الكتابة المرئية من خلال عين الكاميرا – اضواء – ليث الصندوق

رواية حجر الصبر المكتوبة بالفرنسية والحائزة على جائزة كونكورد

الكتابة المرئية من خلال عين الكاميرا  – اضواء – ليث الصندوق

لم تعد الدراسات النقدية لمرحلة ما بعد البنيوية تتهيب من النظرة السياقية ، وتعزل النص عن ما يحيط به ، بل أنها أوجدت الذريعة للتماس مع الأنساق المحايثة والتداولية المحيطة من خلال تفحص النصوص الحافة والموازية والتي تشمل الخطابات والنصوص التي ترافق النص في الزمان ، لكنها تفارقه في موضعه ومساحته كاللقاءات والأحاديث الصحفية مع الكتّاب وسيرهم الذاتية.

 وما كتبوه عن أعمالهم من تعقيبات وتوضيحات وردود ، وما كُتب عنهم من شهادات وأخبار واستذكارات ومقالات ودراسات . وعلى وفق هذه النظرة المنفتحة فإنه من المجدي الاستعانة بالسيرة المهنية والحياتية للكاتب الأفغاني المقيم في فرنسا (عاتك رحيمي ) من أجل تفهم أعمق لروايته (حجر الصبر )(1) المكتوبة باللغة الفرنسية والحائزة على جائزة كونكور المرموقة لعام 2008 والتي ترجمها عن الفرنسية الأديب والمترجم كامل عويد العامري والتي تبدو في شكلها وأحداثها أقرب للقصة الطويلة منه إلى الرواية . ومن الواضح أن دراسة الكاتب الأكاديمية للفنون السمعية والبصرية ، ومن ثم عمله في السينما منتجاً للأفلام الوثائقية قد تركت أثاراً واضحة على آلية بناء الرواية وطريقة استدعاء الشخصيات وتقديم الأحداث والانتقال ما بين المشاهد واستعراض المكان والتقاط التفاصيل الدقيقة والهامشية واعتمادها  كعلامات دالة . وقد أشار المترجم في مقدمته عن المؤلف إلى إنه (استفاد من المقاطع الفلمية والمنهج الصوري في التركيز على التفاصيل . ص 8 ) ، ومن بين صور التأثير الواسعة للسينما (وربما للمسرح ) على النص تقترح هذه القراءة التركيز على :

1 – الاهتمام اللافت بالوصف المكثف للجوانب المرئية والمسموعة والتي تنأى عن التهويمات المجردة عاطفياً ولغوياً والتي من العسير ترجمتها إلى صور حسية . ويشمل ذلك التقاط المشاهد الثانوية والهامشية والسريعة ودمجها ضمن سياق الأحداث بحيث تتحول تلك  المشاهد إلى إشارات دالة على بنية غائبة ، فهي توحي وتلمح بما لا يراد التصريح عنه .

2 – تـطوير دور الــــــراوي باتجـــــاهين :

    الأول : باتخاذه عين كاميرا ، ترى ولا تتوغل أعمق من السطح الذي تراه.

    ألثاني : بالتعامل معه ليس كفرد ، بل كجماعة ترى وتسمع وتتحدث عما تراه وتسمعه دون أن تختلف فيما بينها في تفسير وتشبيه ما تراه وتسمعه ، فليس هناك انفتاح في الفضاء الحواري ما بين جماعة الرواة ، بل هناك فضاء مغلق يجعل من صوت الجماعة صوتاً واحداً ، ويُكسبها وحدة في تفسير ما تنقله . ولعل تحويل الراوي إلى جماعة رواة يتحدثون في وقت واحد ، وبلسان واحد (لسان الجماعة ) هو انعكاس لدور المشاهدين في العروض السينمائية والمسرحية .

ألفضاء المكاني والحركي للرواية هو غرفة في بيت أفغاني متواضع ، وعدا الغرفة فالبيت مكون من رواق + سرداب + مخزن ، وحصة تلك المكونات من النص الذكر فحسب فهي مغيبة عن الأحداث ، وفي تغييبها تسوّيغ لتواري الشخصيات عن رقابة الرواة ، أما  دورها فهو الإيحاء بأن الغرفة ليست فضاءاً معزولاً ، بل هي جزء من كل . ولأن أحداث الرواية تجري في بيت واحد صغير ، أو في غرفة واحدة منه ، وأن شخصيات الرواية محدودة جداً ، لذلك فالرواية تنتمي إلى ما يسميه الناقد شكيب كاظم بروايات الحيز الضيق (2 ) ، ولعل التسمية جاءت من عنوان رواية الكاتب البريطاني وليم كولدنك (3)(المكان الضيق ) (4) التي تدور كل أحداثها في حيز مكاني محدود على سفينة قديمة متوجهة عبر رأس الرجاء الصالح من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها .

