الكلاب والدموع (1)

الكلاب والدموع (1)
المواجهة النبيلة
نهضت متعبا وأوصالي يجوس بها خدر مؤلم تحثني على الإسراع أصوات المآذن المنبعثة من الجوامع فجرا هدوء مطلق يبسط سلطانه على كلما يحيط بي .
أتطلع صوب أكوام القمامة التي تفترش البقعة الخالية القريبة من فم الزقاق المظلم كم تمنيت أن تقترب منها اضوية الرصيف كي احصل منها على مبتغاي بسهولة ويسر .
قلت بألم .. يا الهي .. مبتغاي !! ..ما هو ؟ قطع رديئة تالفة من البلاستك تحمل كل عفونة القمامة !! اجمعها بصعوبة أبيعها على صاحب دكان قريب توفر لي القليل من النقود أضيفه أضيفها إلى ما احصل عليه من اجر لقاء عملي في المطعم لأدفع بها غائلة الجوع عن أفواه وليدة تركتها بعيدا .
حركت يدي في الهواء وأنا أتمتم بصوت حانق : أتعلم يا هذا .. أنت تتذاكى على قسوة الحياة بطريقة مؤلمة .. لا .. بل وفخرية أيضا !! ولكني أكملت بصوت مسموع وكأني اكلم أعماقي متشاطرا معها قائلا: ان ما أقوم به هو مواجهة نبيلة مع الظلم !!
ومن خلال زجاج واجهة المطعم أبصرت الكلاب السائبة تنسل بخفة وهدوء الى أكوام القمامة وسرعان ما توزعت عليها باشة تفتش عن مبتغاها هي الأخرى قلت: دعها تنبش فهي تقدم لي عونا أنا بحاجة أليه ! وقفت بباب المطعم أتطلع حولي بهدوء مخفيا عصاي التي استخدمها في التقليب والنبش خلفي محاذرا ان تراها أعين الكلاب فتهرب وهي التي تمنحني استئناسا ورفقة لا أريد فقدانها .
قلت بيأس مخاطبا نفسي: مهما حاولت جاهدا تلميع وجه حياة البؤس هذه فإنها تبقى قذرة عصية على التلميع .. لا .. بل هي قذارة أصلا!!
وأكملت بحنق غاضب وأنا اهجم على أكوام القمامة .. لمع …لمع .. فلا مناص ولا مهرب !! أنت مجبر على ذلك ولمن اعلم انه تلميع بدون جدوى ! وإلا ما حجم البؤس الذي تحاول ان تخفيه ببضعة أوراق نقدية بائسة تستلمها من ذلك الكهل الذي تقف أمامه كالسائل وهو يوزن بضاعتك القذرة ؟
استمرت غاراتي على أكوام القمامة فجرا لأيام غير مكترث لما تفرزه دواخل نفسي من شماتة واستهزاء !! فكلما حاصروني استهزاءا تحسست جيبي فتنبسط أساريري وأنا أرى حافظة نقودي قد انتفخت بالا وارق النقدية أعدها .. فأصبح جذلا ..إنها كاملة لا بل زادت ! وبلا شعور تنطلق من فمي بصقه مالئة الفضاء أمام وجهي !! أكور يدي وارفها في الهواء وكأني اضرب وجه البؤس وفمي يطلق لعنات بذيئة صاخبة .
في الأيام الأولى كنت لوحدي ولكني تفاجات لا حقا بمجيء احدهم رجل تجاوز العقد الرابع من العمر جاء بصمت كأنه خيال وعلى اضوية الرصيف حدقت به وجهه قمحي استدار بلطف ولون بشرة محبب ( ) لم تستطع قساوة الأيام أن تزيل آثار نعيم غابر عن تقاسيم وجهه يرتدي قميص تكالحت ألوانه واختفت معالم معالم خطوطها وبنطلون جاهد ان يبقيه نظيفا ومقبولا .
