الليلة العصيبة

فصل من رواية

الليلة العصيبة

ثامر محمود مراد

دخلتُ صفا إعتياديا لمدرسة إبتدائية في تمام الساعة العاشرة ليلا. كان زميلي الجندي أحمد يرقد بطريقة مضطربة بعض الشيء على إحدى المناضد المدرسية لتلك المدرسة ألأبتدائية المستقرة في قلب مدينة الشورجة في محافظة كركوك. وقفتُ قريبا منه أتطلع الى تلك الطريقة المضحكة بعض الشيء وهو يضع فيها رأسه على يديه ويحاول أن يحلم أحلاما سعيدة في تلك ألأغفاءه غير المريحه. هل أتركه يواصل نومه أم ادفعه بقوه كي ينهض ليحل محلي في بوابة الوحدة العسكرية التي إتخذت من تلك المدرسه مقرا لها؟ حقا كنت مترددا في إتخاذ ذلك القرار.  كانت ألأصوات الغريبة التي تخرج من منخريه ترسل نوعا من الشرارات المؤثرة على مواقع الضحك في ذهني فتجعل إمكانية السيطرة على فكري شيء مستحيل، حاولت أن أتمالك نفسي كي لاأنفجر ضاحكا ولكن دون جدوى.. وفي نهاية المطاف إنفجرتُ ضاحكا رغما عن أنفي. قفز أحمد من رقدته غير المريحه وهو يصرخ بصوت مرتعب:

–” ها.. ها.. جاءوا.. هجموا؟” أخذ ينظر الي بقلق شديد وهو يفرك عينيه. توقفتُ عن الضحك وظهرت علامات من الحزن والتأثر على روحي فجأة . شعرت ببعض الحرج وأنا أشاهد بعضا من الخطوط الغريبة التي كانت قد إرتسمت على وجهه. صرختُ بطريقة حاولتُ فيها أن أظهر بعض الود:

–” من هم الذين جاءوا؟ ماذا تقصد بكلمة – هجموا-“؟. فرك عيناه بتثاقل.. دقق النظر الى ساعته. قال بهدوء:

–” إعتقدتُ أن البيشمركه قد هجموا علينا. يا الهي، يا له من كابوس مزعج:!.

دون أن ينتبه الى علامات التأثر التي حطت عصا ترحالها على وجهي، نهض بتثاقل. علق بندقيته على كتفه وشدَّ صدرية الرصاص على صدرهِ وهو يقول :

–” سوف أذهب الى بوابة المدرسة. حاول أن تنام بملابسك كلها.. من يدري قد يحدث شيئا ما”.  صمت قليلا ، أدار نظراته الى كل زاوية من زوايا ذلك الصف الدراسي وتحسر بصوت مسموع وكأنه كان يحسدني على جلوسي فوق نفس المنضدة التي كان قد نام عليها قبل قليل.إختفت خطواته وهو يتجه ناحية البوابة الخارجية لبناية المدرسة التي وقفت شامخة وسط المدينة الصامتة. حاولتُ أن أخلد الى النوم أو لنقل أجبر نفسي على النوم فقد كانت تلك الليلة حسب تعليمات السيد ألآمر ليلة حرجة حسب الطريقة التعبوية لسياقات القوانين العسكرية. ليلة تحسب وإنتظار حدوث شيء ما، قد يكون له دور مهم في مصير الوحدة العسكرية التي أنتمي اليها أو باقي الوحدات التي إنتشرت على مناطق مختلفه من المدينة. وضعتُ رأسي فوق يدي اليمنى في حين بقيت يدي اليسرى تحتضن البندقية الى جسدي الذي كان ألأرهاق قد شق فيه طريقا طويلا. كنا سبعة جنود فقط أو ربما أقل من هذا العدد.لم يلتحق بقية الجنود بعد عودتنا من أرض الكويت.  لاأدري هل أن بعضهم قد تمزق جسده في الصحراء أثناء الغارات الجوية ألأمريكية على الجيوش المنسحبة في نهاية شهر شباط ، أم أن قلة تواجد وسائل النقل وتهشم الجسور هو الذي منعهم من ألألتحاق.  أشياء كثيرة كانت تدور في ذهني وأنا اضع رأسي فوق يدي اليمنى.

