الكتابة عن الموصل – ثامر مراد

thamer

الكتابة عن الموصل – ثامر مراد

منذ أن دخل داعش أرض الموصل وأنا أحاول الكتابة عنها- عن أي شيء يرمز الى الموصل – لكنني في اللحظات ألأخيرة أتراجع وأشعر بألم شديد يكاد يسحقني لابل يمزق جسدي من الوريد الى الوريد. الموصل تاريخ بعيد خطَّ في جسدي وروحي آلاماً لاتنتهي مادامت هناك حياة على أرض العراق. هل هو ثأر نفسي أم حزنٌ دفين يكاد يمزقني عشرات المرات كل يوم. تبدأ الحكاية مع الموصل منذ اليوم ألأول لدخولي – مدرسة ضباط صف المشاة في خريف عام 1981 بعد تخرجنا من الجامعة والذهاب لأداء فريضة الخدمة العسكرية. كانت المعارك الطاحنة في بدايتها وقال لنا العريف بالنص ” ..من يثبت جدارة في التدريب وأرضى عنه سيختار المكان الذي يريده بعد إنتهاء الدورة” . على هذه الجملة الخالدة بدأت أشيّد حلمي الكبير وهو- أن أصبح معلماً مدرباً لطلبة الكلية العسكرية في ذلك الوقت في الرستمية. كان هذا الحلم يعادل حلم التخرج من الجامعة لأسباب نفسية وتعبوية وسوقية . سببٌ آخر هو ضمان البقاء في بغداد وعدم الذهاب الى جبهات القتال أو أي وحدة عسكرية في أي محافظة بعيدة عن بغداد. لاأريد أن أقول كنتُ بطلاً في كل أنواع التدريب ولاأريد أن أبني لنفسي هالة من التعظيم لكن الشيء الذي جعلني أتميز – وحسب قول العريف- سرعتي في الركض حينما يأمرنا بالهرولة حول ميدان الرمي. كانت عبارته لاتفارق روحي لحظة واحدة لذلك كانت تدخل في جسدي طاقة جبارة لاأعرف من أين كانت تأتينني. كنتُ أصل قبل الفصيل بعدة لحظات وأقف الى جانب العريف أنتظر قدوم باقي الفصيل. سألني فيما إذا كنت متخرجا من كلية التربية الرياضية وكذبتُ عليه – وهذه أمانه أذكرها للتاريخ- وأجبته بنعم. تكررت الحالة معي أكثر من عشر مرات لدرجة أن أحد الزملاء راح يصرخ في وجهي بأن لاأركض سريعا وانتظرهم. دوَّن إسمي ذلك العريف من آهالي الموصل وأخبرني بأنه سيضعني في مكان أفضل من الكلية العسكرية آلاف المرات. وجاء يوم التوزيع وقدم لي كتابا بأسمي فقط الى مديرية ألأمور الطبية في بغداد. لم أستوعب الفرحة كانت كبيرة على قلبي ورحتُ أتباهى أمام الجميع . بعد نصف ساعة جاء رئيس عرفاء الوحدة يأمرني أن أرافقه الى العميد – جميل- مدير مدرسة ضباط صف المشاة. ركض معي العريف وهو يخشى أن أكون قد إرتكبتُ جريمة دون علمه. بلا مقدمات مزق العميد جميل كتابي وأمر أن يكون بدلي شخص قريب جداً الى النقيب آمر جناح التدريب. حاولت قول أي شيء لكن دون جدوى. أخذوا مكاني قسوة وزوراً . نظر إلي العريف ونحن نعود الى المكان المخصص لنا وزفر زفرة قوية وهو يقول – أنا ضعيف أمام هؤلاء الحيتان- .