تقنية الوصف الإفتتاحي للغرفة / الفضاء لا تسترسل في دقائق التفاصيل مكتفية بمفردات ذات حساسية وصفية مكثفة تتناول وحدات المكان الأساسية كماتتبدى في عين الراوي / الرواة ، أو كما تتطلبه ضرورة سياق الأحداث (ألغرفة ضيقة ، مستطيلة وخانقة . ص / 13 ) ولعله من الضروري البحث عن مسوغات للصفة الأخيرة (خانقة ) ، ولذلك تُستكمل العبارة بتعليل ذي بناء وصفي أيضاً (بالرغم من جدرانها الفاتحة ، ذات اللون الأصفر المخضر ، بستارتيها ذواتي الزخارف التي ترمز لطيور مهاجرة ، وهي مستمرة باندفاعها نحو سماء صفراء وزرقاء . ولأنها مثقوبة هنا وهناك فإتها تسمح لأشعة الشمس بالنفاذ لتنتهي عند مخططات بساط باهتة . في نهاية الغرفة هناك ستارة أخرى خضراء من دون زخرف تخفي باباً مغلقاً ، أو غرفة مهملات . ص / 13 ) . وتبدو حركة عين الراوي / الرواة جلية وهي تتنقل من وصف (الغرفة + الجدران + الستائر + البساط + ستارة أخرى + باب غرفة المهملات – المخزن – ) ثم هناك عودة وصفية أخرى إلى الغرفة التي يبدو أن الإفتتاحية الوصفية لم تُشبعها ، أو لم تُشبع الحاجة الوصفية المتزايدة للرواة ، فعادوا ثانية ، ومع تلك العودة سيلتفتون إلى النافذتين اللتين سبق ان وصفوا ستارتيها دون أن يتنبهوا إليها (ألغرفة فارغة ، خالية من كل الزخارف ما عدا ما هو على الجدار الذي يفصل بين النافذتين ، والذي عُلق عليه خنجر ، وفي أعلى الخنجر صورة لرجل ذي شارب كثيف ربما كان له من العمر ثلاثين عاماً ، شعره مجعّد ، ووجهه مربع يقف بين اثنين من أقربائه . ص / 13 ) . هذا الإلتفات الاستثنائي إلى وصف الغرفة + صورة الرجل يكشف عن نية مسبقة لمنحهما – فيما بعد – دورين إستثنائيين ، فالغرفة هي الفضاء الذي تدور فيه كل الأحداث المقترنة بزمن السرد ، أما الصورة فهي إيقونة الرجل الممدد على فراشه في الغرفة ، وهو البطل الثاني المشلول الذي سيؤدي من خلال شلله وعجزه دور البطولة العقيم ، بطولة بلا أحداث ، ولا فعالية ، ولعل في ذلك دلالة – سنأتي عليها فيما بعد – في مقابل الدور الحيوي الفاعل للمرأة / الزوجة . أما ما تضمنته الرواية من فعالية الرجل السردية فلم تكن سوى ذكريات خرقاء من ماضٍ أليم تُعاد لتُسرد على مسامعه من قِبَل المرأة / الزوجة . وفي حين كان الزوج قد أهمل المرأة وهو في فورة شبابه وقوته ، إلا أن ردّ المرأة على ذلك الإهمال يتجلى عبر دورها المعاكس ، إذ عليها العناية بالزوج الذي أقعدته رصاصة استقرت في رقبته جراء خصومة تافهة مع رفيق من رفاق الحرب ، إذ أن عليها أن تستبدل كيس السائل المغذي المربوط بجسده كلما نفد ، وترطب بقطرات الدواء جفني عينيه ، وتغسل جسدة ، وتستبدل ثيابه . ولا غرابة أن عين الكاميرا التي ابتدأت الرواية بوصف الغرفة ستكمل الرواية في التقاط الأوصاف وهي تتابع الأحداث عبر تداعيات المرأة أو عبر ما يستجد من اضطرابات الوضع الأمني مع إغناء الوصف بالتشبيهات التي تمنح عين الكاميرا صفة بشرية (وتحت جلده الشفاف أوردته التي تشبه ديدان لاهثة . ص / 14 ) وهذا التشبيه الإفتراضي يُعامل كحقيقة لأنه يتقاطع ويتداخل مع مكونات الجسد الحقيقية (تشتبك – الديدان / الأوردة  – مع عظام هيكله العظمي البارزة . ص / 14 ) وتتكرر تقنية الربط ما بين الوصفي والتشبيهي (ساقاه المتصلبتان مثل وتدين يتواريان تحت شرشف أبيض متسخ . ص / 14 ) . وإذا كان دور الرجل هو دور البطولة الشلاء ، إلا إن دور المرأة هو دور البطولة الفاعلة ، فهي أكثر حيوية ، وهي صانعة الأحداث ، بينما يشارك الرجل في الأحداث بوجوده الجسدي المعطل ، دون أن ينبس بكلمة واحدة ، ولعل بطولته السردية تكمن في أنه يشكل علة الأحداث ، فتاريخ علاقته الباردة وغير المتكافئة مع المرأة يحرك رغبة الانتقام لديها تجاهه ، ويحرضها على الإتيان بردة فعل موازية لقساوته السابقة تمنحها الأرجحية عليه . وعبر ردة الفعل تلك تتحدد أبعاد الصراع ما بين الضدين ، لكن الصراع هذه المرة يكتسب طابع حوار