دون وعي إنتقل ذهني الى مملكتي الصغيرة واقصد – البيت–. تراءت لي صورا مؤثره الى حد ما. صورة أولادي الثلاثة الصغار. ألابن ألأكبر- خمس سنوات وألأبن ألاخر ثلاث سنوات والبنت الصغيرة سنتين. جلسوا مع بعضهم البعض بطريقة متلاصقة وسط الغرفة الباردة جدا رغم توهج المدفأة القديمة.  كنت أخرج من غرفة ألأستقبال لأدخل غرفة النوم ثم أتجه الى المطبخ بعدها أعود الى الغرف ألأخرى محاولا إخفاء بوادر القلق التي ظهرت على وجهي وأنا أحاول ترتيب ملابسي العسكرية وأحاول ان أتصرف بطريقة طبيعية تطرد بوادر الشك التي كانت ترتسم على وجوه أبنائي الصغار. كانول يتطلعون اليّ بطريقة ممزوجة بالأعجاب لتلك ألأشياء العسكرية التي كنتُ أرتديها ولذلك الحذاء الضخم نوعا ما وتلك الفروة الدافئة وتلك البندقية الكبيرة. وتارة أخرى تنعكس على وجوههم صورة من صور الخوف ..من المجهول.. صورة تنبؤ لا محدود تخبرهم من أن ثمة شيء ما قد يحدث لوالدهم. وأنا احمل الحقيبة من على ألأرض قال ولدي الكبير ذو الخمس سنوات

… ” بابا هل أنت ذاهب ألأن؟”.

توقفتُ قليلا وأرسلتُ نظراتي الى وسط عينيه. لم أنبس ببنت شفه.  شعرتُ أن تلك العبارة قد رسمت لي سؤلا مبهما.لم يفعل ذلك من قبل. لم يستيقظ أبدا في مثل تلك الساعة المبكرة من الصباح طيلة تواجدي في الخدمة العسكرية. الغريب أنه كان لايطيق أشقاءه ألاصغر منه سنا. كانا بمثابة عدوان لدودان له وكان يشعر أنهما يسلبان جزءا من الحب الذي كان والده يغدقه عليه.. ولكن جلسته الغريبة مع كل من أخيه وأخته في تلك اللحظة وذلك الشكل قد جعل الشك والحيرة تنسلان الى قلبي بطريقة لا إرادية. دون وعي قلتُ له:

..” نعم ..سوف أذهب لأتسرح من الخدمة العسكرية”.

..” ولكنك تسرحت من الجيش ،  لقد جئت قبل إسبوعين”. توقفتُ عن الحديث معه. كان الثلاثه ينظرون اليّ بصمت. كان مشهدا مؤثرا جدا بالنسبة لي. خرجتُ من باب المطبخ. توقفتُ قليلا. نظرتُ الى زوجتي التي كانت تنظف بعضا من ألأطباق الزجاجية بَيْدَ أن حركة أناملها وألأصوات غير المألوفه لحركة ألأطباق كانت تدل على أنها لم تكن تنظفها بل كانت تحاول إخفاء حاله خاصة من الرعب الحقيقي الذي كان يسيطر على كل جزء من أجزاء جسدها النحيف. نظرت ناحيتي وقد ظهر شيء غريب في عينيها… وأرادت أن تقول شيئا ً ما، وحاولتُ بدوري أن أقول لها ” الى اللقاء” ولكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح. كان الموقف بالنسبةِ لي أقوى من التركيبة الفسيولوجية للجسد البشري. لم أستطع أن أودع والدتي رحمها الله فقد كنتُ غير قادر على دق باب غرفتها في ذلك الصباح الباكر…ودعتها الى ألابد فقد فارقت روحها الطاهرة الحياة بعد شهرين من غيابي. ماتت حزنا وهما وغما لشدة فراقي.

حينما أصبحتُ خارج البيت ، دون وعي التفتُ الى الوراء ..كان مشهد البيت من الخارج حزينا كئيباً وكأنني اودعه ومن فيه الوداع ألأخير. توقفتُ عند حافة الشارع مع” طارق” أحد أقربائي ننتظر سيارة ما تنقلنا الى منطقة العلاوي في بغداد ومن هناك نذهب الى وحدتي العسكرية في كركوك.كانت رياح الصباح باردة نسبيا على الرغم من قدوم فصل الربيع.لم تكن الشمس قد ظهرت في ألأفق بعد. حركة السيارات قليلة جدا لا بل تكاد تكون معدومة تماما. نظر اليّ طارق جندي القوات الخاصة الذي كان هو ألأخر يروم الذهاب الى وحدته العسكرية في نفس المحافطة التي كنتُ أريد التوجه اليها في تلك اللحظة. قال بهدوء:

