المخ
نزار محمد سعيد
الرياح والعواصف في صراع عنيف، تتلقف في جوفها كل شئ يقع أمامها وتأخذه معها، البروق تضرب في كل ناحية فيتردد صدى هديرها. مع كل برق تتضح صور أمواج البحر المتلاطمة كأنها جبال فوق سطح الماء تشق طريقها مسرعة كأنها تسابق البرق. كأن البحر استفاق ومسه الجنون على حين غرة، أمواجه تتقاذف السفينة في خضات ثملة فترفعها قامة جبل وتبدو السفينة وسط البحر ككرة تتقاذفها الامواج فيما بينها. في تلك السفينة سترى أصنافاً عدة من البشر، منهم الاطباء والمهندسين والكتاب والفلاسفة والعلماء والمختصين في كل نواحي الحياة، ومنهم أيضاً أناس بسطاء وبلهاء، وحتى مجانين. الخوف والذعر فاق كل تصور، طائر الموت يحوم فوق رؤوسهم ورائحة الموت تزكم أنوف البعض منهم. صخب وضجيج، هرج ومرج ولسان حالهم يقول أنْ لا أحد منهم يفقه ما يقوله الآخر. البعض مشغول بالخمرة، والآخر بالنساء، فيما البعض الآخر منهمك في جمع المال، غير آبهين بما يحدث وما سيحدث لهم، ماذا سيحل برؤوسهم وأي شئ يأملون من هذا الوضع؟ بعد أن قرع قبطان السفينة ناقوس الخطر وكرره مرتين وثلاث وأعلن نداء الموت، استفاقوا قليلاً وعادوا الى رشدهم بعض الشئ. السفينة تتجه نحو الغرق، طُلب الى الركاب أن يساعدوا بعضهم البعض لأنه ليس هناك من خيار آخر، إما أن ينفذوا ويعيشوا سوية أو يهلكوا أجمعين، لا مفر لهم غير ذلك. لكنهم لم يتفقوا على القيادة والسيادة، فتفرقوا وأصبحوا مائة فرقة وجماعة، تناحروا وبدأ التحريض واشتعلت حرب الكلام والشتائم. هاجوا وماجوا، وبدأوا بالمواجهة ووضع الخطط وحوك المؤامرات. لم يدم الامر طويلاً حتى اصطدموا ببعضهم.. علا الصياح والزعيق.
بالسكاكين، بالاقداح والصحون، بالطاولات والكراسي، بالعصي، وبالصفعات والركلات هجموا على بعضهم وقامت القيامة. الدماء تجري حيثما وليت وجهك، لم يسلم من تدميرهم شئ.
الحقد والغضب أعمى عيونهم وبصيرتهم، ولم يعد أحد يأبه لأمرالسفينة والامواج، والموت المحيق بها.
في عقولهم وتفكيرهم تفحمت مبادئ الانسانية والمروءة، لا شئ غير الشر، والشر يولد شراً. لذلك فإن فئة قليلة فقط تنادت الى التعاون والتضامن فيما بينها، فيما قال الباقون للقبطان ورفاقه: ” كل يحمل أوزاره، هذا عملكم وأنتم تتقاضون عليه أجراً، أنتم لا تمنّون على أحد. ليحدث ما يحدث فالأمر لا يهمنا ولا يعنينا في شئ”. والحال هذه لن تنفع أية خطط أو ترتيبات لأنقاذ السفينة مما هي فيه. لذلك تداعى القبطان ورفاقه والفئة القليلة الى المشاورة، دار الكثير من الكلام وتبادلوا الآراء والنصح وناقشوا خططاً مختلفة، قيموها جميعاً فكان النجاح حليف رأي اقتنع به القبطان ورفاقه ولم يروا أفضل منه، وهكذا اتخذوا قرارهم فوراً. الاوضاع دقيقة والوقت لا يسمح لهم بإضاعته أكثر لأن مصيرهم تقرره الدقائق، لذلك شمروا عن سواعدهم وبدأوا بتنفيذ قرارهم وتطبيق الخطة. كان قرارهم كالتالي “يتم التحفظ على أدمغة جميع ركاب السفينة حتى تنتهي رحلتها”. توصلوا الى قناعة تامة بأن هذا القرار هو أفضل حل لهذه المعضلة حيث سيتمكنوا من انجاز ما عليهم من عمل ضروري، تدارك الوضع وانقاذ السفينة بركابها والنجاة من الموت. رجل ضخم الجثة، رث الهيئة بأسمال بالية، أشعث الشعر، علا الصدئ شعر لحيته وشواربه، امتنع عن تسليم دماغه فاضطر اثنان الى الامساك به. انتفض بين أيديهم يحاول التملص من قبضتهم، احتقن وجهه واحمر لونه حتى بات بلون الطماطم، انفجرت حنجرته بغضب صاعق ساد على أصوات الامواج المتلاطمة المجنونة: – اتركوني، لن تخرجوا دماغي، دون ذلك موتي، اتركوني وإلا قتلت واحداً منكم!
