مدونة نجيب محفوظ
اللص والكلاب
احمد خلف
بغداد
سئلت ذات يوم عن روايات نجيب محفوظ من هي الأقرب الى نفسي ومن هي التي أعود اليها ثانية واسعى الى فرزها عن غيرها من روايات سيد الرواية العربية؟ قلت في حينها:
– ثلاث روايات وجدت لها في عقلي وقلبي مكانة تليق بها، الاولى: (زقاق المدق) والثانية: (اللص والكلاب) التي كتبها نجيب بعد انقطاع دام ثماني سنوات حتى خيل لنا انه لن يكتب بعد الثلاثيه رواية، فقد طال انقطاعه عن كتابتها، والثالثة: (الشحاذ) التي اعتبرت من الروايات التي تصدت لأزمة اليسارالعربي والمصري ــ على وجه الخصوص ــ بكل شجاعة وكذلك كشفت عن الخلل الذي عاشته الاحزاب اليسارية العربية في تلك المرحلة، مرحلة الصراع السياسي على السلطة اومحاولة اسقاط السلطات الجائرة التي اختصت باضطهاد الوطنيين والانسانيين والتقدميين من ابناء البلد والخيبات التي لحقت بهم في ستينيات القرن العشرين مع التيارات الاخرى ذات النهج القومي اوالنزوع البرجوازي، وقد جاءت الشحاذ لتقدم لنا كيف يمكن للرواية كفن ان تتناول المعضلات السياسية والاخلاقية والفلسفية الشائكة التي يرتبط بعضها بقضية شغلت العديد من الفلاسفه الا وهي مسألة الزمن (وقال شيء انه لا الم بلا سبب وان اللحظة الفاتنة الخاطفة يمكن ان تمتد في مكان ما الى الابد، وقد يتغير كل شي اذا نطق الصمت وها انا اضرع الى الصمت ان ينطق، والى حبة الرمل ان تطلق قواها الكامنة وان تحررني من عجزي المرهق…/ الشحاذ / ص110) علينا ان نلاحظ تبدل لهجة الخطاب في سرديات نجيب محفوظ ، اعني بين رواياته الواقعية وبين نبرة خطاب عمر الحمزاوي في المقتطع الذي قدمناه الآن من رواية الشحاذ ولاحظ نبرة العجز التي يعاني منها بطل الشحاذ ويأسه من عودة ايام النضال والامل الى سابق عهدها وبين لهجة رواياته الواقعية التي سبقت المرحلة الثانية ونعني بها الروايات التي جاءت بعد فترة الصمت المعروفة، مثل رواية اللص والكلاب والشحاذ والطريق وميرمار وغيرها، لقد اصبح اسلوب نجيب يتسم بالمرونة ونغمة فلسفية شفيفه مبعثها ادراك نجيب محفوظ التبدلات الهائلة في طبيعة عصرنا والمراحل سريعة التغير، وهو تغير لم يكن مفاجئا لعمر الحمزاوي السياسي والمناضل في صفوف اليسار المصري والمحامي البارع، لا يمكن ان تكون احداث الثورة مفاجئه له ولكنه لم يعد قادرا على الانسجام مع تشريعاتها ومقدرتها في التاثير في هذا الواقع الذي لم يستطع لا هو ولا جماعته ان يغيروه، واستطاع الحمزاوي ان يقدم تعريفا واحدا لمعنى الحياة التي ظل يعاني من شرورها والخيبة التي لحقت به منها، اذ قال:) الحياة هي الحياة. ص85) ولا نلمس روح السخريه هنا بل ندرك معالم اليأس من كل شيء يدور من حوله وهو غير قادر على التاثير فيه، ولكي يكشف ابعاد هذا اليأس، ينبري الحمزاوي في سخرية لاذعة من الفن باعتباره احد العوالم المخلّصة للانسان من عذاباته وهمومه يقول في: ص 137 وذلك مقارنة مع العلم الذي تجاوز التوقعات والاحتمالات: (لم يعد هذا مقنعا في عصر االثورات الجذرية عصر العلم وقد تبوأ العلم العرش فوجد الفنان نفسه ضمن الحاشية المنبوذه الجاهلة).
