الموت يعطّل ورشة ومشروع عوني كرومي

8 أعوام على رحيل راهب المسرح ورائد التجديد والحداثة الموت يعطّل ورشة ومشروع عوني كرومي
بغداد – برلين فائز جواد قبل اكثر من ثمانية اعوام وتحديدا في منتصف مايس 2006 فقدت الحركة المسرحية في العراق أحد ابرز رموزها الكبار الدكتور المسرحي عوني كرومي الذي اطلق عليها النقاد راهب المسرح ، وقد رفد كرومي المسرح بعدد كبير من المسرحيات باللغات العربية والكوردية والالمانية وشكل حضوراً أكاديمياً رفيع المستوى وله الفضل بتاسيس مسرح الستين كرسي في شارع الرشيد ببغداد كما قدم ومثل بعدد كبير من الاعمال المسرحية على مسارح قاعة الخلد والرشيد والوطني قبل ان يغادر العراق ليستقر بمدينة برلين بالمانيا وكان الراحل يحن لهذه المدينة كونه نال شهادة الدكتوراه المسرحية منها وتحديدا من معهد العلوم المسرحية جامعة همبولت ودعا رواد وشباب المسرح الى ضرورة اقامة نصب تذكاريا لكرومي وفاء لما قدمه للمسرح العراقي من اعمال كبيرة وكذلك الدعوة وجهت لتسمية احدى مسارح بغداد باسمه لكن الاحتلال والظرف الامني حال دون تحقيق حلم الفنانين المسرحيين العراقيين ، ( الزمان ) ووفاءامنها ولما قدمه الراحل من اعمال كبيرة تستذكر اهم محطات حياة الراحل عوني كرومي العاني يستذكر كرومي في عام 1974 جاءني الصديق الغالي الفنان الكبير ابراهيم جلال رحمه الله ليخبرني عن عزمه على تقديم مسرحية بونتولا وتابعه ماتي للفرقة القومية ولكن بعنوان البيك والسائق وقال ان دور بونتولا لا يمثله الا انت وقدمنا المسرحية في بغداد ودمشق والقاهرة والاسكندرية وقد تحدثت عن المسرحية تفصيلا عند الحديث عن الراحل الاستاذ ابراهيم جلال في بداية حديثي عن المخرجين الذين عملت معهم في المسرح.عام 1970 كان الشاب عوني كرومي وبعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة فرع المسرح وما قدم من اعمال مسرحية تلفت النظر وتثير الاهتمام قد وصل برلين وكنت هناك مشاركا في مهرجان المسرح الاماني.عوني كان في بعثة لدراسة المسرح وكان حلمه وهاجسه برتولد برشت.وكنت قد حجزت مقصورة لمشاهدة مسرحية كوريولان في الـ(بوليز انسامبل) فدعوته لمشاهدة المسرحية معي فهش وبش كما يقولون وركض الى غرفته في الفندق ليخرج نص المسرحية التي كانت مترجمة الى العربية في مجلة المسرح المصرية وجاء الى المسرح ومعه المجلة.حين بدأت المسرحية راح يقلب النص صفحة صفحة ويقرأها سطرا سطرا ليتابع الحوار رغم الضوء الخافت ، كنت اراقب انفعال هذا الشاب وحماسته باعجاب لكن صيغة مشاهدته لم تعجبني فقلت له مداعبا (اغلق النص وشاهد العرض واترك القراءة الى الاكاديمية التي ستدرس فيها ) ومرت سنون اخرى انا اتابع خطوات هذا الشاب في غفلة منه وكانت لقاءاتنا قليلة لكنني كنت امتحن فيه دون ان يدري خطوات اقترابه الحقيقي من فن وفكر برتولد برشت.ومرت سنوات قليلة اخرى وبدأت الاحلام في نفسي تتيقظ وتقترب من الوقائع الملموسة ترى هل تكون لهذا الفنان الشاب معي تجربة لاحلامي المسرحية من مسرح برشت بعد ان حقق لي قبله الرائد ابراهيم جلال المشاركة في مسرحية بونتولا وتابعه ماتي لامثل دور بونتولا.