المدلل.. مقهى يستعيد نكهة خان البغدادي – بغداد – الزمان

المدلل.. مقهى يستعيد نكهة خان البغدادي – بغداد – الزمان

ينبعث من أرجاء خان البغدادي الكائن وسط ما يعرف بسوق هرج بالميدان، عبق الماضي وشذى التقاليد التي كان تراث بغداد يضاهي بها بقية المدن. والمقهى، كاستراحة وملتقى اجتماعي تستعيد اليوم روح الازقة والخانات، التي تنتشر بين رصافة بغداد وكرخها. وفيما كانت المنطقة تحتفظ للزهاوي بذكراه والشابندر بموقعه تضيف اليوم المدلل الى مقاهيها، ناشرة جزءا جديدا من استراحات بغداد التي يستكن فيها الرجال ويحطون على وقع استكان الشاي والنركيلة، متاعبهم وصداقاتهم ورحلاتهم بين المتنبي والميدان وصولا الى باب المعظم حيث تصطف تذكارات اخرى على الارصفة وفي ازقة الحيدر خانة والقشلة. والمدلل.. اسم اخر يحفظ للتراث البغدادي عناوينه الكبرى، في واجهة المدخل ينهض (الوجاغ) الذي توضع على مدرجاته الناعمة السماورات وعدة المشروبات الساخنة، الشاي والحامض وفناجين القهوة. وانت اذ تجول بانظارك في المكان يتناهى الى مسامعك النغم البغدادي بكل ما يحفل به من اوجاع وشجن ومقامات ملونة. وعلى سقف المقهى رسمت صور رموز هذه الاصداء: محمد القبنجي ويوسف عمر ومائدة نزهت وزهور حسين وثمة رجل يحمل الة الكمان او يكاد يحتضنها احتضانا لعله داود الكويتي، صاحب اول مجموعة مقامية قدمت عطاءها ضمن ما يعرف بالجالغي، وعلامتها المسجلة السدارة الفيصلية، التي تعتلي رؤوس ابرز شخصيات العهد الملكي بعد العام 1921.

المدلل.. مقهى افتتح عام 2017 بفكرة او مجازفة صاحبها حسين الجبوري، رجل افندي رشيق يوزع (الله بالخير) على رواد المقهى وجلهم اصدقاء يعرفهم بالاسم والكنى. وهو الامر الذي يجعل المكان مفعماً بالحميمية وحاملا كثيرا من الطمأنينة والمحبة. رواد المقهى من الجنسين وغالبيتهم من محبي التراث والباحثين عن المتعة الروحية، عبر صفحات كانت مطوية فجاء الاهتمام بهذا الارث ليفتح بعضها ويقرأ على الملأ سطورها الموشاة بذكريات اللون والصورة والكتاب. وهي شهادات يقدمها الجبوري للقادمين اليه برغم حداثة وصول بعضهم الى المقهى، لكن سحر المكان وروح الترحاب التي يحملها تجعل الطريق الى القلب مشرعا، وسرعان ما تمتد الجسور وتصبح الالفة سراجاً. وايام الجمع من كل اسبوع تزدحم مقهى المدلل بالرواد. يأتون في الغالب بعد جولاتهم في شارع الكتب، متخذين من القشلة وملحقاتها القريبة طريقاً للوصول الى المقاعد الشاغرة، وهي قليلة او نادرة مما يتطلب الانتظار لحين مغادرة مجموعة تكون قد انجزت (سوالفها) واحتست (شايها) او دخنت النركيلة وسلطنت على صوت الماء وهي (يبقبق) في الحوض الزجاجي المسمى (الغرشة). ولا تخلو اجواء المدلل في الظهيرة من برنامج اعده الجبوري المحب لكل ما يخص بغداد، بحيث انه اختار مقهاه وسط خان تراثي تتوزع في ارجائه دكاكين باعة السبح والفضيات والكراكيش الانتيكات، والمفضي الى ارصفة الكتب في الرشيد، الشارع العريق، والى سوق هرج المزدحم بمحبي الاحجار الكريمة واللقى القديمة، من الطرف الاخر. عالم من الولع بالماضي والسحر باشيائه والتمسك بتقاليده حد الجنون. هنا ينطلق صوت المقام وشجن مبدعه خالد السامرائي مع ثلاثة من العازفين على العود والطبلة والرق. وهنا تذكرك (الفيصلية) بجيل طويل عريض من البغداديين، الذين كانت لهم مهن يدوية ومهارات، وصنعوا قصصا دالة على اصالتهم. جيل ذواق للموسيقى ومتطلع الى البساطة والانفتاح، ومازال يتذكر اول حفل لام كلثوم عام 1932 في احدى قاعات الميدان. ومازال يواصل حضوره في ذاكرة الحاضر، عبر اول شارع اختط في مدينة عراقية مطلع القرن الماضي، واول مركبة لوجيه بغدادي تشق الطريق، مشيرة الى عصر الانتقال السريع والركوب الآلي. المدلل سياحة في الماضي، وعنوان جديد من بغداد ايام زمان يطلق في اقدم اماكن المدينة التي تعانق دجلة وتستقبل كل جديد دون ان تفرط بنكهة الماضي.

مشاركة