– اذكر الله يا رجل، اصبر قليلاً! أنت لست أفضل من هؤلاء جميعاً. ليس أمامنا غير هذا السبيل نسلكه عسى أن نتمكن من ايصال السفينة الى بر الامان… قال أحد البحارة. – تفو عليكم وعلى ما اخترعتموه من سبيل! أقذر طريقة، لا يفعلها حتى المجانين. أنتم مكانكم مستشفى المجانين، أنتم جديرون بذلك المكان الذي خرجت منه قبل أيام. أنا لم أفعل شيئاً كي تعاقبوني عليه، كنت هادئاً ساكناً طوال هذه الاحداث، أنا لم أقتل ولم تعدو عيناي الى نساء الآخرين ولم أشرب الخمرة، أية عدالة هذه؟ الكل شريرون إلا أنتم؟ كيف يجوز هذا؟… قال الرجل. أحد أقارب الرجل، ما إن سمع صرخاته وعياطه حتى هرع الى المكان وانحشر بين الجماهير المحتشدة حتى وصل الى القبطان وعروق الدماء في وجهه وعنقه تتلوى كأفاع، أمسك بربطة عنق القبطان وشدها وهو يهز سبابته في وجهه ويقول: – ماذا تريدون من هذا الرجل، ما الذي فعله؟ إنه نصف آدمي، يكفيه ما هو فيه من حال بائسة، بعملكم هذا ستعيدون اليه عقله فيرتكب جناية بحق أحدكم، سيقتل لا محالة! اعلموا أن القتل لديه أسهل من شرب الماء. لو لَكَمَ أحداً منكم فلن تسعفوه بشربة ماء، ولكنه، لطيبته، لم يفعل ذلك الى الآن. – ارفع يدك عني وانزل اصبعك الآن، كن شخصاً مؤدباً ولا تنفخ نفسك هكذا ، لسنا هنا خدماً تحت أمرة أبيك، لقد علقنا اعلانات في اربعة أو خمسة أماكن في السفينة تقول ” كل شخص يسافر في هذه السفينة ملزم بقوانينها وعليه اتباع التعليمات وعدم مخالفتها، وبإمكان من لا تعجبه هذه القوانين أن يسافر في سفينة أخرى لأننا لم نترج أحداً ولم نجبره على السفر معنا “… قال القبطان.
وعلى أية حال فقد تم تجميع أدمغة جميع ركاب السفينة وكوموها على طاولة ووضعوا على حراستها ثلاثة رجال غلاظ القامة كأنهم من زبانية الجحيم، صدورهم وسواعدهم وزنودهم وكل ناحية من أجسادهم مزينة بوشوم تصور رؤوس ثعابين وعقارب سوداء. كان الرجل الذي يشكو عطلاً في رأسه، يشكك في أمر بقية الركاب لأنهم كانوا يتصرفون بوحشية أثناء الاحداث، وبسبب ذلك دهم الخوف قلبه وخشي أن يسرق أحدهم دماغه ولذلك فقد اتخذ لنفسه مكاناً قرب زبانية الجحيم ولم يبرحه. عندما وصلت السفينة بخير وسلام الى نهاية الرحلة ورست في الميناء، هب الجميع مرة واحدة يتدافعون ويتزاحمون ويتراكضون كثيرانٍ انطلقت الى حلبة السباق، كلٌ يحاول الوصول الى الطاولة أولاً، قبل أن يأخذ أحدهم دماغه. خطا القبطان نحو الرجل المجنون، ابتسم له ثم أمسك بيده وسحبه نحو الطاولة قبل الجميع وقال له:
– يسرنا جداً الآن أن نعطيك الفرصة كي تختار لنفسك دماغاً يشتهيه قلبك، لقد قررنا مكافأتك لأنك خلال هذه الرحلة كنت الوحيد الذي التزم بكل قوانين السفينة ولم تتسبب في أي ضرر.
عقد ما بين حاجبيه الكثّين، صوب نظرة عينيه الغاضبة الى عيني القبطان، حدق فيهما لبرهة دون أن ترمش عيناه، انحنى بقامته الطويلة فوق الطاولة، التقط دماغه من بين كل الادمغة المكومة عليها ووضعه في مكانه داخل جمجمته.
التفت الى البشر الذين شكلوا طوابير طويلة أمام المنضدة وراح ينظر اليهم يمينة ويسرة، ثم أخذ يضحك. نثر في وجوههم ضحكة باردة وعلى وقع لحن خفيف راح يضرب الارض بقدميه ويتمايل بتساوق مع الموجات التي كانت تهز السفينة.