..” إذا لم نجد سيارة في غضون عشرة دقائق نعود الى البيت على أن نذهب غداً. لا توجد سيارات في هذا الظرف الصعب الذي يمر فيه البلد”. نظرت اليه وكأنني كنت قد وجدت ذريعة مناسبة للعودةالى البيت.تمنيت أن تنقطع حركة المرور في ذلك الصباح تماما.ولسوء الحظ أو لحسن حظنا توقفت سيارة أجرة أمامنا قبل أن تنتهي فترة العشرة دقائق. أسرعنا اليها. عندما إستقريتُ في المقعد المخصص لي سافرت أفكاري بعيداً وأمتدت نظراتي نحو ألأفق البعيد. مرت السيارة بعد لحظات من أمام ثانوية نبوخذ نصر للبنين. أحسستُ أن روحي قد تعلقت بأحد المنازل القريبة منها حيثُ كان بيت أخي يقع الى جوارها. تمنيت أن أهبط منها لا بل أطير من خلال نافذتها القريبة وأحط على منزل شقيقي الذي ترعرعت وكبرتُ فيه. شعرت أنني ألقي النظرة ألأخيرة على جثه هامدة تكومت بين أنقاض النفايات وركام المنازل المهشمه على إثر غارة جوية حاقده. دبّ الى قلبي طيف لايقاوم من الرغبة الى نحيب طويل. تلاشت معالم البيت خلفي وفي النهاية إختفى الى ألأبد. ظلت السيارة تشق عباب الصمت في ذلك الصباح الكئيب. تطلعتُ الى طارق فوجدتُ وجهه ألاسمر قد إعتراه صمت لايقاوم وإرتسمت على محيّاه علامات حزن دفين. توقفت السيارة عند جسر المشاة القريب من منطقة العلاوي. ترجلنا بكسل وكأننا نُساقُ الى حتفنا المجهول. المنطقه غريبة جدا.. أقصد لم تكن على حالتها ألأعتيادية اليومية قبل القصف الجوي على بلدنا الحبيب. قبل الهجوم كانت منطقة العلاوي في ذلك الوقت المبكر كأنها مدينة أعراس زاهية أو كأنها منطقة قد خُصصت للحياة بكل معنى الكلمة. حيث يجد المرء باعة المأكولات الشهية منتشرين في كل ركن من أركانها،  وباعة الشاي يفترشون ألأرض وتدعوك رائحة الشاي من كل حدب وصوب. ياالهي كم أن تلك المنطقة تستهوينني منذ عام 1977 حينما كنت طالبا في كلية ألأداب. إعتدتُ  أن أحط فيها كأنني طير قادم من بين الوديان والسهول الخضراء لأجد فيها ظالتي المنشودة كل صباح. كنتُ أترك قريتي الصغيرة قرية آل عويف، في الخامسة صباحا وعند السادسة أكون في منطقة العلاوي حيث أتناول فطوري الصباحي. أما ألان فهي مدينة خاوية. شعرت بذلك المشهد الذي  يعصر القلوب عصرا لا بل يحيله الى قطعة من الكآبه وألأحزان. وجدتها  منطقة من نوع آخر. مدينة مليئة بالجنود.. مئات..لا بل آلاف الجنود وقد حمل كل واحد منهم أحزانه على كاهله.. كل واحد يود الذهاب الى وحدته العسكرية أو الى جهةٍ أخرى.

وضعتُ حقيبتي بين قدميّ.  وقف طارق الى جانبي. بين لحظه وأخرى أوقد سيكاره أروم من خلالها تهشيم جزءا من جدار الهم الذي أحاط كل جزء من أجزاء روحي المرهقه أو طرد شبحا  من أشباح الغم الذي حلق فوق شغاف  فؤادي الحائر. نظر طارق الى وجهي ثم أطلق زفره مسموعه وقال بهدوء:

