في فيلم الشمس الحمراء مع جارلس برونسن والن ديلون وهذا الفيلم شاهدناه اربع مرات ، ومازلت احن الى رؤياه واكون سعيدا حين اصادفه معروضا في قناة المانية.

ذات يوم سجل في مدرستنا تلميذا اسمه ( إلوين دلول ) فصرنا كلما نراه يركض وكان الطفل ( أجلح املح ) نصيح عليه بسبب القرب اللفظي بين اسمه واسم الممثل الفرنسي : الن ديلون شخبارك .

واستمرت تلك التسمية تمشي معه طوال السنوات فيما ابقينا نحن بحثنا عن اي فيلم جديد لنحضره .

الآن وحدي بين الثلاث من يستطيع ان يرى باريس وقتما يشاء وفي كل مرة اشتري العطر الذي يحمل اسمه لأشم فيه عطر الاهوار وتلك الصور التي كانت تسحرنا بالأماني للوصول الى باريس يوم كنا نعلق صوره بأناقته الجذابة على جدران القصب في بيت سكن المعلمين واجملها تلك الصور التي يبادل فيها القبلات من الفم مع كلوديا كاردينالي وكاترين دينوف ورومي شنايدر واورنيلا مينوتي ، فكنا نحسده ونخبئ شهيتنا لتلك الشفاه الانثى ثم نعود الى لحفنا نختبئ بها ونحن نتمنى باريس وليلها الساحر.

وهكذا عاش النجم معنا في احلام ليالي الاهوار وعطرها ،وربما هذا الاسم المغري في امنية التشبه به قد لازمت التلميذ ( إلوين دلول ) وعرضته الى موقف كاد فيه يرسب في درس الاسلامية عندما اتته درجته صفرا يوم ذهب الجبايش ليؤدي امتحان البكلوريا وبسبب ارتباكه كتب اسمه على الورقة الن ديلون وليس الوين دلول …

يوم اعلنت النتائج ووجدنا الوين مكملا بالإسلامية بدرجة صفر لغيابه .اقسم لنا ( إلوين ) بألف إمام وعلوية وسيد بأنه امتحن وكانت اجابته كاملة.وقتها تبرع احد المعلمين لان له علاقة بمدير مركز تصحيح الدفاتر الامتحانية ( الكونترول ) فرجاه التأكد من دفتر التلميذ.

في اليوم الثاني جاء الينا المعلم وهو يكاد ينفجر من الضحك وقال :يا جماعة الوين درجته   98 بالإسلامية بس هو كاتب اسمه على الدفتر الن ديلون وليس إلوين دلول.

مشاركة