عام 1985 شاءت الصدف ان تكون لعوني كرومي بعد اكثر من تجربة برشتية قدمها وشاهدتها له ببغداد وكان لي رأي خاص بها دون ان يفارقني الاعجاب ببعض تلك التجارب.اقول شاءت الصدفة ان يتقدم عوني كرومي برغبته في اخراج الانسان الطيب في ستسوان بنفس عراقي يحمل بعده الانساني وانه يرغب ان امثل انا دور السقا في المسرحية وهكذا صار الحلم حقيقة وبدأنا التجربة سوية عبر فرقتين المسرح الشعبي وفرقة المسرح الفني الحديث من الرواد والشباب المتحمس لكل جديد نافع في درب الحركة المسرحية.وهكذا وقفت امام مخرج جديد شاب جاء محملا بمدرسة برشت العظيمة هو (عون كرومي) ولكن ليس مشاهدا بل ممثلا ممتلئا بتصور واضح وحماسة كبيرة لهذا الكاتب الكبير فكيف يتم التعامل بيننا من جهة وانا مسؤول عن فرقتنا المسرح الحديث وهي تتبنى مع شقيقتها فرقة المسرح الشعبي تقديم هذه المسرحية المهمة فكانت امامي ومع مجموعة من خيرة فناني المسرح عندنا تجربة غنية رائدة اولا واكتشاف لي لمخرج على صعيد التطبيق الواعي والمبدع الذي يجب ان يتحقق ثانيا.ورحت امثل واراقب كل مجريات (العمل) الذي تولاه هذا المخرج الذي وضعت فيه املا كبيرا للعطاء المثقف وبالذات اعجبت به سلوكا وتصرفا وحماسة كبيرة للعمل الذي يكون مسؤولا عنه او الذي يشارك فيه. وهو ومن خلال مراقبتي له ولا سيما بعد البدء المباشر باخراج مسرحية الانسان الطيب اكتشفت انه بذات السلوك الذي عرفته فيه خارج العمل المباشر هو هنا المخرج أي سيد العمل وبعض المخرجين حين يتولون القيادة المسرحية يتحولون الى النقيض في الطباع والسيطرة . آخر مشاريعه الفنان المسرحي والكاتب قاسم حسن كتب عن آخر مشاريع الراحل ( من مشاريعه الكبرى وفي آخر ايامه كان مشروع ( بغداد – برلين) الذي إستضاف فيه خيرة المبدعين من المسرحيين العراقيين والعرب والأجانب وإلمانيا حيث يعيش ، وعمل عليه لفترة غير قصيرة حتى وافاه الأجل وهو لازال منهمكا فيه ومنسقا لورشاته التي كان ، من المفترض ، ان تستمر بين بغداد وبرلين بوتيرة أعلى من ماهي عليه الآن حيث لازال بعض المسرحيين العراقيين يترددون في ورشاتهم واعمالهم من ذلك المنبع الذي أسسه وعمل عليه الراحل الفنان الكبير عوني كرومي. ولايمكن لأي فنان مسرحي منصف في العراق أوفي الوطن العربي ومتابع للمسرح ، إلا ويعترف ويشيد بمنجزاته العلمية ، وابحاثه الغائرة في صلب العملية المسرحية ،ومسرحياته التي صنع فيها من النجوم في عالم التمثيل والدراما في المسرح والسينما والدراما التلفزيونية، كان عوني بحق رائدآ حقيقيآ من رواد التجديد والحداثة في الفكر الجديد والفن الحديث. رحل مبدعنا الفنان عوني كرومي بصمت ، وبدون سابق إنذار أو ضوضاء وكما ترحل نوارس تشيخوف لتعانق حافات البحار من ميناء الى آخر، عرفته في منتصف السبعينات بعودته الأولى من برلين محملا بالعلم والمعرفة من خلال دراسته وتطبيقاته العملية ، زاخا تلــــــك المعرفة الى زملائه واقـــــــرانه في تلك الفرقة الفقيرة في تكوينها والكبيرة والمميزة في عطاءها ، فرقة المسرح الشعبي عالما ومفكرا يعرف جيدا ماذا يريد وماذا نريد.