المخطط الأمريكي للشرق الأوسط 15-15
إسرائيل تعمل على نسيان ذاكرتها التاريخية والعيش في الحاضر
تأليف: باولو سنسيني
ترجمة وتحرير: مالك الواسطي
تقدمة المؤلف
إن الاحداث التي نعيشها اليوم والتي تمثل لنا “حاضرنا المعاش” ، تظهر لنا اليوم أكثر ضبابية وعتمة وكأنها محاطة بهالة من الغموض وعدم الفهم. فحاضرنا قد نجده اليوم خاضعا لوسائل الاعلام التي يستطيع اصحابها أن يقنعوا الآخرين بما يرونه هم دون غيرهم حتى وان كانت تلك الرؤى غير متطابقة والواقع نفسه. إذ يكفي أن تقوم المؤسسة الاعلامية بـ”تكرار” الخبر على العامة لتتمكن من اقناعهم بما تريد. فالأيديولوجيات أو “القص الايديولوجي” الذي كان السمة الاكثر شيوعا في حياة العصر ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر حتى بداية الالفية الثانية والذي كان محور الاحداث المؤثرة في حياة المجتمعات أي في حياة الملايين من البشر لم يعد اليوم المصدر الرئيس الفاعل في صياغة الاحداث وتفاعلها.
وقد اصبحت لبنان التي لا يتجاوز عدد سكانها اربعة ملايين مواطن تعاني من وجود أكثر من 970.000 مواطن يعيش اوضاعا معيشة يرثى لها نتيجة للحرب. وهؤلاء المواطنين قد أصبحوا من المهاجرين الفارين من ويلات الحرب كما أن الاحصائيات تذكر أن عدد المواطنين الذين نزحوا من الجنوب الى بيروت وحدها قد تجاوز 500.000 مواطن لبناني أي ما يعادل ربع عدد سكان هذا البلد. إن كوارث الحرب السادسة الاسرائيلية على لبنان وما انتجته من دمار كبير يتماثل وما احدثه الغزو الاسرائيلي على لبنان عام 1982م. تلك الحرب التي كانت تهدف الى تمزيق النسيج الاجتماعي اللبناني واقامة حكومة هشة في لبنان تقودها شخصية مسيحية ضعيفة تقف موقف المتفرج على ما تتعرض له بيروت والأراضي اللبنانية من دمار ومن قصف بالقنابل العنقودية والفسفورية المحرمة دوليا دون أن تفعل شيئا. وفي إطار مثل هذا الضعف والعجز الحكومي اللبناني تمكنت اسرائيل من القيام بمذبحة صبرا وشتيلا لتي خطط لها ونفذها Ariel Sharon الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع الاسرائيلي آنذاك وبمشاركة الارهابي العجوز مناهيين بيغن الذي نشر كتابا له يعلن فيه عن كونه ارهابيا من الدرجة الاولى ويقص في كتابه هذا انشطته الارهابية الاولى وإن من عمل معه في هذه الانشطة قد حصل على أهم المناصب في الدولة الاسرائيلية وقد نشر هذا الكتاب في مدينة نيويورك عام 1951م تحت عنوان :(The Revolt: story of the Irgun).
فالحرب السادسة لم تفز بها اسرائيل بل على العكس فقد تعرضت لهزيمة كبيرة الا أن حربها هذه على لبنان قد خلفت ما بين 17.000 و 19.000 قتيل اكثرهم من المدنيين. وبخلاف الكثير من البلدان التي انتقدت اسرائيل لشنها حربا مفاجئة على لبنان ادت الى الكثير من الكوارث الانسانية لم تطلق الولايات المتحدة كلمة نقد واحدة لإسرائيل بل على العكس قامت بتقديم الدعم المباشر لإسرائيل على الصعيد الدبلوماسي والعسكري واللوجستي وحتى الصحفي الاعلامي مبررة ذلك بأن ما قامت به اسرائيل لم يكن الا عملا صائبا بل “إن ما قامت به اسرائيل كان نشاطا عسكريا مشروعا وضروريا”.
ابداء رأي
وفي مؤتمر صحفي ابدت سكرتير الدولة لشؤون الخارجية كونداليزا رايز رأيها قائلة: “أن الحرب لم تحدث الا اضرارا طفيفة ” ، بينما تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي ساعة اعلانها هذا الرأي الكثير من الاخبار التي تؤكد الاضرار الهائلة التي اخذت تتدفق صورها على شبكات الويب غير أن السيدة رايز واصلت الحديث في القول:” إن ما يحدث هو بداية مخاض لولادة جديدة لمنطقة الشرق الاوسط”. وجاء هذا الرأي مدعوما من بعض القنوات التلفزيونية الخاصة التي كانت تبث الاخبار على مدى 24 ساعة والتي كانت تميل الى تقديم اسرائيل كالبطل المحاصر الذي يصارع من اجل البقاء لهذا لا يمكنه والحالة هذه الا أن يقوم ببعض التجاوزات التي تعتبر مشروعة من اجل الدفاع عن وجوده.