كنت أقف على الرصيف أمام واجهة المطعم وقد انتهيت من نبش أكوام القمامة تخطاني بصمت متجها صوب أكوام القمامة يمسك كيسا خاطته يد ماهرة .
لا ادري ما الذي أصابني عندما رايته وهو ينقل خطوه بتأني لافت دفق من المشاعر الحانية اجتاحتني عنوة مرآة أيقظت أحاسيس امتلأت لها دواخلي غبطة وحبورا دفق من الدم تصاعد بلذة إلى جفاف روحي فاعترتني رجفة غريبة أشرقت لها الأعماق التي أكلها اليبس والخراب .
تصلبت عيناي تأبى مفارقة التطلع إليه وهو ينحني على أكوام القمامة باحثا لم يستمر بحثه طويلا فعاد يسير ببطيء مد بصره نحوي بلا مبالاة وسار غير عابئ بشيءولكنه اخذ يبكر في الأيام اللاحقة فيجدني والكلاب نمارس عملية النبش فينحني نابشا بعد ان يسمعني تحية الصباح أجفل من تلك النغمة التي تحملها نبرات صوته !نغمة ضاجة بأعذب الترانيم تنبسط عذوبتها الآسرة وتدخل مسامعي كأنها تغريدة بلبل طليق منتشي أحدق بوجهه فتأخذوني فورة رضا تنسل أعماقي الجانية المضطربة بدفقات من الشعور الجذل الآسر.
كنت انتظر مجيئه في الصباحات اللاحقة بشوق أتلفت بقلق ! ولكني عندما المحه بانحناءة كتفيه الخفيفة وسيره الوئيد تهدا دواخلي وتمتلئ روحي بفرح غامر .
بدا التقارب بيننا سريعا والألفة أخذت تبسط عنوانها العريض على علاقتنا ذات صباح قال لي ونحن نمارس عملية النبش دون ان أساله ! انه تخرج من الجامعة سنة … كذا… لا اذكر … أي سنة نطق بها لكني قلت دون ان ارفع راسي : اووووووه… بدأت الهمبلة!!! التزم الصمت ولم *يحرر جوابا ولكنه جاء مبكرا في الصباح التالي ودون أن ينطق بكلمة بسط أمامي شهادة تخرجه من الجامعة ! بهت خجلا ولكنه طواها بسرعة وكأنه يطرد من أمام عينيه شبح ذكرى مؤلمة ! ولم يمهلني إلا قليلا من الوقت حين فاجأني بإخراج صورة قديمة بحجم الكف مادا إصبعه بلطف مؤشرا على شخص يتوسط مجموعة من الطلبة جالسا وهو يعتمر طاقية التخرج ذات الخيوط المتدلية التي زادته الق ! طوى مسرعا ورقة تخرجه حول الصورة ودسها بجيبه وأشاح بوجهه عني وأنا أرى غيمة من الألم تغزو وجهه الأليف .
حدثني بإسهاب عن كل شيءتعينه مدرسا في إحدى ثانويات العاصمة للغة الانكليزية الطرد منها والمطاردة اللعينة المستمرة التوقيف والسجن المتكرر !! والأشد مرارة الإيغال في جحيم البؤس والشقاء .
كنت استمع إليه وهو ينشد نشيد لعنة البقاء على مسامعي دون ان يرفع يده ويكف عن النبش لا بل أراه يزداد عنادا ! فانظر إليه بحنان وعندما أحدق بوجهه يختفي كل الغيض الذي تمور به دواخلي فاهدأ عندما اسمعه يقول : ها…. الم تنتهي بعد ؟ أتريد ان تحمل كل أكوام القمامة !! ويضيف مبتسما .. كفى طمعا يا رجل .
كريم جبار الهلالي- بغداد
/8/2012 Issue 4277 – Date 14 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4277 التاريخ 14»8»2012
AZPPPL

مشاركة