غاضب ومقطوع فهو من جانب واحد ما بينها وبين الصمت ، صمت الرجل العاجز ، تكشف عبره ضعفه الذي كان يُخفيه حتى في أيام قساوته وعجرفتة ، في مقابل قوتها المستمدة من ذكائها والتي مكنتها من الالتفاف على قيوده الذكورية الحمقاء . وعبر الحوار المقطوع ما بين الأثنين ، وما تكتنفه من تداعيات ، تكتشف المرأة مفتاح وجودها الذي يُبقيها حية في عالم الأموات ، إنه حجر الصبر . ألحل الذي تقدمه الميثولوجيا لكسر ظلمة السجن ، إنه حجر يستوعب أسرار من يأتمنه ، ويسرّ إليه ، حتى إذا ما شبع أسراراً انفجر (هذا الحجر الذي تضعه أمامك ، تنوح أمامه على تعاستك ، وعلى آلامك كلها ، عذاباتك ، وعلى كل مصائبك ، وإليه تُفضي بكل ما حملته في قلبك ولا تجرؤ على البوح به أمام الأخرين . ص / 103 ) و (تتكلم إليه والحجر يُصغي ، يمتصّ كل كلماتك ، وكل أسرارك ، إلى أن ينفجر في يوم من الأيام ، فيسقط مفتتاً … في ذلك اليوم تكون قد تخلصت من كل عذاباتك ، ومن كل آلامك . ص / 104 ) . والمرأة في عزلتها بحاجة إلى ذلك الحجر الأسطوري ، ولأن زمن الأساطير ما عاد موجوداً فلا بأس أن تجعل من جسد زوجها المشلول حجر صبرها ، وتفرغ فيه كل ما في حياتها الخفية من أسرار – لا تجرؤ على كشفها للأخرين – حتى يمتليء ، وينفجر . وفي ذلك إقرار من المرأة بأن الرجل بمواصفاته الحالية دخل ضمن صنف الأحجار ، وخرج من صنف البشر لأنه يختلف عنهم في افتقاره إلى الحياة والحيوية  ، وبذلك يحقّ توظيفه في مهمة الإصغاء الحجرية ، وإعداده للانفجار.ومن اللافت أن المرأة والرجل ومعهما كل أبطال الرواية الأخرين بلا أسماء ، ويتم التعريف بهم أما بجنسهم (الرجل / المرأة ) او بعددهم (ثلاثة رجال ) أو بجنسهم مقروناً بمراحلهم العمرية (طفلة صغيرة / الفتى ) او بمراحلهم العمرية مقرونة بمكان فعاليتهم (فتى الشارع ) أو بالقرابة (العمة / الأخوات / الأخوان / الأم / الأب / أبو الزوج / أم الزوج ) أو بدلالة السكن مقرونة بمراحلهم العمرية (الجارة العجوز ) او بالوظيفة الاجتماعية (الملا ) . اما الأسماء التي ترد صريحة في النص ، فهي للشخصيات التاريخية والدينية (حواء / آدم / غريغوار ؟ / زكريا / يحيى / فرعون / آسيا بنت مزاحم / محمد / الملك جبرائيل ) أو للأقوام البائدة (قوم صالح ، عاد ، وثمود ) . ولعل الكاتب استمد تقنية إلغاء الأسماء والذي أدى أحياناً الى تشابه الصفات والخلط ما بين الشخصيات ، استمده من فن الكتابة المسرحية الذي هو قريب من مجال اختصاصه مثلما استمد منه تقنيات أخرى منها على سبيل المثال تقنية دخول الشخصيات . فكما تُقدم الشخصيات بالتتابع على خشبة المسرح ، تقدم الرواية شخصياتها بالتتابع إلى القاريء وعلى خشبة المسرح السردي (الغرفة الوحيدة في البيت ) حيث يُسجّى الجسد المشلول ، ومن حول هذا الجسد / البؤرة تدور الأحداث ، ومن تلك البؤرية يكتسب الرجل المُعطل قيمته السردية ، فمن حوله تتحرك الشخصية المركزية (المرأة ) لتحاكم الجسد المشلول ، الذي ربما يكون دالاً لمدلول ذكوري أشمل ، هو النظام الإجتماعي البدائي الذي يستمد قوته من دعم حركة طالبان والفصائل القبلية المسلحة ويتخذ من مظاهر الاحتلال الأجنبي ذريعة للهيمنة والبطش . ولكن محاكمة الجسد لا تستعير لغة القضاء وأحكامه لأن لها لغة أخرى هي لغة الأسرار التي حولتها سلطات القهر الاجتماعي والجنسي إلى قوة خفية في يد المرأة توجهها ضد من يمسك بيده تلك السلطات عندما تتراخى يده ، إنها لغة الباطن المخمرّة بالصبر والعذاب . فالمرأة تطلق كل ما في خزانة روحها من أسرار أخفتها طوال حياتها عن الرجل ، والرجل هنا رمز جنسي لكل الرجال الذين فرضوا سلطة التقاليد الذكورية على البيت والعائلة ومن ثم سلطة الدين الذكوري على المجتمع . ولذلك عندما تهوي المرأة بسياط أسرارها الموجعة على جسد الرجل المشلول ، فإنها عبره إنما تدين كل السلطات الذكورية المجاورة والمتعاضدة ، وبذلك فهي تدين كل الرجال الذين من حولها .