وبعد أن بدأت تتضح اولى نتائج هذه الحرب للقادة الاسرائيليين وما يتعرض له الجيش الاسرائيلي من خسائر كبيرة بسبب مقاومة حزب الله لهذا الهجوم اسرعت كل من الادارة الامريكية واسرائيل في 14 من آب الى الاعتراف بضرورة ايقاف الحرب والتوصل الى وقف إطلاق النار بين الطرفين وأسرع كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي تحت انظار اللوبي اليهودي الامريكي ومن بينهم الرئيس الامريكي على الكشف عن دعمهم وصداقتهم الحميمية لإسرائيل حتى أنهما قد تنافسا في التعبير عن تضامنهما المطلق لإسرائيل. فإن تأثير اللوبي اليهودي الامريكي في سياسة الولايات المتحدة قد دفع الحزبين الى الوقوف مع اسرائيل وكان هذا الانحياز الى اسرائيل واضحا بل يمكن وصفه بالطبيعي حيث أن من يفكر في أن يكون معارضا لتلك السياسية سيتهم بالضرورة بتهمة العداء للسامية. ففي الساعات الاولى من بدء الهجوم الاسرائيلي على لبنان قام رئيس مؤسسة AIPAC السيد Howard Friedman بكتابة رسالة الى جميع اصدقاء هذه المؤسسة ومؤيديها قال فيها:” انظروا ماذا نحن فاعلون! فهناك شعب واحد في العالم يمتلك الشجاعة ويعلن على الملأ بكل قوة قائلا:” لنترك اسرائيل تقوم بمهمتها” ، هذا الشعب هو الشعب الامريكي وهذا الموقف الامريكي الواضح الذي لا لبس فيه قد جاء نتيجة لدورنا نحن. وهذا الجهد المبارك هو نتاج نشاط هذه المؤسسة التي تعمل بالتضامن والجالية اليهودية الامريكية”. فليس من الغريب ان نستمع الى الوزير الاول الاسرائيلي Olmert وهو يقول:” نشكر الله على وجود مؤسسة AIPAC المؤيدة لإسرائيل والامينة على مصالح اسرائيل وهي الصديق الاقرب لنا في العالم”.
إن رغبة اسرائيل في الثأر لانكساراتها وهزيمتها في الحرب اللبنانية قد دفعها من اجل اعادة الثقة لقطعات الجيش المهزوم بشن هجوم عسكري جديد مستخدمة فيه جميع الاسلحة ومنها الاسلحة المحرمة كالأسلحة الفسفورية على بقعة صغيرة من الارض يمكن تسميتها بـ( سبريا الصغيرة في الشرق المتوسط) أي غزة. وقد حملت هذه الحملة العسكرية الجديدة الاسم السري “عمليات الرصاص المنصهر” وقد امتدت هذه الحملة العسكرية على غزة ابتداء من 27 كانون الاول حتى 18 من كانون الثاني عام 2009م. فغزة هذه البقعة الصغيرة من الارض الفلسطينية التي يصفها الكثير من المحللين بـ (المخيم الاكثر كثافة سكانية في العالم والذي يعيش فيه ما يقارب 1.7 مليون مواطن فلسطيني”، وتمتد مساحة هذا المخيم الى 45 كم طولا وبين 15 و12 كم عرضا وقد اغلق عليه من البحر ومن البر تنفيذا لمخطط سمي بـ “مشروع فك الارتباط من طرف واحد”. ذلك المشروع الذي اراده Ariel Sharon في شهر آب من عاك 2005م. فهذه البقعة من الارض لم تتمكن من أن تقاوم عواصف النار التي امطرتها الطائرات الاسرائيلية لشهر كامل على رؤوس سكان هذا المخيم. وقد كشفت غزة عن نفسها كما يقول المحللون بعد الهجوم وهي تئن من خراب كبير كما لو انها قد تعرضت الى زلزال هائل لم يكن الفرار منه ممكنا.
