الموهبة الشعرية الضائعة وسط العبث – نصوص – محمد عباس الكتبي

الحصيري وكأس القصيدة ورزاق إبراهيم حسن

الموهبة الشعرية الضائعة وسط العبث – نصوص – محمد عباس الكتبي

في كتابه ” الحصيري وكأس القصيدة ” لمؤلفه رزاق ابراهيم حسن الذي حقق فيه ما كان يطمح اليه بتأليف كتاب عن صديقه الشاعر عبد الأمير الحصيري الذي رحل مبكراً ، حيث كانت له وإياه صحبة سرت بحلوها ومرها  في عمق بدنه وعقله حتى أنه يعيش صراع حقيقة موته إسوة بالكثير من زملائه ويجسد ذلك في قوله ” … بعض الأحيان أجد نفسي مدفوعاً الى أحد المقاهي التي كان الفقيد العزيز يمر عليها أو يجلس ويقيم ) فيها متوهماً إنني سأراه وأنه يناديني وأنه قد يصادفني خارجاً من المقهى أو داخلاً اليه أو ماراً في شارعه، على الرغم  أني من الشهود القلائل على موته إذ حضرت الطب العدلي ورافقت جنازته من بغداد – كربلاء – النجف الأشرف وشاهدت دفنه ولم تكن الليلة التي دفن فيها قابلة للنسيان فقد دخلنا معه المقبرة في أشد أوقاتها ظلاماً وكان الظلام يمتزج بالفقدان والموات ويزداد بالفقدان والموت ويزداد كثافة وسعة نفاذ ومعه تتسع صورة وملامـــح المحمول في التابوت في الذاكرة وفي دواخل الأعماق وفي العلاقة بيننا وبين المقبرة ، نعم فارق الحصيري الحياة لكنه ما يزال صوته يتردد في المقاهي التي كان يرتادها و( يقيم) فيها التي مازال منها موجود ومنها أزيلت لتحل محلها أبنية أخرى فجلاّسها لن ينسوا ذلك الصوت الذي كان حاضراً تردده الجدران والأزقة والشوارع التي  كان يمر فيها ، إنه ليس مجرد شاعر وطاقة شعرية كبيرة ، إنما كان موضع إثارة وتساؤل واختلاط بين الاحترام والسخرية للجاهل والعالم والفقير والغني والصغير والكبير والريفي والمدني والمرأة والرجل ، هو من كان يسكن ويجوب المقاهي والأرصفة والحانات ويواجهك في القريب والبعيد عنها والظاهر والمستور في زوايا الأزقة والشوارع الفرعية والمخبوء في البنايات والدهاليز، كان في حياته وتصرفاته يدل على بعض التواصل بينه وبين الصعاليك ، يطلب في التشرد والشوارع والمقاهي والحانات ما يعينه على معايشة ما هو عليه من ( إهمال ) لحياته ومن ( عبث ) بمظهره الخارجي ومن عدم مبالاة بما يواجهه من إساءات وسخرية ، رغم كل ذالك  فهو في شعره يتعامل بكبرياء واعتداد بالذات ونرجسية (محببــــة )  كأنه  بموقفه هذا يجعل من الشعر مواجهة لكل من ينتقد ومن يسخر منه وعلى من يجد فيه خروجاً على التقاليد والمواصفات السائدة والمطلوبة ، لقد أحب الحصيري بغداد كثيراً وهو الذي جاء إليها عام 1955 شاباً يافعاً من النجف الأشرف  – المدينة المقدسة – التي ولد وترعرع ودرس فيها ، و(على قول) المؤلف رزاق ابراهيم حسن  كنت أنا وإياه نسكن بمحلة واحدة لكني لم أتعرف عليه إلا في بغداد ، لقد كان لوجود الحصيري في المقاهي طقوس معروفة وأنت في باب المقهى تدرك وجوده ، صوته يتعالى من الزاوية التي اعتاد ها ركناً دائما لا يتغير ولا يقربه غيره لأنه ركن الحصيري ، اللغط يكتشف عند الاقتراب من زاويته عن أحاديث وقراءات شعرية وكتب ومجلات متداولة وقهقهات فصوته متميز بضخامته وسيطرته على الأحاديث وحيث تتقد ذاكرته بما هو شعري وغير شعري وبما هو متداول وغير متداول وأن أغلب قصائده كتبت في المقاهي وأنه يتعامل مع الخمر على أنها اختياره في الحياة وهذا الاختيار ينطوي على اختيار المقهى أيضاً وأن الحلقات التي يتوسطها في المقاهي كانت تسحره وتمسك به وتدفعه اليها فينقاد طيعاً مستجيباً لها وحاضريها من الذين يهمهم أن تكون