–           تدين السلطة الأبوية من خلال إدانتها لأبيها الذي آثر طيور السلوى على بيته وأسرته ، وكان يُقامر بها (ومن سخرية القدر إنه خسر ، ولأنه لم يعد لديه من المال لسداد الرهان ، عند ذاك اعطى أختي التي تبلغ من العمر أثني عشر عاماً ، هكذا كان عليها أن تذهب إلى بيت رجل يبلغ من العمر أربعين عاماً . ص / 87 ) .

–           وتدين السلطة الذكورية السياسية ممثلة بالرجال المسلحين ، من خلال مساواتها ما بين بيعها لجسدها من اجل أن تعيش وبيعهم لدمهم من أجل السلطة (أبيع جسدي مثلما تبيع أنت دمك . ص / 115 ) بل وتدين تلك السلطة من خلال إدانة الملك في القصة الفرعية المضمنة في الرواية (زوجه لم تلد له سوى البنات ، وفي كل ولادة يأمر الملك السيّاف بقتل المولودة الجديد . ص / 126 ) .

–           وتدين المنظومة الأسرية من خلال إدانتها لإخوة زوجها (إخوتك كانوا على الدوام يرغبون ممارسة الحب معي . ص / 77 ) و (ألقذرون البلهاء . ص / 78 ) وكذلك من خلال إدانتها لحمي عمتها العاقر (وبما إنها عاقر وجميلة ، كان حموها يمارس الحبّ معها براحة بال وبكل سرية ليل نهار . ص / 122 ) .

–           وتدين سلطة المال من خلال إدانتها لزوج عمتها (لقد تزوجت من رجل بائس كان غنياً ، وكان شبعان بالمال القذر . ص / 121 ) .