..” إسمع، إذا لم نحصل على سيارة في وقت قصير من ألأن فسنعود الى البيت دون إبطاء فقد سأمت هذا ألأنتظار”. كانت طريقته في الكلام قد جلبت لفؤادي نوعا من الحزن والفرح في وقت واحد. إعتراني نوع من الفتور والحزن لأنني شعرتُ أن صديقي قد فقد السيطرة على أعصابه بسبب ألأنتظار الطويل.. وشعرتُ بفرح مفاجيء كوني سأعود مرة أخرى الى البيت كي أشاهد أطفالي ووالدتي وزوجتي فقد شعرت برغبة عارمة لرؤيتهم مرة أخرى على الرغم من أنني كنت قد  فارقت البيت قبل وقت قصير، وأنا في خضم ذلك ألأنتظار وألأندحار وألأنكسار توقفت سيارة كبيرة على بُعد أمتار من صديقي طارق وراح سائقها يصرخ بصوت مرتفع” كركوك، كركوك”. وقبل أن يرتد لي طرفي شاهدتُ طارق يقفز بطريقه عجيبه وكأنه ضبي يقفز من صخرة الى أخرى فوق إحدى الروابي الشاهقة الممتدة في منطقة جبلية وعرة. وفي لمح البصر ركضتُ خلفه وفي غضون دقائق قليلة كانت السيارة تشق بنا عباب الهواء صوب مدينة كركوك. أسندتُ رأسي الى الخلف وحاولت إجبار ذاتي للعوم في إغفائه قد أتمكن من خلالها طرد شبحا الحزن والشعور بالأنكسار، إلا ان عيناي سافرتا بلا هدف نحو الجانب ألأيمن ثم الجانب ألأيسر لذلك الشارع الطويل.لقد أحسست أن قبضة فولاذية تعصر قلبي وتحيله الى هشيم تذروه الرياح.

شاهدتُ منشآت وبنايات كثيرة تحولت الى أكوام من الركام الهش من جراء القصف ألأمريكي. لماذا كل هذا الدمار؟ آلاف من ألأسئلة كانت تدور في رأسي وتعصر قلبي. هل كان بالأمكان تجنب كل تلك الهجمات وتلك الحروب التي مزقت بلدنا سنة بعد أخرى؟ منذ أن أدركت الحياة والعراق يخوض حروبا لاتنتهي.حروب مع الجيران .. وحروب مع كل العالم..سقط فيها آلاف لابل ملايين القتلى. كان بأمكان العراق أن يتحول الى جنّه حقيقية لو كان قادته قد قادوه الى الطريق الصحيح..ولكن قادوه الى سلسلة من الدمار الشامل. بعد مفارقات كثيرة حدثت لنا في الطريق وصلنا المدينة بعد ظهر ذلك اليوم. تجولنا في شوارع عديدة وطرقات مختلفة نسال عن وحدتي العسكرية وكان الفضل في هذا يعود الى الصديق طارق فقد كان يعرف كل زاوية من زوايا تلك المدينة..لأنه تخرج من أحد معاهدها وخدم وقتا ليس بالقصير في إحدى مدارس القوات الخاصة فيها، في حين أنني كنتُ على عكسه تماما فقد كانت كل خدمتي العسكرية في البصرة وهذه أول مرة أزور فيها هذه المدينة. بعد أن دب السأم والتعب الى جسدينا جلسنا في إحدى الحدائق العامة في محاولة يائسة لأزالة جزءا من ألارهاق الجسدي والنفسي اللذان كانا قدسحقا روحينا سحقا لاهوادة فيه. فتحت كيسا متوسط الحجم وأخرجتُ ماكانت زوجتي قد وضعته لي عند الصباح الباكر حينما تركتُ البيت. نظر طارق الى المحتويات الغذائية وقد إتسعت عيناه من الفرح والسرور والدهشة فقال بصوت كوميدي:

..” واو..واو..بيض مسلوق، طماطه، بصل، خبز، بطاطا مسلوقه؟ كيف جلبت هذا ومتى؟ أكاد أموت من الجوع”. وقبل أن تمتد يده الى الطعام قلتُ له:

..” سوف أجعلك تأكل معي بشرط أن تجد لي وحدتي العسكرية..ولكنني لااعرف اين اذهب؟”. ضحك طارق وهو يقول:

..” بعد تناول هذه الوجبة الدسمة سوف أجد وحدتك العسكرية بأي ثمن، فقط دعني أتناول راس البصل هذا”. حينما قال طارق – الحمد لله الذي رزقنا من فضله- وهو ينفض يده من الطعام وكانت الدماء قد عادت الى عروقه من جديد. وضعتُ بقية الطعام في الكيس وقبل أن أقفل- سحّابها- قفز طارق بأتجاه الشارع العريض الذي كان يُحيط بذلك المتنزه. إعتراني سيل من ألأندهاش لتلك الحركة غير المتوقعة. إعتقدتُ أن مسا من الجنون كان قد تلبسهُ. كان هناك رجلا كبير السن من شرطة الحراسة يمتطي دراجة هوائية وقد علق بندقيتهُ في كتفه كي يتمكن من قيادة دراجته بطريقة سهلة.

