المرجل السوري
جيرمي سالت
ترجمة بشار عبدالله
أنقرة ــ يقترب التوتر بين تركيا وسوريا على طول حدود بين البلدين من نقطة اشتعال. قبل أسبوعين جرى إسقاط طائرة مقاتلة تابعة لسلاح الجو التركي بعد انتهاكها المجال الجوي السوري. قالت الحكومة السورية أنه جرى إصابة الطائرة داخل المجال الجوي السوري. وتقول تركيا ان الطائرة كانت قد غادرت المجال الجوي السوري وجرى التعرض لها وإسقاطها ضمن الفضاء الجوي الدولي. أما لماذا كانت الطائرة داخل المجال الجوي السوري فهذه مسألة أخرى. قال الرئيس التركي عبد الله غول، ان الطائرة ضلت طريقها فخرجت عن مسارها. وثمة روايات أخرى تشير إلى أن الطائرة دخلت الأجواء السورية لـ جس نبض نظام الرادار السوري أو اختبار دفاعاتها الصاروخية. ثم أرسلت تركيا على الفور قوات ومدرعات إلى الحدود، واستندت إلى المادة 4 من ميثاق منظمة حلف شمال الأطلسي، داعية الى التشاور مع شركائها في الحلف. واستجاب الحلف على الفور للرواية التركية. ووصفت هيلاري كلينتون إسقاط الطائرة بأنه وقاحة بينما يرى وليام هيغ الأمر على أنه فعل شائن ، وهذه الأوصاف، عندما يراجع المرء نفسه، يجد أنهم لم يستخدموها أو مثلها في وصف الهجمات الصاروخية التي شنتها قواتهم المسلحة التي أسفرت عن مقتل مدنيين في أفغانستان، وباكستان واليمن والصومال وليبيا. وربما سيدفع حادث آخر من نوعه بتركيا إلى طلب تطبيق أحكام المادة 5 من اتفاقية الدفاع المشترك لمنظمة حلف شمال الأطلسي، وهي المادة التي تعتبر أن أي هجوم على عضو من أعضاء الحلف يمثل هجوما على الحلف كله. وإذا ما حدث ذلك فإن الحرب بين سورية وتركيا تصبح حربا بين سوريا وجميع أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي سيؤدي بالنتيجة إلى مواجهة بين كتلة دولة حلف شمال الأطلسي» والخليج من جهة وروسيا والصين وإيران وحلفائهم من جهة أخرى.
إن ما يحدث في سوريا لا يمكن أن توصف أي مفردة منه بأنها عفوية أو غير مقصودة. فقد أحيطت الحكومة في دمشق وما تزال بشكل مقصود ومخطط له بدوامة من العنف تتغذى من الخارج عن طريق من يطلقون على أنفسهم اسم أصدقاء سوريا . وهناك قتلى من المدنيين جراء نزاع الطرفين داخل سوريا، لكن وسائل الإعلام السائدة والمهيمنة ما تزال حتى الان تعتمد روايات تحمل مسؤولية الضحايا للجيش أو من تسميهم الموالين للنظام والمعروفين باسم الشبيحة.
من جانبهم يلقي الناشطون كالعادة باللوم على قوات الجيش الحكومي عند وقوع أي جريمة قتل أو تفجيرأوعمل تخريبي حتى عندما يكون ضحايا مثل هذه الأعمال من الموالين لحزب البعث كما في حالة الأستاذة الجامعية التي قضت برصاص مسلحين في منزلها بضواحي مدينة حمص أواخر حزيران» يونيو، مع أطفالها الثلاثة ووالديها . وسائل الاعلام ذكرت أمور عدة عن معاناة الأسر التي قتل رجالها بعد حملهم السلاح ضد الحكومة ولكنها لم تتطرق عن معاناة الأسر التي قضى أفراد منها برصاص الجماعات المسلحة. والتحقيق ما يزال جاريا حول مجزرة الحولا. وفي الوقت الذي يرجح مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أحدث تقرير له أن العديد من عمليات القتل من عمل موالين للنظام، فإن أدلة أخرى تشير إلى أن المجزرة من عمل المجاهدين، وقد ورد لكتيبة الفاروق التي يطلق عليها اسم الجيش السوري الحرة. وفي الوقت الذي يقر مجلس حقوق الإنسان بعدم توفر الأدلة القاطعة على الجهة التي تقف وراء هذه المجزرة، فإن مسؤولية أكبر تقع على هذا المجلس لإدلائه بمعلومات لا تستند إلى أدلة.
