المشاعر الكونكريتية
للشعر جوه وقريحته ومزاجه ، وميوله ، وإمارته الكلامية ، وو..الخ ،فلا يمكن للحجر الصلد أن يشعر ، أو يتشاعر ، أو يكتب ، أو يتكاتب ، أو يسلس أو يتسالس ، أو ينهل أو يتناهل، أو يعذب ، أو يتعاذب، أو يرق ، أو يتراقق ، أو يهضم أو يتهاضم ، أو يحلم أو يتحالم، أو يبسم ، أو يتباسم ، أو يعشق أو يتعاشق، لايمكن للصخرة الصماء أن تقول الشعر يوما ، أو أن تسمعه ، أو أن تفهمه ، ولا يمكنها أن تعشق جماله ، أو تبتسم له، أو تتجمل به ، أو أن تتعطر بعطره الذي تذوب به ارق المشاعر! ، وتروض به الأنفس!، والصخرة الصماء هنا جاء ذكرها بأسلوب الكناية البلاغية ، فهي ترمز إلى قلب غليظ ، وشخص فظ ، يلبي معنى الآية الكريمة : “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك “، فهذا الشخص لايعرف من الشعر وعنه سوى حروف اللفظ ، وهناك جمهور واسع وعريض ينتمي إلى قاعدة “الكون كريت الرصينة”، فتراه يمتلك شاحنات ضخمة ، وشفلات مثلها ، وبلدوزرات ،وشافطات ومشفوطات ومختلف الآلات والحفارات ، بغية تكسير الهيكل الشعري في قصيدة عصماء ما وتحويله إلى هباء منثور ، ولكن (القصيدة العصماء) هي الأخرى لديها وسائلها التي تواجه بها هذه الآلات والحفريات ،لتبقى صامدة مدى الدهر ، فكم من شفل وبلد وزر تم تكسيرة على حافاتها الكون كريتية الوقائية ، ودعاماتها التي لاتلين إلاّ لذوي الأذواق السليمة ، والمشاعر المرهفة!
أجل منهم من كان في واد والشعر في واد آخر ، ومنهم من كان في نفره والشعر في نفره أخرى، ومنهم من كان في جفوة والشعر في جفوة أخرى ، وهكذا يزداد خاذلو الشعر والمتاجرون بحقيقته وأحقيته، والمساومون على سموه، ويقل مناصروه حتى لتعدهم أحيانا كما تعد أصابع اليد ، فالشعر حقا غريب ، وشعر الأصالة أكثر غربة منه ، فليس له خال ولا عم ، ولم يأت هذا من فراغ ، وإنما مر بعدة مراحل من القساوة فغلظ ونضج وصلب واحترق وتفحم .. القصيدة فراشة ، أو حمامة سلام ، أو ملكة جمال فريدة ، أو .. الخ ، فهي شيء والغلظة شيء آخر ، إن الله تعالى رعى لغتنا الكريمة من خلال تذوق الشعر ، وتلمسه عن قرب ، ثم أنزل القرآن بما يحاكي حالة اللغة السائدة شعريا وخطابيا وبلاغيا آنذاك ، ورغم أن العرب عاشوا حالتين لاشعريتين : هما حالة البداوة ، وحالة الجهالة البدائية لكنهم لم يتجردوا، أو يستغنوا عن الرقة العفوية ، تجاه هذا الكائن الملائكي ، فضلوا يراودونه ويحاكونه ويتذوقونه ، ويتدارسونه ، ويتخاطبون به ، دون أن يحول بينهم وبينه حائل ، أجل لم يكن هنالك (جدار كون كريتي) يفصل بين الشعر والمتذوقين والمحبين له كهذا الذي نراه اليوم والذي يزداد سمكا ، والسبب برأيي أن هذا الجدار ، يحمل بصمات المزيفين ، لأنهم صنعوه على كواهلهم ، فبدا غليظا سميكا ، فهو (كون كريتي حقا) لايمكنك أن تخرقه حتى لو سددت لهُ أعظم قذائف الخرق التي نعرفها اليوم