لكن الروايه التي جعلتنا نحتفي بأدب نجيب محفوظ احتفاء مميزا اضافة الى الشحاذ هي: (اللص والكلاب) هذه الرواية القصيرة التي لم تتجاوزــ 143صفحة من الحجم المتوسط جاءت حافلة بالمعاني الفنيه والجماليه وذات تقنيه جديدة لم نعهدها في رواياته من قبل، مستخدما تقنية تيار الوعي وكذلك دخول الرواية (اللص والكلاب) على تقنية الرواية البوليسية التي عرفت بها بعض الروايات العالمية: مثل (الجريمة والعقاب) لديستيوفسكي على سبيل المثال، وتخلق الرواية البوليسيه حالة من التوتر الدائم ومن شد انتباه القارئ لصفحات الرواية حسب بنيتها التي يشتغل عليها المؤلف الذي يروم الاستفادة من نهج الرواية البوليسية التي غالبا ما تعتمد حبكة تقطيع الحدث الى اجزاء بحيث يظل القارئ في حالة توتر ومتابعة للحدث وتطوره وكلما تصاعد الموقف داخل الرواية كلما وجدنا المتلقي جزءاً من عنصر التشويق الذي قد لا يبدو بارزا جدا ولكنه ملموس في تصاعده نحو الانفجار او ما اطلق عليه في حينه بالذروة اي نقطة الافتراق بين الاحداث التي غالبا ما يسوقها لنا المؤلف على لسان بطله، ولقد اخذ نجيب محفوظ بصيغة الرواية البوليسيه اسوة ببعض الروائيين العالميين مثل امبرتو ايكو في ( اسم الوردة) حيث شخصية المحقق في هذه الرواية بارزة كأحدى الشخصيات المهمة، ويبرز عنصر الشد والتوتر في روايات نجيب محفوظ من اجل تخليص السرد من رتابة الاحداث التي قد يحدسها القارئ وربما يعرف بعضها ضمن السياق التاريخي او الواقعي للحدث نفسه. وتعتبر اللص والكلاب مفتتح الروايات الجديده التي اختطها قلم محفوظ بوعيه المعروف وقدمت بدورها رؤيا مغايرة للنقاد والدارسين لأدبه وقد اتسمت هذه الرؤيا بالحداثة والتصور المدهش للذي يجري على صعيد الواقع العياني.. وترى الدكتوره لطيفه الزيات ان هذه الرواية قد شجعت على طرح المزيد من الاسئلة الوجودية والحياتية: (وقد وجد الناقد نفسه ازاء شكل جديد للتعبير يتبناه الكاتب لاول مرة، وتأتى عليه ان يتوقف عند هذا الشكل الجديد ــ. مجلة الهلال سنة 1970عدد خاص نجيب محفوظ. ص 63) ولعل استخدام المؤلف ضمير المخاطب بصيغة المفرد للتدليل على البطل ومجموعة همومه التي تحددت بفشله الذريع في السيطرة على حياته بعد خروجه من السجن، ان استخدام ضمير (المخاطب) هو منحى فني جديد ابتكره نجيب محفوظ كعلامة على تبدل نبرة الخطاب في الروايه العربيه لم تكن الروايات السابقة لرواية اللص والكلاب قد مارسته او استخدمته من قبل اي ان طرح هذا الاسلوب في الروايه العربيه هو خصيصه تحسب لنجيب بقوة صريحة، اي ان تيار الوعي وجد طريقه الى الرواية العربية كآنعطافة تاسيسيه في هذا الشأن الروائي الحديث، ومن هنا ينبغي للدارس لأدب محفوظ ان يضع ذلك كله في الحسبان، ولقد فتح تيار الوعي او التداعي الحر باباً واسعة للروائيين العرب وذلك باضافة نبرة خطاب سردي جديدة ميزت الكثير من روايات تلك الحقبة الستينية في الوطن العربي، وهناك في معظم روايات نجيب المتأخرة اي التي نحن بصدد قراءة احداهن (اللص والكلاب) اشارة صريحة او عبارة تبقى خالده في اذهان القراء ويرددها بعضهم في محافله ومجالسه، ولا يمكن لنا الا التقاط عبارة سعيد مهران بطل اللص والكلاب ص120ــــ المعروفه لقراء هذه الرواية: ( ان من يقتلني انما يقتل الملايين، انا الحلم والامل وفدية الجبناء واناالمثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبة والقول بأنني مجنون ينبغي أن يشمل كافة العاطفين فادرسوا اسباب