إن هذه الرواية غير المتوازنة هي التي تغذي استراتيجيات الحرب التي تحكمها مجموعة أصدقاء سوريا . ويصر هؤلاء الـ أصدقاء على أن الحملة المسلحة التي يوجهونها ويرعونها هي ضد الحكومة وليست ضد الشعب. إن ما يريده الشعب بمعايير غالبية السوريين بكل هو أمر صعب قياسه وسط هذه الفوضى ولكن الأدلة تشير إلى أن غالبية السوريين ينظرون إلى هؤلاء الأصدقاء على أنهم أعداء لهم. إذ تدل عملية الاستفتاء في شباط الماضي والانتخابات في أيار وإن لم تكن بمستوى الطموح النموذجي، لكنهما تبقيان من الإشارات الواضحة حتى الآن إلى دعم عام فيما بين السوريين للتوصل الى حل سياسي للأزمة التي تجتاح بلادهم. و هم خارج الجيوب التي تهيمن عليها الجماعات المسلحة، فإنهم يعارضون بقوة هذه المجموعات ومن يدعمها من الخارج، فهؤلاء باتوا يعرفون أنه لولا الفيتو الروسيي الصيني المزدوج، لكانت قصفت طائرات حلف شمال الاطلسي بلادهم منذ وقت طويل. لقد أوجدت الربيع العربي فرصة اعادة تشكيل الشرق الاوسط في مركزه السياسي والجغرافي لتستولي عليه دول خارجية. وهذه الدول بالرغم من أنها تتشدق بخطة مبعوث الأمم المتحدة كوفي عنان لوقف اطلاق فانها هي التي تطيل أمد العنف على أمل أن يتفكك الجيش وتنهار الحكومة في النهاية. وفي الوقت الذي يكون فيه تدمير الحكومة في دمشق هدفا في حد ذاته، فإن ما يراد لسوريا هو أن ينظر إليها على أنها محطة في الطريق إلى إيران.
وفي حال أمكن انهيار حكومة البعث، فإن التحالف الاستراتيجي بين إيران وسوريا وحزب الله سينهار عند المركز. وحتى في حال لن يكون بالامكان إزاحة الحكومة، فإن سوريا ستبقى في ظل هذه الفوضى بحيث لا يمكنها الرد على أي هجوم يشن على إيران. وبالمثل ستتجمد قوة حزب الله. وعندها ستتمكن اسرائيل من المهاجمة دون القلق من احتمال انفتاح جبهة ثانية عبر خطوط الهدنة الشمالية. وربما كان تأكيد الرئيس بوتين خلال زيارة لم تكن مقررة على ما يبدو لإسرائيل على أن إيران لن تطور سلاحا نوويا، ربما هو محاولة أخيرة لتفادي شن هجوم على ايران. وربما وقعت المخابرات الروسية على شيء يدل على أن قرارا ما قد اتخذ لمهاجمة إيران وأن هذا القرار مشفوع بتاريخ الهجوم وتوقيته. أما تركيا فقد كان رد فعلها في البداية تجاه الربيع العربي بطيئا. وغادر الرئيس التونسي قبل أن تتمكن الحكومة من إبداء رد فعل. وقد انتظرت حتى نهاية المطاف تقريبا قبل أن تطالب مبارك بالتنحي. وتحدث رئيس الوزراء أردوغان بقوة ضد التدخل العسكري في أي مكان في المنطقة قبل ان يقع الهجوم المسلح على ليبيا. وحول سوريا، ادعى اردوغان ووزير خارجيته أنهما أسديا نصحا للرئيس السوري بشار الأسد ولكنه رفضها قبل أن يأخذ يصار الحديث عن ضرورة تنحيه. وفي أواخر الصيف ألقت اردوغان ووزير خارجيته ثقلهما على إنشاء ما سمي بـ المجلس الوطني السوري و الجيش السوري الحر ، وإعطيا للأول مكانا في اسطنبول وللثاني ملجأ في جنوب شرق تركيا. وكانت هذه هب المرة الأولى في تاريخ تركيا الجمهوري أن تلتزم الحكومة التركية بـ تغيير نظام حكم في بلد مجاور، وهي المرة الأولى أيضا التي تقوم خلالها حكومة تركية برعاية جماعة مسلحة تعمل عبر حدودها لقتل مواطنين في بلد مجاور. ولكن هذه الاجراءات وما يترتب عليها من آثار سلبية حتى على الصعيدين الأخلاقي والقانوني لم تتطرق اليها وسائل الاعلام التركية إلا ما ندر.