وقد خرج الاسرائيليون بهجومهم هذا بقتل 1.414 مواطنا فلسطينيا مقابل 13 قتيلا اسرائيليا وكان من بين القتلى الفلسطينيين 430 طفلا كما خلف هذا الهجوم 5.000 جريح فلسطينيا مات الكثير منهم نتيجة لإصاباتهم البالغة وأصبح الجزء الاكبر منهم من المعاقين جسديا لافتقادهم بعض أطراف اجسادهم كالرجلين او اليدين. وقد عمل الإسرائيليون في حربهم على غزة وهم يتذكرون هزيمتهم في لبنان على منع وسائط الاعلام من دخول غزة واحتكار الدعاية الاعلامية لهم فقط. وبعد فترة وجيزة تمكنت كل من قناة الجزيرة القطرية وقناة بريس الايرانية من دخول غزة واصبحتا المصدرين الرئيسيين للأخبار عن تلك الكارثة الانسانية وقاما ببث ما حدث للعالم كله وللإسرائيليين أيضا حيث اصبحت هذه الاخبار كما يصفها الكاتب الموسيقي من اصل اسرائيلي Gilad Atzmon : “ليس حديث غير اليهود فقط بل اصبحت لتكرارها من قبل العدو حديث الاسرائيليين انفسهم حيث بدأوا يرون انفسهم بعيون عربية وايرانية. فلم يكن السلوك اللاإنساني للجيش الاسرائيلي ما يثير غضب الاسرائيليين ومؤيديهم بل الكشف عن هذا السلوك واعلانه على الملأ. هذه الديناميكية في طرح الاحداث اعلاميا قد تحولت الى مرض اعصاب قاتم على الاسرائيليين وهذا ما يمكن تفسيره بالقول في أن ازدياد آلام وعذابات الاخر يولد شعورا بألم انعكاسي يكشف عن مدى العنف المستخدم في تفجير الالام وكلما يزادا فعل تعذيب الاخر كلما يزاد الخوف من أن يكون المُعَذِبُ مُعَذَّبًا. ويسمي فرويد هذه الظاهرة بـ (الاسقاط الانعكاسي). وبلغة اخرى يمكن القول بأن الشيء الوحيد الذي يبقي على تماسك الهوية اليهودية الجامعة هو الخوف. فاليهودية تجعل الخوف من الابادة الجماعية نواة للسلوك النفسي في وجود الفرد اليهودي وتمنحه في الوقت ذاته مقاييس روحانية وايديولوجية وذرائعية عقلية يمكن من خلالها ادارة هذا الخوف. ويمكن القول إن اسرائيل خائفة وأكثر خوفها قد صنعته بيدها وهي تعمل على تصديره كذلك. وفي الوقت الذي كان الناطق باسم الحكومة الاسرائيلية يصرح كل مساء مكذبا الاخبار التي تتناقلها وسائل الاعلام عن استخدام اسرائيل لأسلحة الدمار الشامل كانت شبكات التلفاز الاجنبية تنقل مباشرة ما يحدث على ارض غزة حيث يشاهد الجميع وبوضوح الفسفور الابيض وهو ينفجر على بيوت سكان مدينة غزة. وقد اعادت اسرائيل الكرة مرة اخرى مطبقة السلوك نفسه عام 2012م في عملية عسكرية ضد غزة سميت بـ (قاعدة الدفاع) وذلك في شهر تشرين الاول حيث قامت الطائرات الاسرائيلية برمي قذائفها لثمان ايام متتالية على رؤوس مواطني غزة دون أي اعتبار لوجود مواطنين مدنيين وقد صرح وزير الدفاع الاسرائيلي ورئيس حزب شاس Eli Yishai عن اهداف هذه العملية العسكرية الجديدة قائلا:” سنعيد غزة الى العصور الوسطى وسنقوم بمحي كل شيء ونهدم جميع البنى التحتية للقطاع كالشوارع ومراكز تصفية المياه”.
إن السلوك الاسرائيلي في اطاره العام يكشف عن ثوابت هذه الدولة في استخدامها المفرط لأسلحة محرمة ليس ضد المواطنين المدنيين فقط وهذا وحده يمثل اختراقا للقانون الدولي وللأعراف الدولية بل ضد مراكز اللاجئين ايضا. فتنتشر في القطاع مراكز للاجئين الفلسطينيين تديرها هيئة الامم المتحدة وهذه المراكز قد تعرضت لقصف مباشر من الطيران الاسرائيلي وقد قتل الكثير من سكان هذه المخيمات. والى جانب هذا كله تقوم اسرائيل ببناء جدار عازل بارتفاع 8 امتار ترسو قواعده على ارض مسروقة من الفلسطينيين وهذا الجدار صورة جديدة للحي اليهودي المنعزل الذي تمسكت به الجالية اليهودية في الشتات. فكل ما تقوم به اسرائيل هو اختراق للاتفاقيات الدولية والاعراف الدولية واختراق لحقوق الانسان وهذا ما يذكرنا بلعبة على الفيديو كيم تحمل اسم Splat the Bug ( سحق الحشرة) ، مع الفارق الكبير حيث أن الجثث التي تسحقها اسرائيل في حروبها هي جثث بشرية جثث رجال ونساء واطفال لا يمكن أن توصف الا بالكارثة الانسانية.