هذه الظاهره الجنونيه واحكموا بما شئتم ــ. اللص والكلاب) ومن الواضح ان سعيد مهران المخيّب من قبل الاخرين الذين تخلوا عنه حال مغادرته السجن ليواجه كل هؤلاء الأعداء الذين كانوا في يوم ما احبته الخلص واول من خانه هو معلمه رؤوف علوان الذي تعامل معه بنوع من الاستعلائيه والتكبر بل قل ونكران ماضيهما المشترك حيث زعزعه هذا التجني الذي لحق به من معلمه القديم وباني فلسفته الاخلاقية وهي فلسفه ذرائعيه تبريريه لا تخدم الا متبنيها فقط، وقد وصفه بقوله لما التقاه لأول مرة بعد مغادرته السجن (ها هو رؤوف علوان الحقيقة العاريه، جثه عفنه لا يواريها تراب. ص 37) وعلى المستوى نفسه من الشتيمة يوجهها الى نبوية وعليش رمزا الخيانة والغدر، لكن خيانة المعلم رؤوف علوان مزدوجه ولا تباريها خيانة اخرى، صحيح ان نبويه تتزوج عليش وانهما يحاولان ان يجعلاه يفقد ابوته للطفلة وذلك بنكرانها لابوته لها ولكن خيانة رؤوف علوان تؤكد سوداوية ايامه القادمة وهو الذي تنكر له ولعلاقتهما المشتركة التي بناها رؤوف على احترام المعرفة وان كانت تستند الى دوغماتية صريحه وذلك باعتماد هذه الفلسفه على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة وهو مبدأ معروف اشيع في النصف الاول من ستينيات القرن العشرين، واعتقد انه من طروحات ميكافلي الفيلسوف الايطالي الذي اعتمد هذا النهج في تبرير وصول الحاكم الى السلطة، ورؤوف علوان لايتردد في العثور على ذرائع منطقيه لوصوليته الانتهازيه التي جعلت سعيد مهران بين المطرقة والسندان، ولما اضطر رؤوف الى نكران علاقته بسعيد مهران لم يكن من الاخير الا ان يذكّره بتلك الفلسفه وما تعلمه من معلمه، لكن المعلم يسخر من التلميذ الخارج من السجن بسبب تشجيع رؤوف له على سرقة البرجوازيين الذين يسلبون حقوق الآخرين، من هنا من هذا التراكم الكمي للاحقاد والمهانة التي لحقت به يقرر سعيد مهران الانتقام من الجميع، وأولهم رؤوف علوان نفسه رأس البلوى والمشجع على الخراب والفوضى التي لحقت به هو سعيد مهران.. لذلك نحن الذين قرأنا ـــ اللص والكلاب ــ مبكرا شكل بطلها لنا عنصر دفع تجاه الثقافه والحياة وشعر الكثير منا آنذاك ان سعيد مهران الذي خدعه مفكر ماكر بل أنتهازي هو انموذج شائع بيننا، ولا ينكر ان شيوع فلسفة العبث واللامعقول في الآداب العالميه جعل سعيد مهران هو الاقرب الى عذابات المثقفين العرب والعراقيين على اعتباره شخصية مخدوعة ومتآمر عليها من قبل الاسياد، وقد تطابقت رؤيته للعالم مع ابطال بيكت ويونسكو واربال وقبلهم كافكا ودستيوفيسكي ثم سارتر والبير كامو وساغان ، اذ سعيد مهران هو الاخر لا يقبض الا الريح شأن ابطال العبث واللامعقول، هؤلاء الكتاب حازت مؤلفاتهم على رضا النخبة المثقفة، حيث عكست قصصهم ومسرحياتهم عبث العالم ولا جدواه بل جنونه .. في تلك المرحلة برز بطل اللص والكلاب الذي يؤمن باستعمال القوة والعنف وقبلها كان يلجا للعلم والمعرفة التي وجدها خادعه من خلال رؤوف علوان الذي سخر من كل ما علمه له من ثقافة وعلم بل هزأ من المعرفة كلها باعتبارها وسيلة للوصول الى الغاية الأهم الا وهي القوة المتمثلة بالسلطة والمركز الاجتماعي المرموق، وهذا ما تبتغيه طبقة البرجوازيين الطموحين والمتطلعين الى حياة تعمها السعادة والخير الوفير، حتى لو جاءت على حساب مصلحة الاخرين..
{ القسم الثاني من مدونة بعدة اجزاء عن نجيب محفوظ وقد ظهر القسم االاول في جريدة (الزمان) بتاريخ ـــ 2/ 7 / 2014