دون سابق إنذار وقف طارق وسط الشارع وهو يطلب من ذلك الشرطي أن يتوقف. ظهرت علامات حيرة وإندهاش على وجه الرجل لذلك التصرف الذي ابداه صديقي حيثُ كان يرتدي زي القوات الخاصة–. ترجل الشرطي من على دراحته وظل ينظر الى صديقي دون أن يتفوه بكلمة واحدة. بادرهُ  صديقي بلهجة ودودة وقد إرتسمت على شفتيه إبتسامة عريضة.

…” عفوا أيها العم، أين يقع مقر الوحدة”…..”من الفرقة” …” الفوج “…”أنا ابحثُ عن مكانها منذ زمن طويل. هل يمكن أن تساعدني في هذا ألأمر؟”. تنحنح الرجل وقد تنفس الصعداء بعض الشيء. عدل من وضع البندقية وهو يقول بهدوء:

…” إنها هناك في منطقة الشورجة حيث توجد هناك دبابة أمام مدرسة إبتدائية. المدرسة هي مقر الوحدة العسكرية التي تبحثُ عنها “. شكرهُ صديقي بحرارة مطلقة ثم إعتذر منه فيما إذا كان قد سبب له أي إزعاج.عاد طارق مهرولا نحوي وقد ظهر على وجهه نوعا من السعادة الغامرة. نهضتُ من مكاني وسرتُ صوبه بهدوء.قال بصوت مرتفع نسبيا:

…” ألم أقل لك بأنني سأجد الوحدة العسكرية التي تنتمي اليها؟ فلنذهب الى تلك الناحية.إنها قريبة من هذا المكان”.سرنا جنباً الى جنب. أحسست ان هما كبيرا قد إنزاح عن كاهلي. شعرت أنني أتجه الى بيتي الحقيقي وليس الى وحدة عسكرية في زمن محفوف بالمخاطر.إخترقنا سوقا جميلا..كل شيء يدل على هدوء تام وحركة حياة إعتيادية جدا عدا أن بعض الطرق كانت قد خلت من ألأزدحام السكاني.توقفنا عند الدبابة الجاثمة أمام المدرسة ألأبتدائية التي كان الشرطي قد وصفها لنا. كان هناك جنديا بالقرب من الدبابة يدخن سيكارة. تطلع الينا بفضول .ساله طارق عن مكان الوحدة العسكرية التي أنتمي اليها..أشار الينا بيده التي كانت تحمل السيكارة دون أن ينبس ببنت شفه. نظر الي طارق وقد ندت عنه زفرة تنفس طويلة كما لو أنه كان قد وصل الى هدفه المنشود بعد صراع طويل. دون أن يشعر بأي ضرب من ضروب التردد توجه الى الغرفة الوحيدة عند المدخل الرئيسي. طرق الباب بهدوء ثم دخل عند سماعه ألأذن بالدخول. قال للضابط الوحيد الذي كان جالسا في الزاوية اليمنى.

…” عفوا سيدي، هل هذا هو مقر الوحدة”…….”؟  نظر الضابط اليه بفضول وهو يتظاهر بالصرامة وعدم المبالاة.:

…” نعم ..تفضل…أنا مساعد ألآمر..الملازم ألأول باسم”.

نظر الي طارق حيث كنت واقفا عند حافة الباب. حاول صديقي أن يبدو مرحا بعض الشيء. أراد أن يلطف الجو الكئيب الذي كان قد أسدل ستائره على مظهر الملازم ألأول:

“…هذا الجندي المكلف، أعتقد أنه أحد جنودكم..جئت معه وكنا نبحث عن هذه الوحدة العسكرية منذ الصباح…لن اذهب من هنا إلا إذا تأكد صديقي من أن هذه الوحدة هي التي كان يبحث عنها”.

تقدمت الى جانب صديقي كي أطمأن الى أن الضابط هو أحد ضباط وحدتي حينما كنا معا في صحراء الكويت.نهض الملازم ألأول وهو يقول بصوت حاول أن يكون من خلاله جديا بعض الشيء.