–           وتدين سلطة رجال الدين ممثلين بالملا (هذا الملا يُفقدني صوابي . ص / 46 ) و (هذا الملا القميء . ص / 121 ) .

–           بل تدين كل جنس الرجال (أنتم الرجال عندما تمتلكون السلاح تنسون نساءكم . ص / 85 ) .

والحوار المقطوع ما بين المرأة والرجل هو في الحقيقة عملية تطهير تمارسها المرأة  لتتحرر مما تنوء تحته من أخطاء وخطايا الرجل التي ألقى عبئها عليها ، وذلك بأن تعيدها إليه بعد أن هضمت مرارتها ، وحولتها إلى ملفوظ نصّي ، وهي على ثقة أنه يتقبل صاغراً كل ما يُعاد إليه ، لأنه مجرّدٌ – في حالته الحاضرة – من قوة الرفض المقترنة عادة بقوة الجسد . كما أن المرأة عبر عملية التطهير الحواري تتحرر أيضاً من أخطائها وخطاياها التي أجبرت – من قبل الرجل أو من قبل المجتمع الذكوري – على اقترافها . وسواء كانت الأخطاء و الخطايا هي أخطاء وخطايا الرجل المتراكمة ، أو أخطاء وخطايا المرأة الإجبارية ، فإن إعادتها إلى مصدرها عبر الحوار التطهيري المقطوع يمثل القوة الممكنة الوحيدة التي تمارسها المرأة على سلطة الرجل ، وعبره على سلطة المجتمع الذكوري بالرغم من مظهر تلك القوة السلبي الذي يجعلها صوتاً بلا صدى .  وعوداً على الدلالة الرمزية للستارة في غرفة البيت الوحيدة التي افتتحت الرواية بمشهدها الوصفي ، فهي بتفاصيلها اللافتة (صور الطيور المهاجرة ، والسماء الصفراء – الزرقاء) تحتفظ بإطلالة دائمة في مواجهة المرأة ، وفي كل إطلالة لها دلالة تختلف عن سابقاتها ، فعبر ثقوبها تنفذ الشمس صباح كل يوم إلى الغرفة المظلمة ، ومع نور الشمس النافذ تبدأ رحلة العذاب اليومية الجديدة للمرأة مع الجسد المشلول للرجل ، فالستارة ساعة التوقيت الشمسي المقترنة بتوقيتات طقوس التعذيب المشترك لكلا الزوجين (ظلّ الرجل على الحائط ، إلى أن يطلع النهار كلياً ، وتنفذ أشعة الشمس عبر ثقوب السماء الصفراء والزرقاء للستارة لتطغي على ضوء المصباح . ص / 39 ) والستارة ذاتها من دون موجودات البيت الأخرى هي مرآة المروي عنه / المرأة ، فعلى صفحة الستارة يتابع الرواة حركة ظل المرأة ، ويكتشفون من قرائن خفية حالة ذلك الظل العابر بين الطيور المهاجرة ، فإذا به ظل منهك (ها هو ظلها المنهك على الطيور المهاجرة المرسومة على الستارة . ص / 57 ) . وفي صورة الستارة وطيورها الحرّة المهاجرة ترى ، وتتذكر المرأة الصورة الضد ، صورة أبيها الذي حرم أبناءه من الحنان ، وآثر عليهم طيوره . وفي الربط ما بين طيور الستارة وطيور الأب تتجسد صور القساوة والظلم ، فتسترجع أيام طفولتها الضائعة وحريتها المهدورة على يدي الأب (تضيع عيناها في طيران الطيور المهاجرة المسمرة على الستارة ترى فيها أباها . ص / 85 ) .

