الظالمون والمظلومون
المدنية بين الإسلام والمسلمين
خليل محمد إبراهيم
بغداد
لعل الكتابة عن هذه المسألة البسيطة؛ أكثر منها بساطة، فلو كان الأمر أمر إسلام ومسلمين، لكانت المسألة محلولة، فإن الإسلام الحنيف، لا يُقرُّ العدل وحده، بل يُقرُّ معه الإحسان في مثل قوله تعالى:- (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90)، ومَن هؤلاء الذين يأمرهم الله/ سبحانه وتعالى بالعدل والإحسان ؟!
أليسوا (المسلمين)؟!
فإذا صحَّ أن المسلمين عادلون، لأن ربهم يأمرهم بالعدل من جانب، ومن جانب أهم هو أن ربهم هو العدل المصفى، فكيف سيظلمون الناس وهم يُطبّقون قول ربهم تعالى:- (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(آل عمران: من الآية57)، و(آل عمران من الآية 140)؟!
ومَن الذين سيُخالفونهم؟!
هنا سيسخر مني ساخر فيتساءل:- (ألسْتَ تدري مَن الذي حارب (محمدا) (صلعم) ووقف ضد العدل الذي حاول تحقيقه)؟!
ثم يسخر ساخر ثانٍ ليسألني:- (فمَن قاتل (عليا) (ع)، وعلى ماذا؟!
ألم يُقاتلوه واقفين ضد عدله)؟!
وسيسخر مني ثالث متسائلا:- (فمَن رفض (عمر بن عبد العزيز) ثم قتله بالسم على ما تشُير إليه بعض المصادر؟!
ولماذا قتلوه؟!
ألم يفعلوا كل ذلك؛ رفضا لعدله)؟!
واضح أنني لسْتُ بذلك الذكاء العبقريّ، لكنني كذلك لسْتُ بلا أمل في أن أقول للساخرين الثلاثة وربما لغيرهم شيئا هو أن هؤلاء الذين وقفوا ضد المسلمين العادلين؛ كانوا على نوعين:- أولهما منافق يظهر ما لا يؤمن به، لكنه يفعل ما في قلبه، حتى إذا ما أمكنته الظروف، وثب بجماعته، أو مع الآخرين.
وإذا لم تتوفّر تلك الظروف، ساهم في توفيرها، بل زعم وجودها، وهي غير موجودة، وهو أحد ما يُعاني منه أهل العدل، فهُم لا يقبلون النصر بالجَور، أما المنافقون، فيقبلونه على أية حال جاء.
ثانيهما ظالم ظاهر الظلم يُحاربهم، فيبقى الصراع مستمرا.
وهنا في هذا الخضم الطاغي نتساءل:- ما هي المدنية؟!
إذا كان الحق، هو الجانب النظريُّ للعدل، فإن المدنية هي الجانب التطبيقيُّ له، فالمدنية تقوم على مسألتين أساسيتين هما:-
1. قوانين مدنية؛ تنظر إلى المواطنين كلهم على أنهم متساوون في الحقوق والواجبات إلا في ظروف خاصة كأن يكون المستفيد طفلا محتاجا إلى رعاية وتعليم، أو مريضا محتاجا إلى رعاية صحية خاصة، أو شيخا عاجزا محتاجا إلى تقاعد ورعاية صحية يسدان حاجته، ويكفيانه مؤونة الذل والمسألة، وهو ما يقبله الإسلام، بطريقة طبيعية، لا يداخلها التحذلق والصناعة.
وبالتالي، فكل المواطنين بغض النظر عن أي شيء محتاجون إلى رعاية صحية من قَبل الولادة؛ إلى لحظة الوفاة، كما أنهم محتاجون إلى الرعاية التربوية ابتداءً من الولادة؛ إلى أعلى درجات التعليم؛ شرط رغبة الطالب في مواصلة الدراسة غير الإلزامية، فالدراسة الإلزامية؛ حق لا تخلّيَ عنه، ثم (العمل) ما دام الإنسان قادرا عليه؛ راغبا فيه؛ متمكنا منه؛ خارجا من سن الطفولة، (السكن) المناسب، (الزواج) متى تمكن من ذلك، ورغب فيه، فإعانة المجتمع لغير المتمكن من ذوي الاحتياجات الخاصة مثلا، حتى يتمكن؛ أمر طبيعي.
فإذا ما تحققت هذه القوانين والنظم بأشكالها المتنوعة في ظروف متعددة؛ تحقق الجانب الأول من المدنية، وهو يحتاج وقتا وجهدا واضحين، كما أنه لا يتقاطع مع المسألة الثانية التي هي:-
2. تتمثل المسألة الثانية للمدنية؛ في حكم الأغلبية التي تحترم الأقلية الراضية عنها، استنادا إلى هذه القوانين المدنية التي تقدم ذكرها، والتي يمكن تطويرها، لكن لا يمكن التخلي عنها، وهنا يمكن تداول السلطة السلمي، لأن الأقلية اليوم ليست دينا ولا طائفة، ولا قومية، ولا ما إلى ذلك؛ أنها جماعة عابرة للأديان؛ عابرة للطوائف؛ عابرة للقوميات، وهذه الأغلبية؛ قد تتحوّل إلى أقلية، فتتبدّل بالأقلية التي صارت أغلبية، أو بأكثر من أقلية؛ تجمعت، فشكّلت أغلبية، وتتطور القوانين والنظم والمنجزات على هذه الأسس في نظام الدولة المدنية الديمقراطية، فإذا صحَّ هذا وهو صحيح قابل للتطبيق فلماذا يقف البعض ضده لو كانوا عادلين؟!