…” أهلا ..أهلا..هل لازلت على قيد الحياة؟ الحمد لله على سلامتك. كيف حال البقية الباقية من الجنود؟”. دون وعي تقدمتُ نحوه وصافحته بحراره وأنا اقول:

…” الحمدُ لله على سلامتك ياسيدي. الحقيقة أنني جئت لوحدي. لم أر أي شخص من وحدتنا حتى هذه اللحظة. لقد عانيت الكثير الى أن وصلتُ الى بغداد من صحراء الكويت. لم أكن أتصور أنني سوف أعثر على وحدتي أبدأ. بحثنا عنها في كل زاوية من زوايا كركوك وبطريق الصدفة جئنا الى هنا.” بعد ألأنتهاء من مراسيم التحيات والمجاملات توجهنا الى أحد الصفوف الدراسية حيث وجدنا سبعة جنود وقد جلس بعضهم على ألأرض في حين جلس الباقون على مقاعد الدراسه وكأنهم تلاميذ وكل واحد منهم كان منشغلا بشيء ما. ودعني طارق على أمل أن يعود في يوم أخر حينما يصل الى وحدته…وحدة القوات الخاصة..

قضيتُ تلك الليلة فرحا جدا لعدة أسباب: أولا أنني كنت قد وصلتُ الى وحدتي سالما بعد ذلك الطريق الطويل جدا.ثانيا : لقد تم إلان تسريح مواليدي وجئتُ لأتمام أوراق إنهاء الخدمة العسكرية.وثالثا: هذه هي المرة ألأولى التي أزور فيها هذه المحافظة ولحسن الحظ كانت وحدتي تقع في وسط المدينة. هذا سوف يمنحني فرصة جيدة لأكتشاف كل مايتعلق بهذه المدينة الجميلة. سارت ألأيام الثلاثة ألأولى التي قضيتها في تلك المدرسة ألأبتدائية خالية من أي شيء جديد أو مثير. كان عدد الجنود لايزيد على السبعه من مجموع كل اللواء ، ولاادري سببا لذلك. هل تلاشت أشلاء بعضهم في الصحراء الشاسعة الممتدة بين منطقة المطلاع وبين مدينة البصره من جراء الغارات ألأمريكية التي كانت تشنها الطائرات الوحشية التي لاتميز بين شيء وآخر؟ أم أن صعوبة المواصلات بين المحافظات وتهشم الجسور الممتدة على طول نهري دجلة والفرات هي التي كانت عائقا اساسيا في تاخير وصولهم؟. أما بانسبة لي فقد كانت تلك ألأيام الثلاثة مثيرة نوعا ما. لقد سمح لنا السيد ألآمر بالتجول داخل ألأسواق والذهاب الى حمام المدينة. جذبتني أسواقها ومحلاتها التجارية وشاي مقاهيها اللذيذ. كانت تلك الزيارات الخاطفة لاتخلو من المخاطر حسب قول السيد ألآمر، لذلك كنا نذهب على شكل مجاميع حاملين السلاح ومتوخين الحذر الشديد. في إحدى المرات قال لنا ألآمر:

..” ذمة في رقابكم ، إذا كنتم تسيرون في السوق وأطلق عليكم أحد المخربين طلقه واحدة..إقتلوا كل من يقع في طريقكم..إجعلوها مجزره حقيقية”. تلك العبارة جعلت الوحشه والرعب تدبان الى أوصالي بصورة جدية لأنني كنت أستبعد حدوث أي شيء من هذا القبيل لأن السوق كان هادئا وحركة المارة طبيعية جدا.

في أمسية اليوم الثالث جاء طارق مرة أخرى كي يطمأن على سلامتي أو هذا ما كنتُ أعتقده..ولكن المسألة كانت مغايره تماما. حينما جلس طارق في المكان المخصص لنومي قال:

…” أنا جائع جدا هل لديك شيئا ما أسد به رمقي؟”. بعد إستضافته وتقديم الشاي له قال بنبره جديه:

…” إسمع..ساترك الوحدة التي أنتمي اليها واسجل إسمي في وحدتك العسكرية ..سوف أقول لهم بأنني لم أتمكن من العثور على وحدتي العسكرية الخاصة.سأخدم هنا معك لحين إنتهاء خدمتي العسكرية”. ضحكتُ بصوت ضعيف وقلت له:

…” لابد أنك تمزح..هذه واحدة من المزح التي أنت خبير بها”. هنا إلتفت الي وقد ظهر على وجهه نوع غريب من الجدية المطلقة.

