المشهد الأخير
راجي عبدالله
أطل بوجهه من النافذة ليري ماذا يجري أمامه. كل شيء ساكن، الأشجار جرداء الشارع يمتد إلي ما لانهاية دون أي أثر للمارة، البيوت تصطف مع بعضها كالعلب وسط عتمة الليل. فجأة تساقط الثلج والريح أخذت تعوي لتقطع سكينة هذا العالم الغريب الذي يراه الآن. في هذه اللحظة أحس بفرح طفولي غامر يملأ قلبه، فهو يكره السكون منذ طفولته، ولا يريد لهذه الطبيعة وما فيها من حياة أن تذكره بشيخوخته وعجزه مهما مرت الأيام وتوالت السنون.
ارتدي معطفه البالي ووضع قبعته السوداء العتيقة فوق رأسه، فبان مظهره كمظهر رجل عجوز قادم من القرون الوسطي أو أبعد بكثير. تناول عكازه وسار بضعة خطوات إلي الباب الخارجي وهو يجر جسده النحيف بصعوبة بالغة نحو الخارج.
في الخارج كانت الأرض ترتدي ثوباً أبيض كما ترتدي الصبية العذراء ثوب الزفاف. فالثلج مازال يتساقط ويميل إلي ألجانبين قبل أن يهوي، كأنه راقص ماهر يرقص علي إيقاعات الريح في باحة هذا العرس الجميل، عرس الأرض. لكن ألرجل مع ذلك كان يشعر بحزن شديد، فالشارع خال من ألمارة ولا يوجد أحد كي يشاركه هذه المتعة النادرة.
– غربة وغرابة. نعم… ولاشيء يلوح في الأفق ألبته!!
. قال في نفسه بعد أن غرز عكازاه في عمق أرضية الرصيف الثلجية وتوقف قليلاً عن السير. ألتفت إلي الوراء ليري آثار خطواته البطيئة مطبوعة خلفه، إنها مجرد خطوات تعقبها خطوات، فهذه المسيرة الطويلة لم تنته بعد سواء كانت في أرض الطين أو الرمل أو في بلاد الثلج وهاهي الدنيا تدور. علي حين غرة تناهت إلي سمعه دقات أجراس الكنيسة القريبة من بيته. إنها أعياد بلاد الثلج، الميلاد. أعياد تتكرر كل عام علي وقع الأجراس.
استمر في سيره إلي الأمام باتجاه محطة – المترو – التي تبعد عنه مسافة خمس دقائق سيراً علي الأقدام. هناك وجد – المترو – بانتظاره، فأستقل العربة الأخيرة التي يفضلها دائماً علي باقي العربات. ولكن يا للعجب، العربة هي الأخري فارغة من الركاب!! إنه يوم الفراغ الكبير الذي لم يشهد له مثيلاً من قبل. عشرون عاماً مرت وكل عام يلد أعواماً منذ قدومه إلي برلين، وهذه المدينة التي لا تنام خالية الآن من البشر.
عجلات العربات تحركت ببطء ثم تسارعت رويداً رويداً. إنه أطول خط يقطع المدينة من أدناها إلي أقصاها، وهاهي المحطة الثانية والثالثة والرابعة ولاشيء يتغير. محطات ذات ألوان زاهية ولوحات جميلة معلقة علي الجدران، أضواء تثير البهجة في النفوس بظلالها و انكساراتها، لكنها فارغة من الناس. فما الذي جري وما الذي يجري !؟ هل هم نيام أم أنهم يحتفلون في الملاجئ خوفاً من اندلاع حرب جديدة !؟
– يا رجل ما هذه الخرافات !؟ ربما يوجد سبب آخر. فالحرب قد انتهت في الغرب منذ زمن وتم تصديرها إلي الخارج .
ضحك قليلاً علي تهيؤاته وأخذ يهز عكازاه عدة هزات في الهواء، بعدها تعالت ضحكاته شيئاً فشيئاً بينما كانت عجلات – المترو- تشق طريقها إلي الأمام عابرة المحطات واحدة تلو الأخري و المسافر الوحيد ما أنفك عن الضحك وهو يمعن النظر في المقاعد الفارغة . بعد مدة طويلة توقف – المترو – عن الحركة فتسمرت الضحكات بين شفتيه. التفت جانباً إلي الشباك ليقرأ اللوحة الضوئية بصعوبة . نهض من مقعده وراح يخطو في العربة جيئة وذهاباً ليطرد الملل الذي أنتابه. إنها المحطة الأخيرة. إذن لابد له من النزول أو الانتظار بضع دقائق. علي حين غرة وقعت عيناه علي باقة زهور كبيرة ملونة، فمد يده المرتعشة وتناولها من المقعد الذي وضعت فوقه.
– لاشك أن أحداً ما قد نسيها هنا ليلة البارحة!! ماذا أفعل بها !؟
ظل يفكر ملياً ثم خطرت بباله فكره، فهو علي الرغم من وحدته في هذا العالم، يحب الأطفال حباً جماً بعدد النجوم التي تضيء عتمة الليل، وعليه فإنه سارع بالتنقل بين المقاعد الفارغة ليضع طولياً علي كل مقعد زهرة.
– إنها لكم يا أحبائي الأطفال. فإذا أتيتم غداَ بصحبة أمهاتكم للتنزه في برلين، فإنكم ستجدون هذه الزهور علي المقاعد بانتظاركم.
بعد ذلك تحرك – المترو – من جديد في طريق العودة. جلس هو علي مقعده وراح يتأمل من بعيد حديقة الزهور المتنقلة هذه بألوانها البيضاء والحمراء، وهي تتمايل إلي الأمام والخلف وإلي ألجانبين وكأن هبات النسيم تداعبها في يوم ربيعي مشمس…
في هذه الأثناء غارت عيناه في صمت رهيب. صمت لم يألفه من قبل حتي في لحظات السكون المطبق، وبعد هنيهة أحس بأنه لا يستطيع أن يبصر شيئاً، ولم يعد بمقدوره أن يري الزهور وأن يميز ألوانها المختلفة كما كان يفعل قبل قليل . إنها غمامة سوداء قاتمة تملأ عينيه وتحجب عنه الرؤية. إذن وداعاً لكل اهو إنساني جميل. وداعاً لحلم العودة إلي ذلك البيت الذي ولد فيه والذي يبعد عن هنا آلاف المحطات…
هكذا كان المشهد الأخير من مسرحية الحياة يعلن عن نهايته، وقبل أن يسدل الستار بقليل كانت أنفاسه تتقطع رويداً رويداً حتي توقفت إلي اللابد.
/2/2012 Issue 4123 – Date 15- Azzaman International Newspape
جريدة »الزمان« الدولية – العدد 4123 – التاريخ 15/2/2012
AZP09