إن من اعمدة الاستراتيجية الاسرائيلية هي عدم الكشف عن الكوارث الانسانية الناتجة عن حروبها وهذا ما يصفه المحلل الفرنسي Alain Joxe بـ (رغبة اسرائيل على نسيان ذاكرتها الجماعية والعيش في حاضر يخلو من الماضي أو طاردا له). وهذه الظاهرة هي ظاهرة خطيرة ليس على مستقبل القانون الدولي وحده بل إنها تبني لسابقة تاريخية تؤسس لشرعية قانونية جديدة للاضطهاد والجور والعبودية تدعمها وسائط اعلام من خلال تلاعبها بالمعلومات واحتكارها وبثها يوميا لأخبار وصورا تولد وتزرع فكرة العنف والعداء في الذاكرة الجماعية للمتلقين والمستهلكين لهذه الاخبار.
كل هذا يضعنا امام حالة جديدة قد تظهر وكأنها غير قابلة للفهم أو التحليل لكنها في الحقيقة تهدف الى دفع واجبار الفلسطينيين على ترك اراضيهم والهجرة عنها بعد ان اصبحت خالية من الحياة يصعب البقاء فيها. وهذا يعني العمل على ابادة الفلسطينيين. هذا التصور وهذه الرغبة في الابادة العنصرية للفلسطينيين تؤكدها الاستطلاعات التي قامت بها بعض المؤسسات الاعلامية التي كشفت عن رأي الاسرائيليين في الفلسطينيين. فقد نشرت صحيفة القدس العربي في 15 من شباط عام 2012م استفتاء للشعب الاسرائيلي. كشف الاستفتاء عما نسبته 75 بالمئة من اليهود الاسرائيليين يفضلون القيام بإبادة الفلسطينيين كي تبقى اسرائيل بلدا خاليا من الفلسطينيين أي انهم يرون بضرورة تطهير الدولة اليهودية من الفلسطينيين. ويرى الباحث اليهودي الاسرائيلي Israel Shahak إن هذا الميل الجماهيري نحو ابادة الفلسطينيين له ما يبرره في نصوص التوراة. فالنصوص التوراتية تكرر وتعيد فكرة ضرورة ابادة الاخر وبنفس قاسية مليئة بالكراهية وإن جاءت هذه الكراهية مبالغا فيها تتجاوز احيانا القوانين المتبعة في المجتمع اليهودي. فهناك الكثير من الحاخامات اليهود الذين يمتلكون تأثيرا واضحا على قطعات الجيش الاسرائيلي وقادته يصفون الفلسطينيين بل العرب جميعا بالقبائل المشابه لتلك القبائل القديمة التي يذكرها كتاب التوراة تحت مسمى ” الكنعانيين والمالكيين”، قبائل قد ناصبت القبائل اليهودية الاولى العداء لذلك فإن النصوص التوراتية تقول:” لا تنقذ أحدا باستثناء أخيك”، تأخذ ابعادا جديدة حاضرة في حياة اليهود اليوم. فلم يكن من المعتاد سابقا يضيف ـ Shahak ـ أن يشارك الجنود وجنود الاحتياط الاسرائيليين الذين يقومون بالخدمة العسكرية في قطاع غزة ، في ندوات تثقيفية تزرع فيهم فكرة أن الفلسطينيين هم الكنعانيين والمالكيين القدامى. ومبدأ تحرير الارض وخلاصها يعني تحرير الارض كلها وليس جزءا منها وإن كان ذلك الجزء يساوي 83 بالمئة من الارض لذلك لا بد من الوصول الى يوم الخلاص لكل الارض التي لا يمكن أن تعود ملكيتها لغير اليهود.
{ لقد اعتمد المؤلف الكثير من المصادر الصحفية لتوثيق ما ذهب اليه ولكثرة هذه المراجع وجدت في هذه الترجمة الاقتصار على اهمها والاشارة الى امكانية الرجوع لطبعة المؤلف في اللغة الايطالية للاطلاع على ما تبقى من مصادر توثيقية.