…” إسمع..أنا لا أمزح..وسوف افعل ماقلته لك. الوضع خطير جدا هناك وهذه المدينة التي أنت فيها أهدا بكثير وإمكانية إنقاذ النفس أوفر”.

خيم صمت مميت على ذاتي وشعرت أن الوضع أعقد مما كنت أتصوره. على حين غره قلتُ لهُ:

…” إسمع ياصديقي، هذا لايمكن أن يكون..لقد سمعتُ أن البيشمركه..قد يشنون علينا هجوما مباغتا في أيةِ لحظه. هذه المنطقه خطره جدا وإذا نفذت مايدور في ذهنك ستكون في الدوريه الخاصة بالكمائن هذه الليله.”. حاول طارق أن يقنعني بشتى الوسائل بيد أنني رفضت رفضا قاطعا. حينما تركني عائدا نحو المجهول شعرتُ بوحشه لاتطاق.أحسست أنني اودعه الوداع ألأخير.ذهبت الى زاوية من زوايا المدرسه وجلست وحيدا. أرسلت نظراتي الى ألأفق البعيد وبدأت أستعيد ذكريات عديدة كانت تجول في ذاكرتي..إسترجعت فيها طفولتي وصباي حينما كنت التقِ بطارق وبقية ألأصدقاء.

عند حلول الظلام كان الوضع غير طبيعي..ألآمر ينتقل بسيارته الى مناطق مختلفه من المدينة وكأنه يريد أن يطمأن على بقية المواقع العسكرية التي كانت تابعة لنا. في تمام الساعة الثانية عشرة ليلا جاء زميلي ” أحمد” الحرس في بوابة المدرسه راكضا نحوي..هز كتفي بعنف وهو يصرخ:

…” إنهض..إنهض..أنت نائم والجو يحترق! سنموت..لقد أحاطو بالمدرسه من كافة الجهات.” فركتُ عيناي وتطلعت اليه برعب قائلا:

…” ماذا..؟ ماذا..؟ من هم؟”. صرخ مرة أخرى.

…” إستعد..إحمل بندقيتك..هيأ نفسك..سنموت لامحاله”.

دون وعي رحت ألملم ذاتي وأهيأ مُعِداتيْ..وكان ألأرتباك قد سيطر علي تماما..خرجنا الى ساحة المدرسة. لم يكن هناك سوى ثلاثة جنود. فجأة جاء الملازم – نبيل وهو من مدينة البصرة. قال:

…” إصعدوا الى سطح المدرسة وإستلقوا هناك على بطونكم..إذا هجموا حاولوا أن تنقذوا أنفسكم بأي طريقة”.وصعد هو ألأخر معنا. إستلقيت الى جانب أحمد. فجأة صرخ قائلا:

…” هناك..هناك..إنظر إنهم يتقدمون نحونا بالآلاف”. إستدرتُ الى الخلف حيثُ ساحة المدرسة.شاهدتُ شيئا أسودا يتحرك أو هذا ماكان قد بدا لي. دون وعي شرعتُ أطلق النار الى الخلف. سحبني بشدة وهويصرخ” سوف تقتلنا جميعا..إذا أطلقت النار ستنهال علينا الطلقات من كل حدب وصوب”. إستلقيت الى جانبه وشاهدت شيئا غريبا لم أره في أي هجوم سابق. كانت النساء الكرديات والتركمانيات يصفقن ويزغردن في الشارع والرجال المدججين بالسلاح وهم يطلقون النار علينا وعلى كل وحدة عسكرية هناك. لم نعد نعرف ماذا نفعل. قال أحمد:

…” فلنهبط من الجهة الثانية للمدرسة، سنحاول أن ننقذ أنفسنا.”. كانت مشاعر غريبة تتصارع في ذاكرتي.” ماذا نفعل ؟ عددنا قليل..وأفواج ألأكراد تزداد من كافة ألأتجاهات”. كانت هناك طائرة سمتية واحدة فقط ترسل ضياءها الواضح من إرتفاع قريب.لم تستطع أن تفعل أي شيء. إنهالت عليها الطلقات من جهات مختلفة مما دعاها للهرب بشكل سريع.