إن لبلد له تاريخ طويل من تدخل حكومات اخرى في شؤونه يصبح الموقف التركي إلى حد كبير موقفا سرياليا. ولا يعود ذلك فقط للتشابه بين حزب العمال الكردستاني وما يسمى بـ الجيش السوري الحر إذ كلاهما يغير من دولة مجاورة عبر الحدود ليقتل أبناء بلده، ويدعي كلاهما أنه يقاتل من أجل حقوق الإنسان والحرية، فضلا عن أن الاثنين تعتبرهما الدولتان اللتان يعملان داخلهما جماعات إرهابية. ويعود تاريخ التدخل الخارجي ودعم المتمردين من حكومات أجنبية إلى تاريخ تركيا والدولة العثمانية، من دعم للمتمردين اليوناة في عشرينيات القرن التاسع عشر، إلى دعم المتمردين البلغار في سبعينيات القرن التاسع عشر ودعم المتمردين المقدونية والمتمردين والأرمنيين في تسعينيات القرن التاسع عشر. ولقد استعيض عن التدخل الخارجي باسم الحضارة في القرن العشرين بالتدخل باسم الديمقراطية والحرية ونحن الآن أمام تدخل باسم القلق الإنساني وهو الموضوع نفسه يتواصل على مدى قرنين من الزمان ــ و باسم مسؤولية الحماية .
في ضوء لعبة التناقضات في التاريخ، تتدخل تركيا اليوم في سوريا تماما كما تدخلت القوى الإمبريالية ذات مرة في شؤون الدولة العثمانية، وما تزال تتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى. وثمة أجندات أخرى يمكن رؤيتها بسهولة. فقد كانت طلبت المملكة العربية السعودية من الولايات المتحدة مهاجمة إيران خلال فترة رئاسة جورج دبليو بوش و قطع لرأس الثعبان . ومصالحها في جزء من ذلك المطلب هي مصالح أيديولوجية، موجهة ضد المذهب الشيعي بشكل عام، وضد ايران بشكل خاص، في وقت تشعر العربية السعودية بخوف متنام أيضا من جارتها الشمالية التقليدية الكبيرة. وكانت الولايات المتحدة قد أدرجت في عام 1979الحكومة السورية في قائمتها الخاصة بالدول التي تدعم الارهاب ، وهي منذ تطبيقها بند سالسا محاسبة سوريا وسيادة القانون اللبناني للعام 2003 بدأت بتشديد العقوبات الاقتصادية تدريجيا في محاولة لتركيع الحكومة السورية. ولقد كانت وسوريا وما تزال في نظر إسرائيل العدو العربي اللدود، وهي بطبيعة الحال، تريد من أي ادارة امريكية بذل قصارى جهودها من أجل خلاصها. إن الاضطراب في العالم العربي اليوم يناسب اسرائيل لتمسك بالأرض بشكل أقوى. فهي اليوم تشدد قبضتها على جميع الأراضي التي احتلتها في العام 1967 من دون أن يتف تاليها العالم المشغول بدراما الربيع العربي . ليس معنى ذلك أن العالم كان يبدي اهتماما كبيرا فيما مضى بالاراضي المحتلة، ولكن الوقت الراهن يناسب استمر اسرائيل في تفعيل حلمها البعيد.