ثمة متابعة لمشهد عابر وهامشي آخر استلفت عناية الرواة ، وظل يتكرر ما بين المشاهد والأحداث متحولاً إلى ما يُشبه الرمز ألا وهو مشهد العنكبوت التي تسللت إلى عتمة البيت كما تسللت إليه من قبل الكوارث من دون استئذان . وعلى عكس قيمة المشهد الصورية العابرة يتعامل الرواة مع قيمته الرمزية بعناية بالغة ، ويضعونه موضع الند في مواجهة مشهد حربي صاخب ومحتدم وخطير يهدد حياة كل من في البيت ، فبعد هدوء هجمة مباغته للدبابات وللمسلحين على المنطقة ، وسكوت الأسلحة النارية ، إنتقل الصراع من عالم البشر إلى عالم مواز آخر لا يقل عنه وحشية ، بيد أن وحشيته لا تتبدى إلا لأعين الرواة (جاءت حشرة عنكبوت ، وأخذت تجول قرب جثة الذبابة التي تخلى عنها النمل ، تتفحصها ، وهي أيضاً تعافها ، تقوم بجولة في الغرفة ، ثم تعود وتذهب نحو النافذة ، تتعلق بالستارة ، تتسلقها ، وتتسكع حول الطيور المهاجرة المرسومة في سماء صفراء وزرقاء . تغادر هذه السماء ، وتقفز إلى السقف لتتوارى على طول امتداد الروافد التالفة لتنسج فيها نسيجها دون شك . ص / 54 )  ، والعنكبوت لم تظهر هنا لتنفرد في صناعة فضاء الرمز ، بل لتتضافر مع رمز الستارة في صناعته ، ولتستأثر منها بالطيور المهاجرة في جمع ما بين رمزين متناقضين : ألعنكبوت التي جاءت من المجهول لتستحوذ على  المعلوم ، في مقابل الطيور المهاجرة التي جاءت من المعلوم متوجهة نحو المجهول ، ,أن مجيء الرمز بهذه الصيغة المركبة بعد هجمة الدبابات والمسلحين على المنطقة يقدم صورة موحية للصراع موازية للواقع الحربي على الأرض . ولعل جمع العنكبوت والذبابة والنمل والطيور في المشهد لم يكن عفوياً ، بل هو من أجل إبراز وتكثيف الصورة الرمزية لعناصر الصراع الحربي على الأرض .

ولا بد من الإشارة إلى أن الرواة لا يكتفون من متابعة حركة (العنكبوت / الحشرة ) وربطها بحركة (العنكبوت / الرمز ) بهذا المشهد فحسب ، بل يعودون لمتابعة تطوراته بعد أن أصبحت العنكبوت شخصية سردية لها دور رمزي في الأحداث . فبعد المشهد السابق تعود العنكبوت في مشهد آخر تستكمل خلاله الدور المناط بها سردياً ، منفردة لوحدها عن أجناس الحشرات والحيوانات الأخرى التي رافقتها في المشهد السابق لتنضم في دور مشترك إلى جانب الجنس الأرقى (تظهر العنكبوت ثانية في السقف متدلية من طرف خيوطها الحريرية ، تنزل على مهل ، تهبط على صدر الرجل ، وبعد بضع لحظات من التردد تتابع الخطوط المتعرجة للشرشف التي تقودها نحو لحيته ، ثمّ تعود أدراجها بحذر ، وتندسّ بين طيات القماش . ص / 56 ) . وإن كانت الستارة والعنكبوت قد أدتا صورياً ورمزياً أكثر من وظيفة ، فإن مشهداً هامشياً وعابراً آخر تكرر عدة مرات ، بالرغم من أن وظيفته لم تكن مستقلة بذاتها ، بل هي جزء من وظائف المرأة ، ألا وهو مشهد إسقاط قطرات العين من قبل المرأة عدة مرات يومياً في عين الرجل ، وقد تكرر المشهد بدون إضافات ولا تغييرات (تتناول المرأة قارورة قطرة العين ، وتقطر بضع قطرات في العين ، قطرة ، قطرتان ، قطرة ، قطرتان . ص / 37 ) مع ملاحظة أن فصل مفردة القطرة عن القطرتين ، وتكرار المفردتين تعاقبياً هو محاولة لتجسيد إيقاع صوت سقوط القطرة لغوياً داخل محجر العين ، ولعل دلالة تكرار مشهد التقطير وتلمس صوت السقوط هو محاولة للتدليل على إيقاعية الحياة الرتيبة التي تعيشها المرأة في حياة ليس فيها شيء من مقومات التواصل والتغيير . وإذا كانت هذه الإيقاعية ذات طبيعة زمنية لتصوير وحدات الصوت لغوياً فهناك إيقاعية من نمط آخر ذات طبيعة صورية تشكلت من تناغم مشهدين : الأول من داخل الرواية تعبر عنه المرأة بتفريطها لطبقات البصل ، والثاني من خارج الرواية ومتضمن فيها تمثله (قصة الملك ) ولعل التناغم في المشهدين يكمن في العلاقة الصورية ما بين طبقات بقلة البصل المفرّطة من جهة ، وما بين طبقتي القص – قصة داخل قصة ، والتي تخضع بدورها أيضاً للتفريط والتفكيك (ص / 125 ) من جهة أخرى ، فالقصة الإطار هي مثل بقلة البصل مكونة من شرائح وطبقات تمثل القصة الفرعية المضمّنة إحداها ، وتلك الأخيرة ليست – كما قد تُوهم – من طبقة أو شريحة واحدة ، فهي – على بساطتها الفولكلورية – مركبة من عدة طبقات سردية ، وقد تُركت منها الطبقة الأخيرة (الخاتمة ) مفتوحة أمام الشخصيتين المعنيتين بسردها (المرأة ووالد الزوج ) يقترحها كل واحد منهما حسب قناعته ويضيفانها إلى النص الشفاهي المروي من خارجه ، وقد اقترحا عدة صيغ لملء فراغ الخاتمة ، واستخلصا من كل ما وضعاه حلولاً نظرية معتبرة لمعالجة تقنيات بناء النهايات بما يتوافق مع منطق السرد ، وبذلك يكون الكاتب قد وظف إيقاعية المشهد الصورية من أجل تقديم رؤية نظرية لقضية سردية مهمة .

