شهق الناس
الملتبس بين الإعلام والسياسة – ياس خضير البياتي
منذ أن ظهرت وسائل الإعلام بطابعها المعاصر، ورجالُها في صراع مع رجال السياسة، حتى وإن كان رجال الإعلام في أحيان كثيرة رجالَ سياسة. ويعود التنافر بين الفاعلين في المجالين إلى التداخل بين مجالَيْهما، وهو التداخل الذي قد يتحول إلى تجاذب وصراع في بعض الأحيان، ومع ذلك تبدو العلاقة بين الإعلام والسياسة وثيقة ومتداخلة إلى حد بعيد، لدرجة أننا لا يمكن أن نعزل العملية السياسية عن الأنشطة الإعلامية. ويتضح التأثير على مستويين اثنين: فردي خاص بما يتصل بالقيم والسلوك والاقتناع أو التعبئة، ثم جماعي من خلال التكامل السياسي أو الظواهر الحياتية المختلفة.
إن وظيفة الإعلام تختلف عن تلك المنوطة بالسياسة، ليس فقط من زاوية أفق الاشتغال وطبيعة الرسالة، ولكن أيضاً بحكم طبيعة الغايات المرتجاة من هذا كما من تلك. ثم إن زمن السياسة ليس بالضرورة هو زمن الإعلام؛ فللأولى الاشتغالُ بجوهر المنظومة، في حين أن للثاني الإخبارَ العابر، الذي قد لا يترك أثراً كبيراً في البنية، أو تأثيراً في السياق. من هنا تتجلى أهمية طرح إشكالية الاستقلالية التي قد يدعو لها الإعلامي.
لا يختلف الكثير مما يعملون في مجال البحث الإعلامي والسياسي، في أن هناك جدلية حول موضوع هذه العلاقة التي تأسست بفعل النشاطات النظرية والميدانية، والتصادمات المستمرة ذات الطابع الصراعي، وهو أمر طبيعي في عالم متغير، تغلب عليه المصالح المتناقضة، وتوحش السيطرة والاستبداد والسلطة والمال.
ربما كنت متوجساً في تحليل هذه العلاقة، لكن الكتاب الرصين (الإعلام والسياسة – العلاقة الملتبسة) للزميل د. صباح ياسين، قد أضاف لنا معرفة عن هذه الجدلية الملتبسة بينهما، من زاوية التجربة الميدانية، ورؤية الباحث العلمي، لتشكل عمقاً في تفكيك هذه العلاقة، وإعادة تشكليها بطريقة علمية، بعيداً عن هذا الالتباس النظري. وهو ما يجعلني هنا راصداً ومحللاً لأفكار الكتاب أكثر من كوني مستعرضاً ناقداً له، فهذا مجال آخر، ورؤية وظيفية مختلفة.
والمؤلف منذ البداية يحذرنا من (الانسياق وراء القناعات المجردة، أو العواطف السائدة عن تلك العلاقة البالغة التعقيد والتشابك بين الطرفين، هي علاقة يصعب تحديد أبعادها، في الوقت الذي تتواصل فيه عبر التفاعل والتأثير المتبادل من دون توقف)؛ بهدف (الإحاطة الموضوعية بمشكلة الالتباس المفترض، ولضمان سلامة التناول المنهجي). لذلك تناول هذه الظاهرة بشكل تكاملي من خلال موضوعات مختلفة ولكنها مترابطة، للوصول إلى الحقيقة، وفك ألغاز هذه العلاقة، وإعادة ترتيبها بمنهج التفكير الناقد والموضوعي.
هناك موضوعات مهمة في الكتاب تبحث عن هذه العلاقة الملتبسة، أبرزُها البحث عن اختراق البُنى الثقافية للمجتمعات، وفرض السيطرة والهيمنة على العقول من خلال البث الفضائي الذي (يهطل مثل المطر عبر الأقمار الصناعية)، وعلاقة الإعلام بالمخيلات السياسية، ومركزية العولمة والسيطرة على طرق نقل المعلومات، وتحليل المشهد العربي وتناقضاته، وأزمة الانتماء والتمويل في الصحافة العربية، والإيدلوجية والسلطة والإعلام، وفن ترويض الإعلام، لأن السياسة (كما هي الحروب، تمارس عن بعد، وكما يمكن اليوم إرسال الصواريخ إلى مناطق تبعد عن انطلاقها بواسطة برامج علمية معتمدة على معلومات مسبقة، أو بمساعدة منظومة من الأقمار الصناعية، فإن الحملات الإعلامية تنظم وفق برامج دقيقة، تحمل صوراً وهمية، ولكنها تصيب الهدف)، بمعنى أن السياسة أضحت توظف بشكل مبرمج طاقة الإعلام من أجل تحقيق غاياتها.