إن ألجندة الوحيدة التي يصعب تحديدها هي الاجندة التركية. فهذه الأجندة تحظى بقبول شركاء تركيا في حلف شمال الاطلسي والمجموعة التي طلق على نفسها اسم أصدقاء سوريا ولكن هذا القبول جاء على خلفية ثمن باهظ. فقد انهارت التجارة عبر الحدود في جنوب شرق البلاد بأشكالها كافة انهيارا تاما. وتقوضت علاقاتها مع ايران والعراق وروسيا. كما أن تعاطف الحكومة الركية مع تصورات تشكيل حكومة من نموذج حكومة إخوان مسلمون في سوريا هذا التعاطف التركي يثير شكوك العلويين الأتراك، وخصوصا في محافظة هاتاي الحدودية، التي يبلغ العلويون نصف عدد سكانها. وكانت هذه المنطقة قد اقتطعت من سوريا على أيدي الفرنسيين في العام 1938 وسلمت الى تركيا. وما يزال العلويون والمسيحيون فيها يحتفظون بروابط عائلية عبر الحدود وكلاهما يرى حكومة الرئيس الأسد الضامن الفعلي لحقوق الأقليات. وهم بالتأكيد لا يشارك الحكومة التركية وجهة نظرها المعادية للحكومة السورية. إن ما يجري اليوم هو من أكبر اللعبات التي تداولتها القوى الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. إذ أن وراء غطاء الربيع العربي يجري حاليا إزالة العقبات التي تحول دون تجديد الهيمنة الغربية على المنطقة. ولكن زعزعة الاستقرار في سوريا يحمل المنطقة كلها ويقربها من حرب ذات عواقب كارثية محتملة على العالم، ومع ذلك فإن المغانم من الضخامة بحيث تجعل التحالف الغربي غير قادر على ضبط نفسه وبالتالي فهو قد يندفع لتجاوز كل الخطوط الحمراء.
إن تورط تركيا يعد دخولا محوريا في التخطيط الاستراتيجي الغربي، وإذا ما وعت حرب سواء بشكل عرضي أو مقصود فهذا يعني أن تركيا ستكون مباشرة في تماس مع خط الجبهة الأمامي. ويبين استطلاع للرأي أجراه مؤخرا مركز أبحاث الاقتصاد والسياسة الخارجية معارضة شديدة لتعميق تورط تورط تركيا في الأزمة السورية. فغالبية من شملهم الاستطلاع 56 لا يدعمون أي تدخل عسكري في سوريا وأن عددا قليل أقل من 8 المائة يؤيدون تسليح المعارضة السورية. والسؤال هنا هو ما إذا كان الشعب التركي يدرك فعلا إلى أي عمق قد بلغ تورط حكومته. صحيح أن الحزب الحاكم يسيطر على البرلمان في تركيا، ولكن سوريا قد ثبت حتى أنها كعب أخيل بالنسبة للحكومة التركية.
جيريمي سالت أستاذ تاريخ الشرق الأوسط والعلوم السياسية بجامعة بيلكنت في أنقرة، المصدر ليغال نيوز
/7/2012 Issue 4250 – Date 14 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4250 التاريخ 14»7»2012
AZP07