ولعلنا نكتفي من العناصر الهامشية المفعّلة بالنماذج السابقة بالرغم من أن عدسة الكاميرا ما زالت تلتقط كل ما يواجهها وهي تتابع سير الأحداث وتكاملها .

أما بالنسبة للراوي ، فصوته في الرواية مميز واستثنائي ، فهو لا يعبر عن نفسه بصيغة المفرد ، بل بصيغة الجمع:

–           (نسمعها تعدّ شيئاً للفطور . ص / 45 )

–           (نسمعها تدندن دائماً . ص / 58)

–           (نسمع أغنية الجارة العجوز من جدبد . ص / 64 )

–           (تبتعدان ، تجتازان الأنقاض ، ولم نعد نسمعهما . ص / 70 )

–           (لا نعرف إن كان ذلك من أجل تقديم تشويق لحكايتها . ص / 88 )

–           (لم نسمع في البداية سوى الصمت ، ومن ثم شيئاً فشيئاً نسمع وشوشات . ص / 152 )

–           (نلمح هذا الخوف في نظرها . ص / 160 )

–           (وفجأة نسمع طقطقة باب عنيفة . ص / 164 )

ومن الواضح من تلك العينات الخطابية أن الرواة يتلقون الأحداث عبر الحواس ، وتحديداً عبر حاستي السمع والبصر ، فليس هناك من حدث فوق حسي يُتلقى عبر القدرات ما وراء الطبيعية كما هو عليه الحال في السرد التقليدي . وبذلك تكون الأحداث أشبه بشريط سينمائي أو عرض مسرحي تُعرض على مجموعة من المشاهدين الذين يُطلب منهم نقل ما يُشاهدونه ويسمعونه ، وبإداء مهمة النقل والتعقيب يكون المشاهدون قد استبدلوا مواقعهم وأدوارهم ليتحولوا إلى رواة . ولكن هؤلاء الرواة محكومون بشروط الظاهر ، فأقصى ما يُسمح لهم التصرف به من المشهد المعروض أمامهم هو وصفه والتعقيب عليه واختيار التشبيهات الملائمة لوحداته ، وعدا ذلك فليس من حق الرواة التوغل إلى اعمق من السطح . والرواة لا يتحرجون الإعلان عن قدراتهم السردية المحدودة ، والمحددة ب (السماع والرؤية ) وعن عجزهم في تطوير وتجاوز تلك القدرات ، ففي حديث للمرأة مع الصبي الذي تمارس معه الجنس في رواق البيت ينقل الرواة ما يسمعونه من ذلك الحديث ، ولكن حين يتكلمان بصوت هامس ، يعلن الرواة صراحة عن عجزهم في تلقيه (يتجه الصبي نحو الرواق ، تلحق المرأة به ، يتهامسان بكلمات غير مفهومة ، ويتسللان إلى واحدة من الغرف . ص / 151 ) ولعل أبلغ صورة لعجز الرواة عن اختراق حدود المهموس ، عندما تعوّض المرأة عن ذلك العجز بإماطتها اللثام عنه بنفسها ، معفية بذلك الرواة من إداء مسؤولية أكبر من قدراتهم ، ومانحة نفسها حق ممارسة تلك المسؤولية ، فإذا بها تكشف بأن الحديث الذي أسرّه الصبي إليها هو شكاية من قائد مسلح يستبقيه تحت إمرته لملذاته (إنه يحتفظ بهذا الصبي البائس الصغير من أجل ملذاته الخاصة . ص / 165 ) . وفي صورة أخرى من صور الطاقات المحدودة للرواة ، وعجزهم عن اختراق محددات الحواس يدخل شخص مجهول إلى فناء بيت المرأة ، فيجد الرواة