المغرب يودع عقل المستقبليات المهدي المنجرة مفرد بصيغة الجمع
الرباط ــ عبدالحق بن رحمون
في أجواء لغط مباريات كأس العالم، وسهرات العام زين، ومهرجان كناوة الذي تحج إليه الحكومة المغربية كل عام.. وبرنامج للاالعروسة … ولامبالاة الاعلام الرسمي السمعي البصري لرحيل عقول الفكر والأمة، والتحضير لمسلسلات شهر رمضان، ودع المغرب في صمت مفكر كبير،من العيار الثقيل إنه عالم الاقتصاد والسياسي المهدي المنجرة، الذي تنكر له من لهم قرار السلطة وهو في عز عطائه الفكري والعلمي، ومنعتهم السلطات في الكثير من الأحياء من إلقاء محاضرات بالكثير من المدن المغربية.
وبذلك يكون المغرب قد خسر في مرحلة دقيقة من تاريخه السياسي والاقتصادي، شخصية عبقرية قلما يجود به الزمان، فقد عاش هذا المفكر، شامخا بكبرياء عروبي كالنخل في صحراء الفكر والتنظير للمستقبل،من خلال تنظيره لثورات الربيع العربي بسنوات قبل وقوعها.
لقد شغل المهدي المنجرة عدة مناصب علمية رفيعة، وساهم في تأسيس أول أكاديمية لعلم المستقبليات، وحاز جوائز علمية وطنية، ودولية كبرى، وأعماله الفكرية صارت مرجعا في الكثير من الجامعات بالدول العربية والدولية، وهكذا ألقى أصدقاء ورفاق ومحبي عالم المستقبليات المهدي المنجرة 81 عاما يوم السبت 14 حزيران يونيو النظرة الأخيرة قبل أن يوارى جثمانه الثرى في مقبرة جد متواضعة. وكان المهدي المنجرة الذي عاش وسيعيش بعد موته في قلوب الفقراء والبسطاء قد أوصى أرملته وأبنائه، في وصيته قبل موته أن يدفن إلى جانب الفقراء في مقبرة غير مقبرة الشهداء، وبالفعل قد نفذت أسرته وصيته بالرغم من أنها تمتلك مقبرة عائلية لها في مقبرة الشهداء بحي المحيط، حيث تدفن العائلات الراقية والميسورة ورجال الدولة. وجدير بالذكر فسيرة هذا المفكر زاخرة بعطاء غزير، فقد تحمل عدة مناصب مهمة داخل وخارج المغرب منها تعيينه مستشارا لأول بعثة مغربية لدى الامم المتحدة، وتوليه عدة مهام في منظمة التربية والعلوم والثقافة اليونسكو لمدة 5 سنوات، إضافة إلى شغل منصب مدير عام للإذاعة والتلفزة المغربية.
ومعروف عن المهدي المنجرة زهده في الحياة، وهذه صفة من صفات العلماء،كلما ازدادوا علما زاد تواضعهم، حيث سبق له أن رفض تحمل أي مسؤولية حكومية في الحكومات المتعاقبة بالمغرب وقال رفضت المسؤولية لأنني واع بمسؤوليتي، ليس ضروري أن أكون وزيرا، لكي أتحرك أنا أتحرك وكتبي تقرأ . وكان المهدي المنجرة، يكره العمل الاداري الروتيني، مؤكد أن لكل مسؤوليته الخاصة، وبالنسبة له شخصية فقد كان يعتبر أن مسؤوليته الخاصة هي طريقة ميدانية يتحرك دوليا في ميدان الفكر. المهدي المنجرة الذي خطفه الموت ببيته يوم الجمعة ثالث عشر حزيران بالرباط، مفكر تنكرت لانجازاته العلمية عدة جهات رسمية، ونظرت لفكره بازدارء واعتبرت مزعجا لها وعليه أن يرجع إلى الصفوف الأخيرة، وكما وصف هذا طلبته ومحبيه بأنه عاش موتا رمزيا وبيولوجيا قالوا كان بالأحرى بوطنه أن يستفيذ بعلمه. لقد عاش المنجرة الاقصاء والتهميش، وكما الأشجار العظيمة تموت واقفة، ظل المهدي واقفا بصمود ولم يقهره سوى المرض الذي أنهكه في الشهور الأخيرة، وظل لشهور بإحدى المستشفيات بالعاصمة الرباط، يصارع المرض حيث كان لا يستطيع معها التحرك ولا الكلام.
وقد أدى المهدي المنجرة ضريبة مواقفه وآرائه التي جعلته في الكثير من الأحيان، مغضوبا عليه من طرف الدوائر الرسمية بالمغرب، وكان عدد من الطلاب والباحثين والأساتذة الجامعيين من محبي الراحل، قد أطلقوا قبل شهرين في مواقع التواصل الاجتماعي لمساندة عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة، بعد دخوله في حالة صحية جد حرجة، وهي الدعوة التي انطلقت تحت اسم معا من أجل تكريم الدّكتور المهدي المنجرة بالمغرب ، واختارت يوم ثالث عشر آذار يوما عالميا للاحتفاء بالمنجرة، ودعت هذه المجموعة فك الحظر والمنع وإزالة التهميش الذي يطاله نتيجة مواقفه الوطنية. من جهة أخرى قال العاهل المغربي الملك محمد السادس في برقية التعزية إلى أسرة الفقيد بوفاته فقد المغرب أحد رجالات الفكر والمناضلين المخلصين عن حقوق الإنسان والمساهمين في تكوين الأجيال المغربية التي تتلمذت على يديه .