المقاهي مكرسة للاهتمامات الأدبية وذلك ما يزيد الحصيري اعتزازاً وانبهاراً بشاعريته . لقد حفر الحصيري اسمه في ذاكرة بغداد من خلال فتحه الأبواب لكل الناس والمقاهي والحانات والشوارع والأرصفة لقد جعل الناس وبامتياز  أن يتحلقو حوله بما يصدر عنه إن في صحو أو في سكر ، إن في صمت أو كلام ، إن في وقوف أو حراك ، وبما ينشد من قصائد ويجعل منها في حقيبته ، لقد جعل طريقه مفتوحاً على الحانات ولم يعرف بحانة واحدة فكل حانة كان هناك من محبيه  يدفع شرابه وطعامه ، لكنه عرف ببعض المقاهي ، ومقهى البلدية واحدة منها وقد  جاء على ذكره الشاعر سامي مهدي من خلال ذكريات ، وذكر أيضاً من كان على الغالب من محبيه دائمي الجلوس معه منهم خالد يوسف وطارق ياسين وعادل عبد الجبار وآخرون في الستينات وفي أواسطها كان ينظم اليهم عمران القيسي ، سامي محمد ، فالح عبد الجبار ، وتكبر هذه الحلقات أيام الجمع والعطل الرسمية والعطل الصيفية حيث يكثر توافد الأدباء من المحافظات هذا في مقهى البلدية وعند الانتقال لمقهى البرلمان كان يطل على زملاءه رغم أنه اتخذ من مقهى حسن عجمي مقراً دائماً لجلوسه ، يقول الشاعر حميد سعيد عن الحصيري بأنه صاحب ( مواسم في جميع مقاهي المنطقة والمقصود شارع الرشيد إذ كان يتنقل بينها .. فإذا ترك مقهى واستقر في مقاهي أخر ، فأن غارته لا تنقطع عنها جميعاً ، أما الشاعر والناقد مالك المطلبي فقال عن غاراته تلك للمقاهي أنها أدخلت في سجل أفعاله الغليظة لتكون منه ( حيوان المقاهي بلا منازع) . هو الذي يصرخ في مقهى البرازيلية ويُغير في البلدية وينام في حسن عجمي ويستيقظ في مقهى البرلمان ، ويهدأ في مقهى الزهاوي ويخطب في مقهى عارف أغا ، ويقايض في التجار المقهى التي تقع في شارع النهر والبيضاء التي تقع في شارع أبي نؤاس .لقد انعكس تأثيره في الأدباء الآخرين وفي الحركة الأدبية عموماً ، فالناقد الشاعر عبد الاله الصائغ يقول عنه ( في قصائد الحصيري نتلمس تمكنه المتفرد المهم  في امتلاك أدواته الشعرية حتى لكأنه مهيأ للوقوف مع رعيل عمر أبي ريشة وبدوي الجيل لولا فارق العمر والتجربة ) أما الشاعر الراحل ” رشدي العامل ” فيقول عنه ( لقد هجسنا منذ لقاءاتنا الأولى معه أنه طاقة شعرية غير اعتيادية تتفجر بين جوانح الشاعر الشاب وأن منظره الخارجي الذي يوحي بإهماله مفجع وحاجة مريرة يخفي أثراً واضحاً بموهبة متميّزة ، وفيما يخص قصائده فأن لغة الحصيري الشعرية تتسم بالحداثة وتتسم الصورة لديه بتركيب وإحياء الصورة الشعرية الحديثة بشكل تكون فيه وثيقة الصلة بالشعر العربي القديم وخاصة الشعر العربي في زمن الدولة العباسية والشعر العربي الصوفي ،  كما وجاء المؤلف رزاق ابرهيم حسن على الشاعر الحصيري ، في منظور المفكر عزيز السيد جاسم بالفصل الثاني من كتابه حيث يشير الى أن هذا المفكر الكبير خص كتابين كبيرين عن الحصيري وشعره وسمح لنفسه وهو الكاتب السياسي المعروف والناقد الأدبي والمؤلف في السيرة والتاريخ والاقتصاد والإعلام لأن يبحث عن المتفرق والمبعثر من شعر الحصيري عند عائلته وأصدقائه ، وأن يضع كل ذلك في هذين الكتابين وقد كتب لكل كتاب مقدمتين تعبيراً عن اهتمامه للشاعر الحصيري واختار لكل كتاب عنواناً الأول (ديوان عبد الأمير الحصيري ) وله عنوان آخر ( شموس وربيع ) واختياره لهذا العنوان ما كان من المفكر السيد جاسم إلا دلالة على الإشراق والخصب ولا يوجد أكثر من الشموس والربيع تعبيراً عن ذلك ، والكتاب الثاني بعنوان ( غزليات عبد الأمير الحصري ) يتوزع