كانت بناية المدرسة تتكون من طابقين. ركضت أنا واحمد والملازم نبيل وجعفر وشخص أخر لم أعرف إسمه متجهين الى الجهة البعيدة من سطح المدرسة. نظرتُ الى ألأرض. ياالهي كيف يمكن أن نقفز من ذلك السطح الشاهق ألأرتفاع.؟ القفز معناه الموت ألأكيد. صرخ أحمد:

…” فلنقفز….سنموت بعد لحظات هنا”.دون وعي علقت بندقيتي في كتفي والتصقت في الحافة الحادة للسطح العالي. لم أستطع أن أفك يدي. فكرت مع نفسي…” سأموت فورا إذا سقطتُ على ألأرض المبلطه بالأسمنت”.بَيْدَ أن صرخات أحمد الهيستيرية جعلتني أفتح قبضتي. شعرتُ بالهواء البارد يرتطم بجسدي أثناء الطيران في الهواء. أحسست أن قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي ليخرج الى الفضاء الفسيح. عند لحظة إرتطامي في ألأرض كان جسد أحمد قد تكوم فوق كتفي. سقطت نظارتي الطبية وسحقها أحمد بحذائه العسكري فتحولت الى قطع صغيرة من الزجاج. تركتها على ألأرض مهشمه. حاولتُ النهوض إلا أنني لم أستطع. كان ألألم شديدا لايحتمل.سحبني أحمد بقوه وهو يصرخ:

…” إنهض..إنهض..سوف يقطعوننا الى قطع صغيرة، فلنختبيء خلف تلك الصفوف الدراسية القريبة من ذلك الجدار.” ركضتُ خلفه وألألم يكاد.يمزق ظهري. شعرتُ أن العمود الفقري يكاد ينفصل عن جسدي بَيْدَ أن شدة التشبث بالحياة أعطتني طاقة إضافية للتخلص من ذلك المكان واللجوء الى مكان أمين .

عندما جلسنا خاف تلك الصفوف الدراسية كانت السماء قد شرعت ترسل أمطارها الغزيرة جدا وكانت ألأرض موحله جدا. شعرتُ بالمياه تنسل من خلال ملابسي العسكرية فتستقر في داخل جسدي. كانت أجسادنا ملاصقه لبعضنا البعض. بقينا على هذه الحالة أكثر من ساعة. كانت أفواج ألأكراد قد دخلت المدرسة وأستقرت داخل الغرفة المخصصة لأدارة المدرسة…وجاءت رائحة الدخان من جراء إضرام النار في كل قطعة آثاث داخل الصفوف.إزدادت الطلقات النارية بشكل مرعب وشعرتُ أن الموت قد أصبح على بُعد خطوات منا. لحظات عصيبة جدا. تمنيتُ أن تنفذ عدة طلقات الى قلبي كي أتخلص من ذلك ألاضطراب النفسي الذي كان قد سيطر على كل عصب من أعصابي. دون وعي مد أحمد يدهُ ومسك يدي وهو يقول بهلع تام: …” إمسكني جيدا..فلنمت معا..إنها النهاية..”. جاءت صور من الحياة التي كنت قد عشتها منذ طفولتي حتى لحظة ألأحتظار تلك. جاءت صور متفرقة من المدرسة ألأبتدائية حتى لحظة تخرجي من الكلية..لمحات من خدمتي في الجيش..أحلامي الكثيرة التي كانت تراودني في الزمن الماضي..وفي النهاية قلت لنفسي:

…” سأفكر بأطفالي الثلاثة الصغار قبل أن ألفظ أنفاسي ألأخيرة. تخيلتهم كيف ينامون مع والدتهم في غرفة واحدة؟ وكيف أن زوجتي كانت تُرضع طفلتي الصغيرة.ياالهي كيف ستتحمل زوجتي نبأ موتي؟ كيف ستربي أبنائي؟ ومن أين ستنفق عليهم؟. لم أترك لها سوى عشرة دنانير..

وماذا ستفعل بهذه الورقة الصغيرة في أمواج الحياة الصعبة؟ سالت دموع حاره غسلت خدي الملتهب حرارة وإضطراب، وفي النهاية حاولتُ أن أطرد تلك الصورة المؤلمة وأفكر بواقعية الظروف المحيطه بي..

وهل ستدوم سلسلة الحياة هنا أم سيتقطع جسدي الى أجزاء متناثرة كما حدث لبعض من أصدقائي في صحراء الكويت من جراء الغارات المرعبة لتلك الغربان السوداء التي تعود الى القوات ألأمريكية والدول المتحالفة معها؟؟……..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“الفصل ألأول من كتاب – عندما يتكلم الجندي المجهول- عن الهزيمة من صحراء الكويت. وتمزق الجيش العراقي عام 1991”.

مشاركة