كما وصفت برقية تعزية العاهل المغربي إلى أسرة الراحل المهدي المنجرة ما كان يتحلى به هذا المفكر من خصال إنسانية رفيعة، ومن تشبع مكين بالقيم الكونية للحرية والعدالة والإنصاف، حيث كان، رحمه الله، يقول الملك محمد السادس في برقية التعزية نموذجا للمفكر الملتزم والباحث المستقبلي الجاد، الذي سخر كتاباته للدفاع عن حق شعوب الدول النامية في اكتساب مفاتيح وأسس تحقيق التنمية الشاملة القائمة على تقاسم العلم والمعرفة، مما أكسبه تقدير كل من واكبوا فكره، ونهلوا من علمه ودراساته سواء على المستوى الوطني أو العربي أو الدولي .
على صعيد آخر، كل الذين تعرفوا على المهدي المنجرة وتضامنوا معه في جميع المحطات عبر مساره الفكري تعرفوا أيضا على الوجه الأخر للمهدي الذي ظل اسمه قريبا من القضايا الانسانية والحريات وحقوق الإنسان، فضلا عن نقده اللاذع، لما يجري في الحكومات العربية، وما يجري أيضا من حروب في العالم، حيث ظل المهدي في محاضراته وآرائه الفكرية مدافعا عن القيم ونبه في الكثير من المحاضرات من أولئك الذين يدافعون عن مصالحهم الاقتصادية، كما حذر المهدي المنجرة أن الصراع الحقيقي بين الدول قائم أساسا على القيم، وليس على الاستعمار الحقيقي الجديد. وكان المهدي المنجرة يؤكد أن هناك من يرى في الحروب مصالحه الاقتصادية، من أجل الهيمنة على العالم، وقال المهدي المنجرة في إحدى اللقاءات إن الشعوب تعيش فجوة لما تشعر ان قيمها لم تحترم وان العلاقة العاطفية بين مجتمعاتها وحضاراتها تنفصل مما يضطرها الى ان ترتمي في احضان قيم أخرى.. هذا هو الاستلاب ، مضيفا حوار شمال جنوب غير ممكن لان الشمال لا يمكن ان يقبل بقيم اخرى غير قيمه.. وجورج بوش الاب عندما أعلن الحرب على العراق عام 1991 قال لا أقبل ان يكون هناك أحد يغير حياتنا وقيمنا .
وفي غضون ذلك كان المهدي المنجرة يلقي العديد من المحاضرات سنويا في اليابان بصفة خاصة والولايات المتحدة وبعض الدول الاوربية. لكنه يتهم السلطات المغربية بمنع محاضراته داخل المغرب بينما تنفي السلطات ذلك. وكان المنجرة يفاخر بأن المغرب فتح صفحة جديدة في ملف حقوق الانسان وبأنه طوى صفحة الماضي التي شهدت انتهاكات جسيمة في هذا المجال وأسس هيئة رسمية لهذا الغرض كما يعمل على نشر ثقافة حقوق الانسان.
وجدير بالذكر، أن المهدي المنجرة من ابرز المحللين في الاقتصادات المستقبلية في العالم العربي إذ شغل منصب رئيس الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية. وتحقق كتب المنجرة اعلى المبيعات في المغرب اذ تصل الى اكثر من اربعة الاف نسخة للطبعة الواحدة بينما لا يتجاوز عدد المبيعات بالنسبة لبقية الكتب في المتوسط وفقا لرصد المتابعين هذا المجال 1500 نسخة او الفي نسخة باستثناء الكاتب المغربي الشهير محمد شكري الذي وصل عدد النسخ المباعة من روايته ‘الخبز الحافي الى عشرة الاف نسخة.
هكذا رحل عالم الاقتصاد والسياسة المهدي المنجرة وهو يضحك على العالم، الذي تركه وراء ظهره قائلا للجميع إن التغيير لايصنع الخرافات والتنبؤات الكاذبة، وبلسان حال المنجرة نستعيد مقولته التي أكدت أكثر من مرة أن المستقبل الذي نريد أن نذهب إليه بسرعة وتفاؤل علينا أن نقدره بالعلم. فالمهدي الذي سهر الليالي، وقرأ أمهات الكتب قدم للبشرية عصارة فكره ترجمها كلها عبر مساره العلمي الذي انطلق من مدرسة ديكارت بالرباط ثم متابعته لدراسته بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث حصل على إجازة في الكيمياء والعلوم السياسية، كما تولى مهمة مدير الإذاعة والتلفزيون عام 1954، فضلا عن ذلك فقد تولى المنجرة رئاسة لجان وضع مخططات تعليمية لعدة دول أوروبية، وشغل عضوية العديد من المنظمات والأكاديميات الدولية، وعمل مستشارا ببعضها. ..ومن أهم الكتب التي صدرت للدكتور المهدي المنجرة نظام الأمم المتحدة 1973 و من المهد إلى اللحد 1981 و الحرب الحضارية الأولى 1991 و حوار التواصل 1996 ، و عولمة العولمة 1999 ، و انتفاضات في زمن الذلقراطية 2002 و الإهانة في عهد الميغاإمبريالية 2004 ، وآخرها كتاب قيمة القيم 2007 .
AZP02