الى غزليات ووطنيات وخمريات وحكيمات ، أراد فيه أن يظهر غنى وتنوع شعر الحصيري ، والأكثر إثارة ولفت أنظار ما أقدم عليه المفكر عزيز السيد جاسم بأنه قد وضع اسمه تحت العنوان في كتب الحصيري ، على عكس عادته في كتبه حيث يضع اسمه في الأعلى وأسفله عنوان الكتاب وأخرى أنه اهتم بالغلاف ليضع مرتسم تخطيطي لشخص الحصيري والعناوين بحروف كبيرة وأسفلها عبارة إعداد وتقديم عزيز السيد جاسم ، وفي هذا يعني الكثير من اهتمامه بالشاعر الحصيري الذي ابتعد عن ما هو سلبي كونها من ايجابيات الشاعر وكتب عن سلوكياته وأشار اليها بنقاط تجاوزت الستة فيها عمق الثناء والتقدير للشاعر وكذلك عن الخصائص الشعرية للحصيري وحددها ويستدل على تلك الخصائص الفنية لقصيدة الحصيري العمودية باثنتي عشرة نقطة معززة ومساندة لقدرة هذا الشاعر من لدن هذا المفكر الكبير عزيز السيد جاسم في أن يكتب عن الحصيري بهذا الحب وهذا الاحترام وهذه الحميمية ، هذا الانحياز ما هو إلا تعبير عن محبته للشعراء وتقديره واحترامه لهم ويقول أن على السياسي أن يكون في خدمة الشاعر وفي خدمة حريته ليكون سياسياً مقبولاً وهذا ما تعامل به مع الحصيري الشاعر والصديق ، ومن اعتزاز الشاعر الحصيري الشديد بالكأس والخمرة فهذه قصيدة بعنوان ( فرار الكأس ) ..لك ياكؤوس بمقلتي كؤوس – ويلص عطر صباحك التعيس  .. الخ أبيات يسجل فيها الكأس حضوراً حسياً ونفسياً وأسطورياً ليقول .. ” قسماً بنارك ما حبيت فأنني – بخمور أحفر حانة قسيس ”  ” أفنيت عمري في شذاك مسبحاً – لو كان ينفع عندك التقديس .. عذل اللحاة نفوسهم .. فملامهم – حطب يشد به الهوى المحبوس  ويقول ماهو أكبر عن الكأس .. أبدلت قلبي لو يجوز زجاجة – منها ليخدر عالمي المنحوس ( ص 60 و61 . من الفصل الثالث ) وكذلك أبيات من قصيدة تحمل عنوان ( أصداء الكأس ) حيث يشكو نفسه الى الكأس وضعفه اتجاهه فيقول بجفوني المثقلة السكرى – بنعاس يشفقه السهر … لم يبق بجسمي جارحة – الا وتشب وتنفجر …. فاللفظ شهيد فوق فمي – والنبض بقلبي محتضر  وله في الخمر قول آخر ( الخمر معزوفة في كل ناحية ) لقد كان الخمر والكأس يحتل المكانة الأوسع والأكبر في قصائده بالدلالة عما كان في القصائد من سياسة وعاطفة واجتماع حتى أنه يطرح نفسه السكير الذي تربع على عرش الخمر وأنه يشعر ربما أنه متقدم على أبي نؤاس في ذالك، وفي الفصل الرابع جاء المؤلف على عدد من الأدباء والشعراء في وصفهم للشاعر الحصيري عند تركه الخمر وحاول على ذلك في أحد شهور رمضان لإمكانية تركها نهائياً  لكنه لم يستطع  وأبدائهم لكل ما يعاونه في تجاوزها وأن يكون بأحسن حال وهندام  وكان هذا في النهاية صعباً عليه ، ومن هذه المحاولات ما قام به الشاعر سعدي يوسف والمفكر الكبير عزيز السيد جاسم وآخرون حتى أنهم وفروا له فرص العمل منها مشرف لغوي في الإذاعة والتلفزيون ومن ثم في وعي العمال لكنها تنتهي بالعودة للخمرة والكأس حتى الثمالة ليعود رثاً لا يستهوي الأناقة والهندام مشرداً ولعل اختياره عبارة ( أنا الشريد ) عنواناً لإحدى مجموعاته الشعرية و ( مذكرات عروة بن الورد ) عنواناً لمجموعة أخرى يعزز من تأكيده على هذا الاختيار هو منهج الحصيري المستمر ولن  يتخلي عنه  .  