أنهم عاجزون عن تحديد هويته ، بالرغم من أنه ليس غريباً عن سابق الأحداث . ولا يقتصر عجز الرواة عن تحديد هوية الشخص ، بل أيضاً عن تحديد طبيعة الأعمال التي أداها في فناء البيت ، وكل ما تيسر لهم معرفته منها هو تخمينات مبنية على ما تناهى إلى أسماعهم من أصوات نجمت عن تلك الأعمال (طقطقات من الخشب ، جلبة حجر يتصادم مكتسحاً جدران البيت . ص / 159 ) بل أن عجز الرواة عن تحديد طبيعة مهمة الدخيل يدفعهم إلى سوء الظن به (ربما كان منشغلاً بالسرقة أو التهديم أو البناء . ص / 159 ) . ثم تأتي الفرصة ليضع الدخيل نفسه حداً لعجز الرواة عن تحديد هويته ، والوظيفة التي أداها في عتمة الفناء ، فإذا هو الصبي الذي يأتي لمضاجعة المرأة ، جاء ليصلح باب بيتها (ص / 163 ) . وتتكرر حالة مجيء الصبي خلسة إلى بيت المرأة ، مع عجز الرواة عن تحديد شخصيته فهو يأتي في الوقت الذي تختل فيه كفاءة الطاقات الحسية الطبيعية عن إداء مهمتها (عند طلوع النهار يطرق شخص ما الباب ، ثم يفتحه ويدخل الفناء ، يتجه مباشرة نحو باب مدخل الرواق ، يضع شيئاً على الأرض ، ويرحل . ص / 172 ) وفي حين لم يستفد الرواة من نتائج دروس التشخيص السابقة في تحديد هوية الدخيل ، تنجح المرأة في استلهام تلك النتائج ، وتحــــــدد شخصيـــــــة الدخـــــيل (إنه هو الصبي . ص / 172 ) .

وتأتي النهاية الفنطازية ، وغير المتوقعة عندما تتطابق الأسطورة مع الواقع : أسطورة الحجر مع واقع الجسد الميت . فكما يمتص حجر الصبر في الأسطورة الأسرار من فم من يسرّ إليه ، حتى إذا ما امتلأ أسراراً انفجر . كذلك حال جسد الرجل الميت أو نصف الميت ، فبعد أن أشبعته المرأة اسراراً تفاجأت بأن أسرارها قد جاءت بالنتيجة المرتجاة وأحيت الرجل من ميتته من أجل أن  تميته (أو تفجّره ) . لقد صدقت الأسطورة في كل ما قالته باستثناء شيء واحد لم تصدق به ، أو أنها تكتمت عليه ، وهو أن الإنفجار / الموت لن يشمل هذه المرة الحجر / الرجل وحده ، لأن ميتة مشتركة ستكون بانتظار كل من الحجر ومن يسرّ إليه . فهاهو الرجل (حجر الصبر ) ينتفض حياً من ميتته ويهجم على المرأة ليقتلها خنقاً ، وبالمقابل هاهي  ترد عليه لتقتله بطعنة خنجر لا تنز عنها قطرة دم واحدة .

(1)        حجر الصبر – عاتك رحيمي – ترجمة / كامل عويد العامري – دار المأمون للترجمة والنشر – بغداد – 2013

(2)        السرد في مشغل النقد – الإبداع ناظراً ، الإبداع منظوراً / شكيب كاظم – فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة / عمان – الأردن

(3)        وليم كولدنك – نوبل 1983 عن روايته (أمير الذباب

(4)        ألمكان الضيق – وليـــــم كولدنك – ترجمة وليد نايف – دار الشؤون الثقــافية العــامة – بغــداد – 1996.