مرت السنوات ووقعتُ مع الذين قذف بهم المجهول الى خلف الحدود وشاهدت أرواح تنتمي الى محافظات العراق من أقصاه الى أقصاه. تكونت لي زمالة أو صداقة مع عدد كبير من أبناء الموصل من الضباط والمراتب المختلفة وقضينا سوية ظروفاً واحدة وآمالاً واحدة وحلماً واحد. أحد عشر عاماً لانعرف ماذا نفعل سوى أن ندور في بقعة محددة رُسمت لنا بدقة. كنتُ معهم كمسافر في سفينة تتلاطمها ألأمواج وتكاد أن تغرق في أي لحظة من لحظات ألأزمنة العصيبة. المسافة الممتدة من السنة ألأولى الى السنة الحادية عشرة مساحة زمنية تكاد أن ينشأ فيها جيلٌ كامل بكل أحلامه وطموحاته..علينا أن نملأ هذه المساحة بأشياء تجعلنا ننسى ألأحبة بكل عناوينهم كي لانصاب بالجنون. بدأ الجميع يبحث عن شيء يتخلص فيه من هذا الفراغ الكبير. كل مخلوق بشري يمارس نشاط شخصي يجعلة يتواصل مع الحياة ليحافظ على سلامة جسده وعقله. رحت أحفظ أجزاء كثيرة من القرآن وأدرس اللغة العربية وأدرس لغة تلك البقعة المحددة بمجهود شخصي وأمارس تدريس مادة اللغة ألأنكليزية لكل من يريد أن يتعلم من تلك المخلوقات أحيانا مجانا وأحيانا أخرى بشيء عيني كأن تكون سكائر قليلة أو قطع من السكر أو أشياء آخرى حسب المتوفر للطالب الراغب في التعلم. كان من الطلاب الذين يدرسون عندي مجموعة من الضباط من الموصل تكونت معهم علاقة أستطيع أن أقول تفوق العلاقة ألأخوية. بدأت نشاطاً آخر وهو ألأشتراك في فرقة للتمثيل والخطابة والشعر والنثر . أصبح المسؤول المباشر عن المكان يكن لي تقديراً كبيرا لما أقوم به من مشاركات ثقافية كثيرة. وتحقق الحلم ووجدتُ نفسي في بيتنا البسيط من جديد. عند إنتهاء ألأسبوع ألاول من تواجدنا في أرضنا الطيبة تم إستدعاؤنا جميعاً الى ألأستخبارات للتأكد من سلامة عقولنا وأشياء أخرى غاية في السخافة . حينما دخلتُ القاعة المخصصة للمقابلة شاهدتُ عميداً وعدد من كبار ضباط الجيش وكأنهم يجلسون لمحاكمة كل شخص يمتثل أمامهم. وكانت الصدمة الكبرى, وإذا بي أشاهد جميع الضباط من الموصل الذين كنت أدرسهم وأقاسي معهم تلك الظروف وأصبحنا كأشقاء. كانوا يجلسون وكانهم هيئة محلفين. في البداية فرحتُ جدا لأنهم يعرفون كل شيء عني وهذا بالتأكيد سيشفع لي أمام المحقق المخيف. وإذا بهم ينكرون وجودي ويتهمونني بأشياء وأشياء تصورت أنهم فقدوا عقلهم ” ..هذا أصبح شيعياً…هذا كان يريد البقاء في تلك البقعة ..هذا كان يمثل على المسرح..هذا كان يكتب مقالات وخطب في مناسبات دينية ويحتفل في عيد الغدير ويسير مع فلان وفلان وأشياء مرعبة أخرى قد تؤدي بي الى حبل المشنقة . ياألهي هل هذا حلم أم واقع ملموس؟ هؤلاء هم أبناء الموصل الذين كنت معهم أحد عشر عاما. الغريب أن الضابط الكبير إستدعى جنديا كنت على خصام معه زمنا طويلا لسوء أخلاقه وحاول الضابط أن يستفزه بكلام مرعب حينما قال له بأنني أتهمه بأشياء كثيرة وأنني أتحدث عنه بالسوء. نظرتُ الى ذلك الشخص وكأنني أنتظر منه طلقة الرحمة ..لابل أيقنتُ أنني هالك لامحالة. الغريب أن هذا الشخص الذي كنت أعتقد أنه سيشهد على موتي رفع يدي أمام الضابط وصاح بالحرف الواحد ” ..هذا أشرف إنسان..لاأصدق أي كلام يُقال عنه..كان معلمنا…” في اللحظة التي خرجتُ فيها من القاعة أدركتُ أن كل السنوات التي قضيتها مع أؤلئك الضباط من الموصل كانت أكبر خسارة لي في تاريخ البشرية. جائني عسكري يركض وقال بالحرف الواحد ” ..لقد صنفوك في قائمة ج وهذه أتعس درجة ستسبب لك مشاكل كثيرة في المستقبل ..إعطني 100 الف دينار وسأعطيها لعقيد ألأستخبارات كي يضع إسمك في صنف ب وهذا أرحم بكثير من صنف ج” . منذ تلك اللحظة عرفت أن البلد ينهار وتمنيت لو أنني كنت قد سمعت نصيحة صديقي بالبقاء الهجرة الى أي دولة أخرى . لقد حرمني أصدقاء السوء من ضباط الموصل آنذاك من قطعة أرض كانت ربما تغير مجرى حياتي ومن أشياء أخرى كثيرة لو أنهم وقفوا الى جانبي أو لزموا جانب الصمت. عوقبتُ لجريمة لم أرتكبها في تاريخ ألأنسانية. في الطريق الى البيت نظرت الى السماء وطلبتُ من الله أن يعاقب الظالم وأن يدفعوا ثمنا لظلم كان قد أرتكبه أشخاص في حق مسكين جريمته الوحيده أنه أراد أن يعود الى أرضه وأنه يعشق العراق بشكل لايصدق. اللهم إحفظ العراق وسامح من ظلمني لأنك تعرف الحقيقة كاملة. هذه ألأسباب مجتمعة خلقت في روحي حاجزا جعلني أبتعد عن الكتابة عن الموصل لأنني أشعر أن هناك فيه من ظلمني بكل ماتعنيها هذه الكلمة من معنى. عاش العراق وعاش كل من نزف قطرة دم واحدة وضحى بحياته كي نعيش نحنُ.

مشاركة