ويستنتج ياسين أن المعركة حُسمت عمليّاً لصالح السياسة، فلم يعد أمام الإعلام إلا خيار الانقياد إلى (المرشد السياسي) وتنفيذ أوامره! إنها عصبية من نوع آخر، تحمل بصمة استبداد القوة السياسية، وهو السبب الذي يجعل المسؤولية المهنية تتراجع في ترتيبها من ناحية الأهمية في الرسائل الاتصالية، حيث المصطلحات الإعلامية تتغير حسب توجهات السياسة، فيتحول العدوان والاحتلال إلى تحرير، والحصار والتجويع إلى محاولة ضغط وتصويب! والمصداقية (ستار مضلل، تخفي وراءها نوايا مدمرة، حيث أصبحت التقنية الحديثة وسيلة إلى ممارسة التحايل بالإخفاء والتزوير، لاستبدال صورة بغيرها.. وتم إنشاء علاقة قائمة على الاحتواء بين السياسة والإعلام، وعلاقة قائمة على توظيف السياسة للإعلام وليس العكس).
وحسب الكثير من الباحثين، لا يمكن تصوُّرُ العملية السياسة بدون عملية تواصلية موازية لها أو قائمة بصلبها، لأن العلاقة بين طرَفي المعادلة هي علاقة جدلية بكل المقاييس، تختلف دائرة التأثير بينهما باختلاف الأنظمة السياسية السائدة؛ فالنظامان، أي الإعلام والسياسة، كلاهما يتأثر بالآخر ويؤثر فيه، وإن كان التأثير الذي يمارسه النظام السياسي على نظام الإعلام في البلدان النامية بشكل خاص، أكبرَ من تأثير الإعلام على النظام السياسي. مع أهمية التذكير بالعلاقة التاريخية التبادلية بين الإعلام والسياسة، حيث كانت للسياسي الأرجحية في ميزان العلاقة، بينما أصبح الإعلام اليوم هو الذي يقود ويدير السياسة، وأصبح القرار السياسي ردةَ فعلٍ على حملات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. وربما تتفوق حملات التكنولوجيا الوسائطية في فاعليتها وتأثيرها ومردودها على وسائلَ تقليدية كالتظاهرات والاعتصامات.
تبقى أهمية الكتاب، في ثراء معلوماته، واتساق موضوعاته المتنوعة، ولغته العلمية الرصينة، والتجربة التكاملية للمؤلف كسياسي ودبلوماسي وإعلامي وأكاديمي، مما أضاف نكهة متميزة في مساره الفكري، ودراما حبكته، وفي تسلسل أحداثه المنطقية، وحداثة فكرته وبنائه الرصين، ومنهجيته النقدية والتحليلية لتفسير الأفكار، فتأسست لنا بعد قراءة الكتاب منهجية واضحة لفهم هذا الالتباس بين السياسة والإعلام و(الإفصاح عن القواعد المنظمة للعلاقة بين الطرفين).
لكنني كنت أتمنى أن يكون الكتاب مدعماً بالإحصائيات التي تقنعنا بمنهجية التحليل، وأن يحتويَ على استشهادات من الواقع العملي، خاصةً وأن المؤلف يمتلك تجربة ثرة، وحضوراً قويّاً في المشهد السياسي والإعلامي في العراق في فترة زمنية طويلة ومهمة، وريادة متفوقة في أسرار العمل ودهاليزه.
وبعدُ، فالكتاب يفتح لنا باب جدلية النقاش المستمر، ويفتح أفقاً للتفكير الجاد في العلاقة الملتبسة بين السياسة والإعلام، والصراع الدائم المستتر والظاهر بين الإعلامي والسياسي. وكان المؤلف على حق عندما قال إن (السياسي المتمكن هو الإعلامي المتميز)، وربما أكون على حق أيضاً عندما أقول: إن كل شيء في السياسة إعلامٌ، والإعلامي المتمكن هو المثقف السياسي المتميز!