هل في الإسلام مدنية؟!
حين يتم طرح مثل هذا السؤال البسيط؛ على مجتمع إسلامي اعتيادي غير متعمق في الفكر فقد يستغرب مثل هذا السؤال الواضح الإجابة عنده، إذ من المعروف أن المسلمين كانوا وما يزالون ينقسمون إلى أهل مدن متحضّرين، وإلى أهل ريف وبادية، وكما أن أهل البادية؛ بدو، وأهل الريف؛ ريفيون، فكذلك أهل المدن؛ مدنيون، وينتهي الأمر بلا نقاش طويل ولا جدل عقيم، فقد أغنانا (ابن خلدون) في مقدمته عن مؤونة هذا البحث.
وما كان أحلى هذا التبسيط الساذج للجواب عن هذه المسألة المعقدة التي ناقشها (الأخوان المسلمون) وغيرهم في (مصر)؛ على مدى ثلاثة عقود؛ منصرمة أكلت من الوقت والجهد والفكر والنقاش والورق والحبر واللقاءات الإذاعية والتلفزيونية والصحافية؛ الشخصية أو النقاشية ما لو بذلوه في مائة مشكلة غيرها، لوجدوا لكل منها مائة حل، ومع ذلك، فقد عجزوا نظريا كما عجزوا عمليا عن تحديد مشكلة المدنية في الإسلام الحنيف. والمؤكد أن المجموعات الإسلامية العراقية؛ التي تقتدي بفكر (الأخوان المسلمين) المصريين في التفكير؛ تجد نفسها في المأزق نفسه الذي وجد (الأخوان المسلمون) المصريون؛ أنفسهم فيه، ومع ذلك، فقد لبس بعض الطائفيين لباسا مدنيا؛ شاعرا بأن الناس؛ قد ملّتْ عبارات؛ تحتاج إلى تطبيق؛ قبل أن تحتاج إلى إلقاء، وهي مشكلة أخرى لا تقلُّ صعوبة عن المشكلة الأولى، فكيف يُطبق إيمان مؤمن؛ قضية لا يتصوّرها، وفي أحسن أحوال تصوّره لها، يراها كفرا صراحا، لأنها في نظره تواجه الدين أو تصارعه؟!
من هنا كانت مشكلة المتأسلمين، فهُم يقبلون المدنية، بمعناها البسيط ظاهرا لأنها مطلوب الناس، ويرفضونها فعلا لأنها تعارض إيمانهم الديني فهْمهم للدين وهو ما فرض الصراع النفسي المستعجل؛ في نفوس (الأخوان المسلمين) المصريين؛ قبل أن يفرضه عليهم المصريون الآخرون؛ أنفسهم، فمن الواضح أنك في مصر لا يتحداك حال طائفي كما هو الحال في (العراق)، و(لبنان) مثلا الحال الطائفي في مصر يوشك أن يكون مستقرا منذ نهاية عهد الفاطميين، وبالتالي، فلا صراع طائفي في مصر، فلماذا يقوم الصراع في مصر إذن؟!
من الملحوظ أن هناك مشكلات تفرض الصراع؛ تتشكل بأشكال متعددة؛ قد يكون الصراع الديني أو الصراع الطبقي أو أي شكل آخر؛ من أشكال الصراع الأخرى؛ مظهرا من مظاهره، فما هي هذه المشكلة الأزلية التي تثير هذا الصراع الأزلي الذي يتمظهر بمظاهر متعددة؟
لا شك أن المشكلة الأولى التي تثير هذه الزوابع الفكرية؛ الإنسانية الثورية سمِّها كما شئت إنما هي مشكلة نقص العدالة أو انعدامها، أو تصوّر انعدامها أو تصويره، وهذا الشعور البشري المظلوم بها، ثم تمسك الظالم بحق المظلوم الذي يتصوّره حقا مكتسبا لا يمكن التخلي عنه فالمظلوم قد يحتمل الظلم زمنا ما قد يطول وقد يقصر لكنه لن يكون أبديا أبدا.
قد يتصوّر الظالمون المظلومين ساكنين؛ ساكتين عن حقهم؛ راضين بقسمة الله؛ رافضين التخلي عن فلذات أكبادهم التي قد تأكلها نيران الخروج على الظالم؛ من أجل تحقيق العدالة.
ويستمرُّ ذلك زمنا ويظنون أن هذا الذي اغتصبوه من حقوق الناس يوم جهلهم أو يوم صمتهم مقبول أو ينبغي أن يكون مقبولا إلى الأبد.
وهذا ما لا يقبله المظلومون، فيثور الصراع، ويستمر بلا توقف.
وقد يطرح عاقل سؤالا هو:- ما قيمة هذا الكلام بالنسبة للمدنية؟!
وهذا ما قد يؤدي جوابه مقال قادم بإذن الله.