أما في الفصل الخامس فقد تناول الموضوعة الأصعب والأكثر ألماً وغرابة في سيرة حياة الحصيري حين بدأ يبيع قصائده على الأدعياء والشعراء المزعومين ولم يبح بأسمائهم ومنهم من شعراء الخليج ولقاء مبلغ 300 دولار وكذلك عن كتابة الاطروحة حتى أصبح البعض من هؤلاء شعراء يشار لهم بالبنان ، وقد وصل الحال  بقصائده أنها قد توزعت بين المباع والمفقود الذي لم يعثر عليها الى الآن وقد تكون هي أيضاً من القصائد التي نشرت بأسماء لا علاقة لهم بها أو بالشعر كله . وفي الفصل السادس جاء على المثل الأعلى للشاعر عبد الأمير الحصيري وقبلها أشار بملاحظة أن القصائد التي كتبها الشاعر في النجف الأشرف تخلو من أية علاقة فعلية بالخمر وكان في مرحلته الأولى متديناً كوالده ، سواء كانت واقعية أم متخلية وكان شعره ذي نهج سياسي معين ، لكنه تغير عند انتقاله الى بغداد التي كان يأمل أن يبرز فيها كشاعر مرموق ، علماً أنه لم يكن شاعراً مقلداً لشعراء قبله ولم يعطي اهتمامه لشاعر معين وأنه كان مختلف عنهم في الاسلوب وفي العيش ومنهم المتنبي والجواهري رغم أنه كان يشير الى أنه خليفة الجواهري وكذالك كان يصفة آخرون كثر بهذا ، أما في الفصل السابع فقد جاء المؤلف على قصائد الحصيري الغزلية والتي أيضاً أكثر فيها كالخمرة والكأس وهي موجودة بنسبة كبيرة ومنتشرة في كل دواوينه الصادرة حتى أن صديقه الأديب والمفكر عزيز السيد جاسم قد جمعها بعد وفاته بديوان كبير كان بعنوان ( غزليات عبد الأمير الحصيري ) وقد أصدرته دار الشؤون الثقافية العامة لم يعرف عنه الحب لمرأة بعينها لكنه كتب الغزل والعشق والحب ربما على وفق قول صديقه القريب منه المفكر الكبير السيد ” ربما أن عيناه التقت وجهاً جميلاً وربما حلم كثيراً بصدر امرأة ، ربما أدرك حدود رغبته الجنسية الفائرة ، لكنه كان يتراجع الى قفص الخجل الذي يحتويه ، وحقاً كان خجله أقوى خصلة فيه ، لكنه وفي مرة عندما رمقته امرأة حسناء بنظرة بادرها وبادرته بابتسامة بلهاء ساخرة تركته ورائها منكسراً ليقول أبياتاً فيها ..

 لا تزمي الشفاه عني فأني  –  منهما استقي منابع فني  يا ليالي السهاد باغتك الفجر  –  فناديه بالهوى والتمني  ، وعلى وفق قول صديقه الشاعر الصائغ ” أكبر ظني أنها المرة الأولى والأخيرة التي يشاكس فيها عبد الأمير امرأة ” وفي الفصل الثامن والأخير يكتب المؤلف رزاق ابراهيم حسن عن الصورة الاستعارية في شعر عبد الأمير الحصيري  –  شاعر يتحرر بعد الموت من قيود الإهمال والتجاهل وعلى وفق ما جاء في هذا الكتاب، وجاء أيضاً على الكتب التي صدرت عن الشاعر بعد وفاته منها ديوانين كبيرين للمفكر عزيز السيد جاسم ودراسات ورسائل عنه في جامعة اليرموك الأردنية وجامعة البصرة وكتاب للشاعر الراحل صبري الزبيدي ومن الجدير بالذكر أن كتاب  ” الصورية الاستعارية في شعر عبد الأمير الحصيري ) هو من  تأليف الدكتور عمار سلمان عبيد المعموري ولهذا الكتاب من الأهمية والتميز الجامع في إطار الدراسات والمقالات التي كتبت بحق الحصيري وكان فيه مسحاً موضوعياً لجميع ما صدر للحصيري من دواوين ، وكذلك كتاباً صدر أيضاً في بداية هذا العام للكاتب حسن السعدي كان بعنوان ” الجسد المسافر في اللاّزمان  –  عرض سيكولوجي لعالم الشاعرعبد الأمير الحصيري  –  ومنجزه الإبداعي ” .

في الختام لا بد من الإشارة بأن الشاعر عبد الأمير الحصيري الذي غادر الدنيا عام 1978قد كرس حياته للشعر والخمر ، ولقد أضاع الكثير وخسر الكثير بسبب هذه العلاقة ، وخسر حياته بسببها ولم يعطي للشعر ما يستحق من فرص وإمكانات للتعبير عن موهبته وقدراته وصار مثلاً سلبياً لهذه العلاقة غير المتوازنة رغم كونه كان مؤهلاً للوصول الى مكانة عالية في الشعر العربي لثقافته الأدبية وقاموسه اللغوي الثر بشهادة الكثيرين  –   رحم الله عبد الأمير الحصيري وغفر له  –