المشاعر الكون كريتية اليوم تقف حائلا بين رغبة الشعر بالانطلاق ، وبين كبح جماحه ألقسري ، ثم يدخل علينا الساخر الكتابي (جحا) بمقلب آخر فيقول: ونظمت قصيدتي على أجمل مايكون عليه الشعر حيث أنني عرضتها على جحا الآخر والآخر والآخر ، وكل من هؤلاء له اختصاصه المميز في تحديد مستوى القصيدة ، فخرجتْ القصيدة مدوية عصماء ، بعد أن طبقت بحقها أقسى الشروط والالتزامات ، ثم يقول وكنت خائفا من شيء واحد هو ذوي المشاعر الكون كريتية ، فهؤلاء لايعترفون بمقولة جميع الحقوق محفوظة لك ، أو للمؤلف ، وإنما لديهم شعار واحد هو تفه ، ثم تفه ، ثم تفه حتى يتفهك التتفيه ، وحتى تملأ الأجواء تفاهة وسفاهة ، وهنا قام جحا بمشهدين: الأول: ألقى قصيدته العصماء فاصطدمت بذوي المشاعر الكون كريتية ، فلم تفعل شيئا ، رغم أهليتها التي لايختلف عليها إلاّ جاهلان ، أو مغرضان!، وفي مشهد آخر طلب من خلف الكواليس من احدهم أن يلقي قصيدة متردية جدا جدا وهو من الذين يقال عنهم مشاهير، فلانَ جمهور المشاعر الكون كريتية ، وانهال بالتصفيق والزعيق والاحتفاء فقال حجا عجبا عجبا ، وسبحان من قال:
(قل كل يعمل على شاكلته)
ومرحى لمن قال : الإناء ينضح بما فيه
(فالمتذوق الكون كريتي يصفق للقصيدة الكون كريتية) ، ولا يعرف شيئا عن قصيدة السلاسة والمشاعر والليونة ، ثم صار جحا وبعد هذه الحادثة يطلب الكتابة والنظم على البحر (الكونكريتى) أو (البلوكي) إذا صح التعبير ، كما انه عتب كثيرا على (الخليل) لأنه لم يضف إلى مجموع هذه البحور بحرا آخر هو بحر (المشاعر الكون كريتية) التي لاترقّ إلاّ إذا تشظتْ! ، فهو ولكي يكتب كل أنواع الشعر لابد أن يكتب قصيدة من هذا النوع (الكون كريت) الصلب ، قد تكون من البلوك ، أو الطابوق الناضج تماما المهم لديه أنها تعالج الصلابة والغلظة المطلوبة ، ولا ادري كيف سيوفق جحا بين الغلظة والكون كريت من جهة ،والشعر من جهةٍ أخرى.
ولكي أكون أكثر إنصافا في كتابتي لابد لي أن أشير إلى أن هذا العصر (2012م) أجرى عدة عمليات جراحية لاستئصال مشاعره وتعويضها بقطع كون كريتية كي يتسنى له الانضمام إلى(جمعية الكون كرت)ومتذوقي الشعر من خلال الإحساس الكون كريتي ، أو البلوكي الفاخر ، ويدخل علينا جحا بمفارقة أخرى ، يقول :
إنه ذكر البيت الشعري الآتي أمام مستمع كونكريتي :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ
وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ
وهو (للمتنبي) الشهير كما نعلم ولا يعلم الكون كريتي المهذب ، فأجابه الكون كريتي أن البيوت تعاني من ارتفاع الأسعار إيجارا، وشراء هذه الأيام ، وان الطابوق والبلوك ، والثرمستون ،والكون كريت لاتغطي الحاجة المطلوبة ، والطلب المتزايد ، (فصفع جحا) جبينه ثلاث مرات ،وقال: على المتنبي ، والشعر ألف سلام ، لايحجبه جدار الكون كريت!
رحيم الشاهر – كربلاء
AZPPPL